أدت التطورات الأخيرة الناجمة عن انتشار جائحة "كوفيد-19"، إلى انتقال كامل ومفاجئ على غير المتوقع إلى التعليم عبر الإنترنت في جميع أنحاء العالم. وقد أثبتت أنظمة إدارة التعلم على شبكة الإنترنت "LMS" (مثل "بلاك بورد" BlackBoard و"مودل" Moodle) وأنظمة البث (مثل "ويب إكس" Webex و"غو تو ويبينار" GoToWebinar) أن البنية التحتية التقنية حاضرة أساساً. وهذا ينطبق على أنظمة التعليم العالي التي لا تتطلب تفاعلات مادية ثلاثية الأبعاد بين البشر والمعدات أو المواد.
مع ذلك، وقبل هذا الانتقال الضروري، كان هناك نمو هائل في التعليم عبر الإنترنت، تقوده أهم المؤسسات الأكاديمية (مثل مبادرة المحتوى التعليمي المفتوح "OpenCourseWare" في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، والدورات التعليمية الشاملة المفتوحة "MOOC" لدى جامعة هارفارد) والمنصات التعليمية على الإنترنت، مثل "كورسيرا" (Coursera) و"إيد إكس" (edX) و"يوديمي" (Udemy)، مع إتاحة الدورات التعليمية الشاملة المفتوحة بصورة مجانية، على شكل محاضرات أو حتى برامج شهادات (دبلوم) كاملة. وقد وصل عدد المشتركين في هذه البرامج التعليمية عبر الإنترنت بالفعل إلى عشرات الملايين حول العالم، وقد يصل إلى مئات الملايين في الأعوام العشرة المقبلة.
كما يحتمل أن تنضم شركات العصر الرقمي الرائدة إلى المجال بعروض ثورية قوية. فكثير من عمالقة التقنية الأميركية، ومنها "أمازون" و"آبل" و"فيسبوك" و"جوجل" و"آي بي إم" و"مايكروسوفت"، تقدم بالفعل منصات لتيسير التعلم. ويمكن أن تبدأ شركة "فيسبوك" مباشرة بتقديم عروض للتعليم القائم على الواقع الافتراضي، يشمل الاختصاصات التي تتطلب تفاعلات مع العالم المادي. إذ إنها طرحت بالفعل دروساً تعليمية في التسويق الرقمي على منصة "فيسبوك بلوبرنت" (Facebook Blueprint) باستخدام أنظمة الواقع الافتراضي "أوكيولوس" (Oculus). وفي الصين، طرحت العملاقة "علي بابا"، والتي تساوي شركتي "أمازون" و"إيباي" معاً، خدمة "تونغشوه" (Tongxue) (تعني زميل الدراسة)، وهي عبارة عن سوق إلكتروني للدروس التعليمية على الإنترنت يقع تحت مظلة سوق "تاوباو" (Taobao) الإلكتروني. يمكن لهذه الشركات العملاقة التشارك مع المؤسسات التعليمية أو بوابات الإنترنت من أجل إنشاء عروض تعليمية دولية لا تضاهى، ما قد يؤدي إلى الدمار الكامل لمعظم الجامعات التقليدية في العالم.
التعليم عبر الإنترنت له مزاياه وعيوبه، وأهم مزاياه من الناحية المالية هي أنه يتضمن بعضاً من وظائف المدرس الأساسية، ويمكنه تضخيمها ومضاعفتها وإيصالها رقمياً بأقل التكاليف. وإذا تم تصميمه وإيصاله على مستوى ملائم من الكفاءة، فسيكون بنفس درجة فعالية التدريس التقليدي أو أفضل.
أستاذ الجامعة اليوم هو مدرس وباحث يتوصل إلى المعارف الجديدة، أي أنه يعمل على إنشاء المحتوى وإيصاله وتقييمه، كما أنه قدوة ومعلم تقني ومستشار أكاديمي ومدرب، ويساعد في بناء العلاقات الاجتماعية ويقدم الدعم المعنوي. وبكل تأكيد، يمكن أن يحل التعليم عبر الإنترنت محل الأدوار الثلاثة الأولى للأستاذ الجامعي، كلياً أو جزئياً، أي إنشاء المحتوى وإيصاله وتقييمه، وهي من أكثر الأعمال استهلاكاً للوقت. وعلى الرغم من أن إنشاء المحتوى التعليمي الرقمي على الإنترنت يتطلب عملاً كثيراً، إلا أنه سيؤتي ثماره على المدى الطويل بفضل الوقت الذي سيوفره للأستاذ فيما بعد.
تستمر رسوم التعليم الجامعي في التزايد، وليس من الممكن تحقيق تخفيض كبير على التكاليف التشغيلية للجامعات ما دام العمل مستمراً باتباع النموذج التقليدي الحالي. وكي يكون التعليم على الإنترنت صالحاً من الناحية المالية على المدى الطويل، يجب أن نعمل على التخطيط واتباع نموذج عمل حديث ومبتكر لكي نتمكن من تحقيق تخفيضات كبيرة على التكاليف التشغيلية. وسيكون التعاون بين جميع المساهمين المشاركين في تطوير التعليم عبر الإنترنت وإيصاله مفيداً جداً في تحقيق جودة عالية بتكاليف معقولة. بالإضافة إلى أن التعليم عبر الإنترنت سيكون من أهم الطرق الفعالة لاستدامة قطاع التعليم العالي في القرن الواحد والعشرين، وتجنب الانهيار المحتمل الذي يمكن أن يشهده.
في المقام الأول، يجب أن يتمتع التعليم المطور والمقدم عبر الإنترنت بمستوى جودة أعلى من جميع أشكال التعليم المتوفرة في السوق العالمي، علماً أن التعليم عبر الإنترنت يواجه مشكلة كبيرة في قدرته على استبقاء الطلاب. لذا، من الضروري أن يكون المحتوى وتجربة التعلم الكلية على مستوى عال من الجودة، من أجل تمكين توزيع التكليفات على الطلاب وتخفيض نسب التسرب العالية التي يشتهر بها التعليم عبر الإنترنت. فإنشاء فرص التعلم التي لا تضم سوى تسجيلات فيديو للمحاضرات مع استعراض الصور والشرائح التوضيحية لن يكون فعالاً على المدى الطويل، وهذا تحديداً ما تفعله معظم الجامعات التي تنتقل إلى التعليم عبر الإنترنت. لا شك أن العروض التقديمية (المرئية والصوتية) مطلوبة ويجب أن تكون من ضمن المحتوى، بيد أن هناك خيارات أخرى لا تحصى. فالصور المتحركة التفاعلية ومحاكاة البرمجيات بالإضافة إلى الواقع الافتراضي (VR)، وغيرها من الوسائط، قادرة على تقديم تجارب حسية حركية تساعد على تفاعل المتعلمين وتحفيزهم.
كما يتمتع التعليم عبر الإنترنت بأبعاد أخرى عديدة. مثلاً، يجب أن تكون واجهة المستخدم في المنصة الإلكترونية للتعليم بسيطة وسهلة الاستخدام بدرجة كبيرة، كي تتيح للمتعلمين الدخول والمباشرة بالتعلم خلال بضع ثوان، وبخطوات بسيطة لا تتجاوز خطوتين أو ثلاث كحد أقصى. ويمكن أن يكون المتحدث في التسجيل الصوتي شخصاً محترفاً من الناطقين باللغة الأصلية. ويجب أن يكتب أخصائيون لغويون نصوص المحاضرات وينقحوها بدقة قبل إدراجها في المحتوى المقدم، وليس بالضرورة أن يكونوا من ضمن هيئة التدريس. ويجب أن يقوم منتجون على مستوى رفيع بتحضير مقاطع الفيديو والنماذج التفاعلية والرسومات والمحاكاة وغيرها من المحتوى التفاعلي، بواسطة أفضل الأدوات البرمجية والنماذج. وسيكون بالإمكان تخفيض تكاليف التعليم عبر الإنترنت إذا تمت الاستعانة بقاعدة بيانات الموردين الموثوقين وبرامجهم الدراسية النموذجية، بدلاً من تطوير هذه البرامج الدراسية داخلياً على نحو مخصص وبتكلفة عالية.
لن يكون التعليم الجامعي الجديد محصوراً بأساتذة ومساعدين يعلّمون الطلاب ويوجهونهم، بل سيشكل أيضاً مكاناً يتفاعل فيه الأساتذة والمساعدون والمستشارون مع الطلاب ضمن محتوى مكثف وجذاب، يعدّه جيش من موظفي الإنتاج الإعلامي الداخلي بالتعاون مع مدراء المشاريع المحترفين. كما ستستخدم أساليب إدارة المشاريع وأدواتها في متابعة تقدم الطلاب وإدارة جميع المشاريع المتعلقة بتطوير المحتوى الرقمي. ويمكن أن يشارك الطلاب أنفسهم في توليد المحتوى، من خلال نماذج التعلم التعاوني المتنوعة. وسيعمل المحللون وعلماء البيانات الذين يعملون في المؤسسات التعليمية التي تقدم خدمتها عبر الإنترنت باستمرار على تحليل الكميات الكبيرة من البيانات التي تتولد ضمن منصات التعلم الرقمي وبرمجيات إدارة المشاريع، وسيقترحون بناء على هذه التحليلات خططاً للعمل تهدف إلى تدعيم حلقات التقييم الإيجابية المعززة ذاتياً. عندئذ، يصبح بإمكان الأساتذة الذين تحرروا من مهمات إلقاء المحاضرات المكررة إجراء بحث دائم عن المحتوى عالي الجودة من جهات خارجية ودمجه ضمن موادهم الدراسية؛ وتخصيص وقت أكبر للأبحاث، التي قد تساهم في بناء محتوى موادهم التي يدرّسونها وتطوير التقنية واحتضان الشركات الناشئة؛ بالإضافة إلى تخصيص وقت أكبر لتطوير أنفسهم وإتقان المواضيع والأساليب والأدوات الجديدة كي يتمكنوا أيضاً من إدراجها في المحتوى.
أخيراً، يجب ألا ننسى أن عدد سكان العالم في تزايد مستمر، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأن الشباب العاطل عن العمل في هذه المناطق وغيرها يفتقدون المهارات والخبرات الضرورية في هذا العالم الرقمي النشط. لذا، يجب أن يتمثل الهدف في سد الفجوة وإدخال هؤلاء الشباب في النظام الاقتصادي الجديد، وإتاحة الفرص لمساهماتهم المهمة في تحقيق نمو مستدام لأنظمتهم الاقتصادية المحلية والإقليمية، بل وإنشاء اقتصاد عالمي مستدام أيضاً.