الإرشاد الذي يركز على مواطن القوة من شأنه أن يُضعفك

6 دقائق
الإرشاد الذي يركز على مواطن القوة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

كان الحماس طاغياً، في العقد الماضي، تجاه فكرة أن الأنشطة المتعلقة بالتغيير السلوكي تكون أكثر فاعلية عندما ينحصر تركيزها على مواطن القوة الكامنة لدى الأشخاص، في مقابل معالجة مواطن الضعف لديهم كذلك. وينطبق هذا بصفة خاصة على برامج تطوير القدرات القيادية وتطوير الموظفين، التي تحظى فيها مواطن القوة بنوع من المتابعة الحثيثة من قِبل موظفي الموارد البشرية وإدارة المواهب. فماذا عن الإرشاد الذي يركز على مواطن القوة لدى الموظفين؟

اقرأ أيضاً: إكساب المدراء مهارة التدريب التوجيهي للموظفين

يُسفر إجراء بحث عن “التوجيه المتعلق بمواطن القوة” على محرك البحث “جوجل” Google عن أكثر من 45 مليون نتيجة بحث. وتقدم نتائج البحث الأولى خدمات ذات صلة بالموضوع، إلا أنه لا توجد نتيجة من هذه النتائج، في واقع الأمر، تشكك في فكرة التوجيه (Coaching) المتعلق بمواطن القوة. ويباع على موقع شركة “أمازون” Amazon حوالي 8 آلاف كتاب حول هذا الموضوع، بما في ذلك العديد من الكتب الأكثر مبيعاً التي تنشرها شركة “غالوب” (Gallup) للاستشارات والتحليلات التي يستخدِم كتابها “اكتشف مواطن قوتك” (StrengthsFinder)، في الوقت الحالي، 1.6 مليون موظف سنوياً و467 شركة من الشركات المدرجة في قائمة مجلة “فورتشن” لأكبر 500 شركة في الولايات المتحدة. وقد أضحت عبارة “نقطة ضعف” مصطلحاً غير لبِق في أوساط الموارد البشرية السائدة، التي يشار فيها إلى الأشخاص على أنهم يمتلكون مواطن قوة و”فرص” أو “تحديات”، وليس نقاط ضعف. بل إن بعض الشركات تعتزم إلغاء الملاحظات السلبية.

الإرشاد الذي يركز على مواطن القوة

ورغم عدم وجود أسباب لتوقّع تلاشي الانبهار بمواطن القوة في المستقبل القريب، إلا أن المؤسسات والأفراد سيكونون أفضل حالاً لو أنه تلاشى. وتوجد خمسة أسباب، على الأقل، للتشكيك في نهج تطوير القدرات القيادية الذي يركز على مواطن القوة فحسب، كما يلي:

1) لا توجد أدلة علمية على أن هذا النهج يجدي نفعاً

فرغم الاعتقاد الشائع بنجاعة نهج الإدارة المستند إلى مواطن القوة، فإنه لا يرتكز على أساس علمي. ولم أجد دراسات علمية (أبحاث مستقلة منشورة في مجلات أكاديمية محكّمة) تدعم فكرة أن أنشطة تطوير القدرات القيادية لدى الأشخاص تكون أكثر نجاحاً إذا كانت تتجاهل أوجه القصور لديهم أو لا تقدم إليهم ملاحظات سلبية.

وبطبيعة الحال، لا يعني عدم توفر دليل على صحة أمر ما، بالضرورة، دليلاً على عدم صحته، إلا أن المسلّمات الرئيسية للنهج المستند إلى مواطن القوة تتعارض مع النتائج الراسخة التي توصلت إليها الأبحاث الأكاديمية. على سبيل المثال، تبيّن الأدلة المستقاة من التحليلات الاستخلاصية أن الملاحظات السلبية وانخفاض التقديرات الذاتية للقدرات من شأنهما بالفعل تحسين الأداء. وعلاوة على ذلك، غالباً ما يتحسن القادة ذوو الأداء الرفيع عن طريق اكتساب مواطن قوة جديدة وليس بتحسين مواطن القوة الموجودة لديهم فحسب.

اقرأ أيضاً: أسباب نجاح الإرشاد العكسي والأسلوب الصحيح لتنفيذه

وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن الرواد في استخدام النهج المستند إلى مواطن القوة قالوا إن برامج التطوير والتدريب التقليدية، التي لا تركز على مواطن القوة، مصيرها الفشل، إلا أن التحليلات الاستخلاصية العلمية تُبيّن أن هذه الأساليب التقليدية، بالأحرى، فعالة في واقع الأمر. إذ إن من شأن التدخلات النفسية وجلسات إبداء الملاحظات وتوجيه المسؤولين التنفيذيين تحسين نتائج العمل المتوخاة، مثل الأداء الوظيفي، بانحراف معياري يبلغ نصف درجة. ويعني هذا أن 70% من الأفراد في مجموعة ضبط لم يتلقوا أي ملاحظات أو توجيه سيكون أداؤهم أقل من معدل المجموعة التي تلقت الملاحظات والتوجيه. وبالسؤال عن كيف يقارَن هذا بالتدخل المستند إلى مواطن القوة، على وجه التحديد؟ فإن الإجابة هي أننا، ببساطة، لا نعلم حتى الآن، فلم أجد، حتى يومنا هذا، دراسات مستقلة محكّمة تقدم أدلة على هذا الأمر. (وإذا كنت تعلم بأمر أي دراسة في هذا الصدد، أرجو وضعها في قسم التعليقات بالأسفل).

2) يمنحك هذا النهج إحساساً زائفاً بالكفاءة

فيساعد النهج المستند إلى مواطن القوة لدى الأفراد في تحديد مواطن القوة لديهم (مثل القدرات الأساسية أو المواهب أو المهارات الوظيفية). وهو هدف نبيل، لأن الأشخاص، بشكل عام، لا يدركون قدراتهم ولا يستطيعون تقييم أدائهم.

لكنّ هذا النهج يحاول القيام بذلك بمقارنة مواطن القوة لدى الشخص ببعضها البعض مقابل مجموعة معيارية أو مقياس مرجعي لإحدى الفئات. وبالتالي، فإن أفضل مواطن القوة لديك يمكن أن تعني أنك متميز بأتم معنى الكلمة في إظهار هذه الميزات، لأنك تتمتع بها على نحو أكبر بكثير من الأشخاص الآخرين، أو أنك أسوأ فحسب في جميع مواطن القوة الأخرى لديك. لنفترض، على سبيل المثال، أنني شخص كسول، لكني أتصف بالأنانية وضيق الأفق والغباء أكثر من الكسل، فهل سيجعلني ذلك مجتهداً؟

وينبغي أن تأخذ أي محاولة جادة لقياس الموهبة في الاعتبار “الوضع الحالي للفرد” وفقاً للأبعاد الرئيسية للموهبة. وتعجز الملاحظات غير المعيارية عن ذلك. ولهذا، إلى جانب أنها غير دقيقة، فإنها أيضاً لا أخلاقية، فهي تُعادل إخبار كل شخص أنه رائع على طريقته الخاصة، ومن شأنها إيهام الشخص بامتلاكه القدرة، حتى بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يمتلكونها، ونظراً لأن معظم الأشخاص يمتلكون مفهوماً مضخماً عن الذات (لا سيما القادة الذين غالباً ما يكونون أكثر نرجسية من المعدل الطبيعي)، فعلى الأرجح أن الملاحظات المستندة إلى مواطن القوة ستعزز فحسب نظرة الأشخاص المغرورة إلى أنفسهم. وفضلاً عن ذلك، ينبغي لأي عمل جاد حيال تطوير المهارات دراسة قدرات الشخص في إطار المؤسسة. وهذا يعني أن كل صفة من الصفات ينبغي اعتبارها من مواطن القوة إذا كانت تتوافق، ليس مع وظيفة الشخص أو الدور الذي يؤديه فحسب، بل أيضاً مع أهداف المؤسسة أو إطار الكفاءات. ويُفرط النهج المستند إلى مواطن القوة في التركيز على الفرد بمعزل عن هذا السياق.

3) يؤدي النهج المستند إلى مواطن القوة إلى إهدار الموارد على الموظفين العاديين والموظفين ذوي الأداء الضعيف

فتفترض الأساليب المستندة إلى مواطن القوة أن الموظفين كلهم يستحقون التطوير، لأن كل شخص يتحلى بالموهبة على طريقته الخاصة. على سبيل المثال، تشير شركة “غالوب”، وهي إحدى الشركات الرائدة في السوق، على موقعها الإلكتروني، إلى أنّ “جميع الموظفين يمتلكون مواطن قوة، تتمثل في مزيج من المواهب والمعرفة والمهارات والممارسة التي تساعدهم في القيام بالأمور التي يبرعون في القيام بها على نحو يومي، وتوفر مواطن القوة هذه للموظفين والشركات أكبر الفرص لتحقيق النجاح”. ومن السهل فهم شعبية هذه الفكرة، لا سيما بين الأشخاص الذين يقومون بالأنشطة التطويرية، (إذ إنها توسع نطاق قاعدة الزبائن المحتملين).

اقرأ أيضاً: أربعة أسباب تدفع المدراء لتخصيص وقت أكبر لإرشاد الموظفين

إلا أنه نظراً إلى أن الموظفين ذوي الأداء الرفيع أكثر أهمية بكثير من الموظفين الآخرين، فإن الشركات ستحقق أعلى عائد على الاستثمار من البرامج التدريبية إذا ركزت في توظيف مواردها المستخدمة في الأنشطة التطويرية على الأشخاص أصحاب الأداء الرفيع وأصحاب الإمكانات العالية، أو أن هذه الشركات لديها موظفون يساهمون، أو لديهم القدرة على المساهمة، في تحقيق معظم نتائج الشركة. وهذا يعني التركيز على 20% من الأشخاص الذين تقع على عاتقهم مسؤولية تحقيق 80% من الإيرادات والأرباح أو الإنتاجية (حسبما ينص مبدأ باريتو (Pareto)، وليس التركيز على الموظفين جميعاً في المؤسسة، كما يفترض في الغالب نهج التطوير المستند إلى مواطن القوة.

4) الإفراط في استخدام مواطن القوة أصبح سيئاً للغاية

الاعتدال أفضل في كل شيء، باستثناء الاعتدال نفسه، والنموذج العلمي الذي تنبثق منه هذه المقولة هو تأثير “الإفراط في القيام بالأمور المرغوبة”، الذي يشير إلى أنه حتى الصفات الإيجابية ستغدو سيئة إذا أفرط الأشخاص في استخدامها أو إظهارها بصورة زائدة، على سبيل المثال، يتحول الوعي بالتفاصيل والاهتمام بها إلى طلب الكمال والهوس غير المجديين، وتصبح الثقة ثقة عمياء وتعجرفاً، ويتحول الطموح إلى جشع، والتخيل إلى خروج شاذ عن المألوف.

وتُبيّن الأبحاث أن القادة، بشكل عام، لا يُدركون ماهية سلوكياتهم السيئة، وأنه يوجد ما يكفي من القادة الأكفاء، وهم الأشخاص الذين يتمتعون بمواطن قوة جلية، ولكنهم يتعثرون بسبب عدم قدرتهم على الحد من توجهاتهم السيئة. على سبيل المثال، تشير بعض التقديرات إلى أن 40% من الشركات المدرجة في قائمة “فورتشن” لأكبر 100 شركة تخوض في أنشطة غير لائقة ومناوئة للمجتمع أو أنشطة غير أخلاقية تبلغ من السوء درجة أن تكتب عنها وسائل الإعلام. كما أنه ما من أحد سيقول إن أشخاصاً مثل بيرني مادوف وسيب بلاتر ودونالد ترمب أو كرستينا كيرشنر لا يتميزون بأي مواطن قوة، بيد أن نقاط الضعف لديهم هي التي تسبب لهم المتاعب، ونقاط الضعف غالباً ما تكون هي مواطن القوة التي أفرطوا في استخدامها.

5) النهج المستند إلى مواطن القوة لا يعالج المشكلات الحقيقية الشائعة في أماكن العمل

مثل معظم المؤلفات في مجال تطوير القدرات القيادية، التي طغى عليها قطاع مساعدة الذات، ينضح النهج المستند إلى مواطن القوة بدرجة من التفاؤل يتعذر تفسيرها. واقع الحال ليس مشرقاً للغاية، وهو ما لخّصه جيفري فيفر، الأستاذ بجامعة ستانفورد (Stanford)، في كتابه الصادر حديثاً بقوله: “أماكن العمل في الولايات المتحدة وفي شتى أنحاء العالم، في أغلبيتها (إذ توجد بطبيعة الحال أماكن عمل مميزة في قائمة أفضل الأماكن للعمل فيها)، زاخرة بالموظفين المستائين وغير المندمجين، الذين لا يثقون بقادتهم. والقادة على جميع المستويات يفقدون وظائفهم بوتيرة متسارعة بشكل متزايد (…)، وقد فشل قطاع تطوير القدرات القيادية، وما يزال فشله متواصلاً، في مهمته المتمثلة في صناعة قادة فعالين وناجحين، بل إنه فشل في صناعة مواهب جديدة بالقدر الكافي لسد النقص في القيادات”. ولذا، يبدو من الغريب بعض الشيء، بل ومن اللامبالاة فكرياً، تجاهل قدراتنا المحدودة وأوجه القصور لدينا، وكما يشير فولتير كانديد، “لا يوجد الكثير الذي يمكن الخروج به من التعنّت في الزعم بأن كل شيء في أفضل حال عندما يكون في أسوأ حال”.

فلا يمكننا حل المشكلات الجسيمة التي تواجهنا في مجال القيادة بالتمني أو عبر الإرشاد الذي يركز على مواطن القوة لدى الموظفين. ويمكن أن تكون الأنشطة المستندة إلى مواطن القوة ذات جدوى إذا كان الهدف منها مساعدة الأشخاص في “تحقيق الذات” أو تعزيز جوانب بعينها في رفاههم. إلا أنه إذا كان التركيز على تعزيز كفاءة الأشخاص وإنتاجيتهم أو فاعليتهم، فينبغي للمدراء وصناع القرار العمل، بالأحرى، على تقليل نقاط الضعف لدى هؤلاء الأشخاص.

اقرأ أيضاً: أهمية التحدي والحزم في تعامل المرشد مع الموظفات

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .