على مدى عقود من الزمن، هيمنت بضع علامات تجارية على تجارة التجزئة في الولايات المتحدة، وبقيت أبرز الشركات في أكثر من عشر فئات ثابتة منذ عام 1923 حتى عام 1983، مثل "كوداك" في فئة الكاميرات، و"جيليت" في فئة شفرات الحلاقة.
ثم أتت شبكة الإنترنت وأتاحت للجميع استخدام الأدوات اللازمة لإنشاء الشركات وتوسيعها. وعلى مدى العقدين التاليين، ظهرت فئة جديدة من الشركات الناشئة. بدءاً من "واربي باركر" (Warby Parker) للنظارات، مروراً بـ "إيفرلين" (Everlane) للألبسة وصولاً إلى "كاسبر" للمفارش و"ذي أونست كومباني" (The Honest Company) لمستلزمات الأطفال ومستحضرات التجميل، حيث تميز هذا الجيل الأول من شركات "التعامل المباشر مع المستهلك" بسلاسل التوريد المستعارة، وبيع التجزئة عبر الإنترنت فقط، والتوزيع المباشر، والتسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى هوية مرئية خاصة للعلامات التجارية تفضل الخطوط البسيطة في الكتابة وألوان الباستيل الهادئة والشعارات القابلة للتغيير التي أمكن تكييفها بسهولة مع مجموعة من الوسائط الرقمية (فيما يسمى "الترويج المتأني للعلامة التجارية" الذي نشهد انتشاره الواسع اليوم).
كانت نهضة الشركات الناشئة التي تعمل وفق نموذج التعامل المباشر مع المستهلك مدعومة ببيئة تميزت بوفرة رؤوس الأموال المغامرة (أو ما تسمى برؤوس الأموال الجريئة) وضآلة المنافسة، والأهم هو المضاربة الإعلانية (ما يعرف باسم "الأربيتراج" arbitrage) التي كان بالإمكان استغلالها على منصات التواصل الاجتماعي ذات الأسعار المتدنية. يقول بن ليرر، الشريك الإداري في شركة "ليرر هيبو" (Lerer Hippeau) وهو من أوائل المستثمرين في شركتي "كاسبر" و"واربي باركر": "حينئذ، لم يكن صعباً نجاح شخص ذكي يصنع منتجاً دون المستوى المطلوب في السوق "الكلي المستهدف الكبير" TAM والخامل. وتحول كثير من مشاريع برامج شهادة الماجستير في إدارة الأعمال إلى شركات حقيقية".
وفي زماننا الحالي، أصبح كثير من هذه الشركات يبدو أقل قدرة على الاستمرار من ذي قبل. في الطرح العام الأولي في البورصة لشركة "كاسبر" في شهر فبراير/شباط، قدرت قيمة الشركة بنحو 600 ألف دولار أقل من قيمتها في جولتها الأخيرة لجمع الأموال من القطاع الخاص، و كتبت وكالة "كوارتز" الإخبارية عن ذلك: "كانت شركة كاسبر تعتبر شركة مليارية بالنسبة لمستثمري القطاع الخاص، أما بالنسبة للأسواق العامة فهي لا تكاد تساوي ثلث شركة مليارية". أما شركة "براندليس"، وهي شبيهة بمتاجر التعامل المباشر مع المستهلك التي تبيع السلع بدولار واحد، فقد أوقفت عملياتها وسرحت 90% من موظفيها. كما أوقفت شركة "غلوسير" (Glossier) خط مستحضرات التجميل الملونة "بلاي" (Play) بعد تدني مبيعاته إلى ما دون المستوى المطلوب، وكانت تايلر هيني، الرئيسة التنفيذية لشركة "آوتدور فويسيز" (Outdoor Voices) مجبرة على الاستقالة عندما بلغ معدل الإنفاق الشهري مليوني دولار على المبيعات السنوية التي بلغت 40 مليون دولار.
ما الذي حدث؟ لم يكن بالإمكان رؤية المشهد بوضوح ولا حتى قبل عشرة أعوام (عدا عن الخطوط البسيطة في الكتابة). وأحد الأسباب هو تدفق أعداد كبيرة من المنافسين الذين حفزهم النجاح الأولي الذي حققته بعض الشركات المميزة، وهو ما أدى إلى رفع أسعار الإعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي، والحد من المضاربة الإعلانية، وزيادة صعوبة عملية اكتساب الزبائن مع كل ذلك. يقول غاري فينرتشاك، مؤسس شركة "فينرميديا" (VaynerMedia) ورئيسها التنفيذي: "توقفت 98% من شركات التعامل المباشر مع المستهلك عن العمل، ولكنها لا تعرف ذلك بعد. فهي لا تملك أسس الاستمرار في اكتساب الزبائن بقيمة مناسبة، وستنفد أموال المشاريع في نهاية المطاف".
تعلمت الشركات التي أصبحت تعد اليوم راسخة أن الإعلانات وحملات الشخصيات المؤثرة على موقع إنستغرام تساعد على التوسع بدرجة محدودة، فهي غير قادرة على اكتساب أكثر من بضع مئات الآلاف من "أفضل العملاء الأوائل" لأي علامة تجارية. وقد أدى ذلك للانتقال إلى بيع المنتجات المادية الملموسة بالتجزئة ودفع المؤسسين للشعور بالأسى حيال ما إذا كان عليهم بيع منتجاتهم على موقع "أمازون" ومتى يجب عليهم ذلك، ما يزيد تشابه شركات العلامات التجارية ذات التعامل المباشر مع المستهلكين مع أسلافها يوماً بعد يوم. كما تسببت المنافسة بتقسيم الطلب في القطاعات الجذابة مثل أسواق أواني الطهي، حيث تتنافس علامات تجارية مثل "إيكوال بارتس" (Equal Parts) و"ميد إن" (Made In) و"ميزن" (Misen) و"غريت جونز" و"كاراوي" (Caraway) و"أور بليس" (Our Place) وغيرها لبيع الأواني الفاخرة لجيل الألفية الذي يعنى بالتصاميم. وكي تزداد الصورة تعقيداً، تمكنت العلامات التجارية الاستهلاكية التقليدية من مواكبة التطور، فأطلقت خطوط التعامل المباشر مع المستهلكين، مثل مزيل رائحة التعرق "بي أند جي نيتف ديودورانت" ( P&G’s Native Deodorant) والضمادات الطبية الأنيقة "ويلي" (Welly) التي طُرحت بشراكة حصرية مع "تارغت" عام 2019.
وفي هذه الأثناء، أصبح المستثمرون أكثر تمرساً، فمع تزايد أعداد الشركات الاستهلاكية التي تتنافس على تمويل المشاريع لتصبح أكبر من أي وقت مضى، أصبح بإمكان الممولين الاستناد إلى بيانات القطاع التي تم تجميعها على مدى عشرة أعوام عند تقييم الأداء. وإذا كان التدفق الأولي لرأس المال في المجال قد منح الأولوية للنمو على حساب الأرباح، فقد بدأت الكفة تميل الآن في الاتجاه المعاكس. وبعد خمول نشاط شركة "كاسبر" في الطرح العام الأولي في البورصة في شهر فبراير/شباط، واتخاذ لجنة التجارة الاتحادية إجراءات تدخل لمنع استحواذ شركة "إيدج ويل" (Edgewell) على شركة "هاريز" (Harry’s) لشفرات الحلاقة ذات نموذج التعامل المباشر مع المستهلك، نشهد اليوم شيئاً من تصحيح المسار مع البدء باستخدام اقتصاديات الوحدة بصورة مفاجئة. وبذلك، يحقق النمو المستدام انتصاراً.
أصبح النجاح المميز في عام 2020 أصعب بكثير مما كان عليه في عام 2010. كان نيل بلومنثال، الرئيس التنفيذي لشركة "واربي باركر"، قد نوه في صحيفة نيويورك تايمز إلى أنه: "أصبح إنشاء شركة أقل تكلفة مما مضى، على الرغم من اعتقادي أن توسيع الشركة قد أصبح أصعب من ذي قبل"، ناهيك عن التأثير الدائم الذي يخلفه كل ذلك على توقعات المستهلك. واليوم، أصبحت الأشياء التي كانت تعتبر مبتكرة عام 2010 من الأساسيات، ولم تعد التجارة الإلكترونية المقترنة بالإعلانات على إنستغرام والشعار العصري تجربة جديدة. قال بن ليرر: "كان مفهوم شركات التعامل المباشر مع المستهلك مجرد رؤية منذ عشرة أعوام مضت. وما زالت بقايا فكرة أن هذه الشركات ابتكارية عالقة في الأذهان، ولكنها ببساطة لم تعد كذلك، بل أصبح الأمر المبتكر يتعلق بطريقة عملك الآن".
تخطي حدود التعامل المباشر مع المستهلك
بالنظر إلى درجة تغير الأمور، نرى بصورة شبه مؤكدة أن ما نجح في الماضي لن ينجح في المستقبل. ويجب أن يتضمن مسارنا العودة إلى أساسيات الإدارة وتخطي حدود الدليل الإرشادي للتعامل المباشر مع المستهلك كي نتمكن من تجسيد الدروس التي تعلمناها من العقد الماضي. والتغييرات المحددة، التي يجب أن يجريها قادة شركات التعامل المباشر مع المستهلك، تتضمن المبادئ التالية:
أصبح تعدد قنوات البيع ضرورياً. بما أن أساليب التوزيع في شركات التعامل المباشر مع المستهلك أصبحت عائقاً في وجه نموها، يجب أن تنتقل الشركات التي تعتمد في عملها على المنصات الرقمية منذ تأسيسها إلى تجارة التجزئة على أرض الواقع (حتى وإن توقف نشاط متاجرها المادية بسبب أزمة فيروس كورونا الحالية). نشأت مجموعة جديدة من المفاهيم لتلبية هذه الحاجة الجديدة، وتعتبر مراكز التسوق "شوفيلدز" (Showfields) و"بولتان" (Bulletin) و"ستوري" (Story) و"نيبرهود غودز" (Neighborhood Goods) وجوهاً مختلفة لموضوع واحد، وهو احتضان مبادئ التعامل المباشر مع المستهلك وتجميعها تحت سقف واحد من دون فرض الالتزامات المتمثلة بعقود الإيجار طويلة الأجل والأبنية باهظة الثمن. وعلى الرغم من عدم وضوح مدى صلاحية هذا التجسيد الجديد لتجارة التجزئة من خلال اتفاقيات التأجير الرئيسية، فإن العديد من شركات التعامل المباشر مع المستهلك، التي انخرطت على الأقل بشيء من النشاط على أرض الواقع بعيداً عن الإنترنت، تقول إن معدلات مرتجعات مشتريات الزبائن الذين تفاعلوا مع منتجاتها الملموسة على أرض الواقع أقل منها للزبائن الذين يتفاعلون مع منتجاتها على الإنترنت. وكي تتخذ الشركة قراراً بأن تشمل استراتيجيتها في تجارة التجزئة متاجرها الخاصة أو شبكات متاجر التجزئة الوطنية أو البيع عبر متاجر "أمازون"، أو مزيج من هذه الخيارات الثلاثة، عليها أن تستند إلى قوة مجتمعها ومستوى السيطرة اللازم في رواية قصتها والحجم الذي تهدف إلى تحقيقه.
التمايز من خلال المجتمع. تنبع الميزة الفريدة لشركات التعامل المباشر مع المستهلك من قدرتها على إقامة علاقات شخصية مع المستهلكين، وجمع البيانات القيّمة التي يستحيل الحصول عليها في أساليب تجارة التجزئة التقليدية. يبدو ذلك بصورة متزايدة كعلاقة ثنائية الاتجاه يتعاون فيها أفراد المجتمع مع الشركات من أجل التشارك في إنشاء منتجات وخدمات جديدة، وهي ما تسميه مجموعة "باترن براندز" (Pattern Brands) علاقة "مباشرة مشتركة". وفي حين يبقى المجتمع عنصراً قوياً يميز هذه الشركات عن الشركات الراسخة المستمرة، يكمن التحدي الذي تواجهه الشركات العصرية، التي تتمتع بمجموعة طموحات كبيرة، في نجاحها بتوسيع تلك العلاقة الحميمية مع تخطيها حدود التعامل المباشر مع المستهلك.
توسيع هوامش الأرباح عن طريق التكامل الرأسي. قد تكون سلاسل التوريد المستعارة نافعة في البداية، لكن ليس على المدى الطويل. في حين تتنافس الشركات القديمة مع الشركات الناشئة الشرسة على التأثيرات الرقمية ذاتها، فهي تزيل المضاربة التي كانت تشكل الميزة التنافسية لشركات التعامل المباشر مع المستهلك فيما مضى. بالإضافة إلى أن شركات التعامل المباشر مع المستهلك تخسر هوامش الربح التي كانت توفرها من خلال تخفيض عدد الوسطاء، بسبب ما تدفعه في وسائل التوزيع الفردية المكلفة. ومع تزايد تكلفة اكتساب العملاء عموماً، يجب على الشركات وضع خطط للتكامل الرأسي (عن طريق إنشاء عمليات تصنيع خاصة بها بدلاً من التعاقد الخارجي مثلاً) من أجل الحفاظ على هوامش الربح والنجاح في تجاوز دورة التمويل الثانية Series B.
الاستعداد لثورة الصوت. في العقد التالي، ستعيد الواجهات الصوتية صياغة التجارة كما فعلت الإنترنت منذ 30 عاماً تماماً. وسيتم تحسين سلاسل التوريد واستراتيجيات التسويق وأنظمة الشركات الحالية لتتناسب مع الطرق القائمة على استخدام الشاشات التي نتعامل من خلالها اليوم مع الإنترنت. والشركات التي لا تفكر مسبقاً بالقفزة التالية في أنظمة المنصات ستبقى متخلفة عن الركب حتماً.
مع بدء الشركات التعامل مع هذه الاستراتيجيات، تتراجع أهمية مصطلح "التعامل المباشر مع المستهلك" يوماً بعد يوم. فقد كانت "شركات التعامل المباشر مع المستهلك" المنتج المميز في فترة معينة وتمكنت من منح بعض أوائل المنافسين دفعة قوية نحو تحقيق النجومية. لكن بيئة اليوم تشير إلى أن استمرار هذا النموذج لم يعد ممكناً، ويتطلب النجاح اليوم فهماً لكل من الأساسيات المتجددة للأعمال التجارية والطرق الثابتة التي غيّر بها نموذج التعامل المباشر مع المستهلك شكل القطاع بصورة دائمة.