السبب الحقيقي وراء تفوق الشركات الخارقة

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

على مستوى القطاعات التجارية المختلفة، وعلى مستوى دول العالم، هناك عدد صغير من “الشركات الاستثنائية الخارقة” قادر على التميز والتفرد بعيداً عن بقية المنافسين. وتعتبر هذه الشركات أكثر إنتاجية، كما يُظهر الشكل التالي، وأكثر ربحية، وأكثر إبداعاً، كما أنها تدفع رواتب أفضل. ويتجلى السؤال هنا واضحاً: “لماذا تحقق هذه الشركات أداءً مميزاً؟”، فهل تتفوق هذه الشركات على منافسيها بالفعل، أم أنها تستخدم حجمها وتأثيرها لتتجنب المنافسة تماماً؟

تظهر الإجابة عن هذا السؤال الأول في العديد من الدراسات واحدة تلو الأخرى، وتتمثل في أن نجاح هذه الشركات الخارقة يعود، في أغلبه، إلى تقنية المعلومات.

وبدوره، يقدم جيمس بيسن من “جامعة بوسطن”، في ورقة علمية نُشرت مؤخراً، الدليل على هذا الترابط، بل والتأكيد على أهميته أيضاً. إذ وجد أن النمو في كتلة هذا المجال التجاري – أي حصة الإيرادات المحققة بواسطة أكبر الشركات في القطاع – يمكن تفسيره إلى حد كبير بالاعتماد على تقنية المعلومات. حيث يُفسّر قياسه لاستخدام تقنية المعلومات، مدى النموّ المحقق في كتلة هذا المجال، بشكل أكبر مما يفعله قياس عمليات الاندماج والاستحواذ أو ريادة الأعمال.

فقام بيسن بمقارنة بيانات كتلة المجال التجاريّ، وفق إحصاءات الولايات المتحدة الأميركية، بحصة العاملين في المجال التجاري في المناصب المتعلقة بتقنية المعلومات (حيث استثنى قطاعات التقنية من التحليل، وكان هدفه هو دراسة كيف يعمل استخدام تقنية المعلومات على دعم الشركات، وليس دراسة القطاعات التي تقوم بنفسها بإنتاج المنتجات المتعلقة بتقنية المعلومات). ووجد أن الشركات التي تمتلك عدداً أكبر من موظفي تقنية المعلومات حققت المزيد من التركيز التجاريّ فيما بين عامي 2002 و2007، حتى بعد ضبط متغيرات أخرى مثل عمليات الاندماج والاستحواذ وغيرها. وفي دراسات أخرى، قام بتحديد العلاقة بين الاعتماد على تقنية المعلومات وبين ارتفاع المخرجات لكل عامل، وكذلك ارتفاع هوامش الأرباح. (كما وجد بعض الأدلة التي تربط ما بين جماعات الضغط وبين تحقيق هوامش ربح مرتفعة، ولكن يبدو أن هذا الترابط أقل أهمية من استخدام تقنية المعلومات).

وتتوافق النتائج التي توصل إليها بيسن مع الكثير من البيانات الأخرى المتعلقة. إذ أشار كل من إريك برينجولفسون وأندرو مكافي – في “هارفارد بزنس ريفيو” عام 2008– إلى هذه العلاقة ما بين استخدام تقنية المعلومات وبين كتلة المجال التجاري. ومنذ ذلك الوقت، ربطت العديد من الدراسات بين الاستخدام المتزايد للتقنيات الرقمية من ناحية وبين ارتفاع الربحية من ناحية أخرى، سواء على مستوى القطاع بأكمله أو على مستوى الشركة. وقد قام الباحثون في “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” (OECD) بتوثيق نموّ الشركات الخارقة، وعلاقة ذلك بعدم المساواة في الأجور، واكتشفوا أن استخدام تقنية المعلومات أحد العوامل الرئيسية المعنية. كما توصلت إحدى الدراسات الأكاديمية الأخرى للاستنتاج ذاته.

ولكن لماذا يقود استخدام تقنية المعلومات الشركات إلى التنافس وفق نظام “الفائز يجني كل شيء”؟ رغم أن بحث بيسن لم يتمكن من الإجابة عن هذا السؤال، إلا أنه يشير إلى بعض التفسيرات المحتملة. فمن المحتمل أن يعود ذلك إلى أن “تطوير البرامج يتطلب تكاليف تأسيس ثابتة وضخمة إلى حد كبير”، الأمر الذي يعني أن الشركات كبيرة الحجم بالفعل فقط هي التي سيكون بإمكانها تحمل نفقات الاستثمار في هذه البرامج. وإذا كان استخدام تقنية المعلومات والتميز فيها ذا تكلفة مرتفعة، يكون القرار اقتصادياً بالنسبة للشركات الضخمة مثل “وول مارت”، والتي بإمكانها توزيع هذه التكاليف على الكثير من المنتجات المباعة لديها.

أو ربما تكون الشركات الناجحة في استخدام تقنية المعلومات تعلم بعض الأمور التي لا يدركها منافسوها بشكل جيد. فكما ذكرت كيارا كريسكيولو، الباحثة الاقتصادية في “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” (OECD)، عام 2015: “بعض الشركات أدركت المسألة بوضوح، وبعضها لم يفعل”.

ومن ناحيتهما، أشار كل من جوناثان هاسكل من “الكلية المدنية” بلندن، وستيان وستليك من “نيستا”، في كتابهما الصادر بعنوان “الرأسمالية دون رأسمال”، إلى أن هذه الأمور تمثل وجهان لعملة واحدة. إذ أثبتا في دراستهما أنّ الاستثمار المادي (الآلات، والمصانع، والمعدات) قد انخفض بالمقارنة بالاستثمار في البنود غير الملموسة (البرامج، والبيانات، وتدريب الموظفين، والإدارة). حيث أشارا إلى أن الخصائص الاقتصادية لهذه البنود غير المادية هي ذاتها التي تفسح المجال لظهور الشركات الخارقة. فبحسب رأيهم، أولاً، تتضمن العناصر غير المادية عادة استثمارات تأسيسية كبيرة، وبعد ذلك تصبح تكلفة توسيعها أقل. وثانياً، تكمل العناصر غير المادية بعضها بعضاً. فعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسة أن تقنية المعلومات تعتبر أكثر فاعلية عندما تقترن بالإدارة الجيدة. وبالتالي، فإن الحصول على أفضل نتائج ممكنة من البرمجيات التحليلية – على سبيل المثال – يتطلب أيضاً إجراءات مصممة بشكل ملائم، ومدراء أكفاء، وكلاهما يكون أكثر قيمة مع العنصر الآخر، أكثر من وجوده بشكل مستقل.

كما يتضمن الرأي الذي قدمه الباحثان، أن الشركات الخارقة لا تنجح بسبب تقنية المعلومات في حد ذاتها، ولكن لأنها تجمع بفاعلية ما بين تقنية المعلومات من ناحية، وبين العناصر غير المادية الأخرى، مثل الإدارة الجيدة، العلامات التجارية المرموقة، أو حقوق الملكية الفكرية من ناحية أخرى. وفيما يتعلق بتقنية المعلومات أيضاً، فإن كلاً من هذه العوامل يمكن أن يتطلب استثماراً تأسيسياً كبيراً، مما يعني أن الشركات الأكبر تكون في وضع أفضل للاستفادة من تلك العناصر.

هذه الفرضية تدعمها ورقة بحثية أخرى حديثة، إذ يشير جون فان رينين، وكريستينا باترسون، وزملاؤهم، في هذه الورقة، إلى أن القطاعات التي توجد بها الشركات الخارقة لا تتميز بمزيد من الاستثمار في أجهزة الحاسب الآليّ، ولكن بمزيد من عوامل الابتكار التي يمكن قياسها ببراءات الاختراع. إذاً، ليست تقنية المعلومات هي التي تصنع الشركات الخارقة، بل الجمع ما بين تقنية المعلومات وغيرها من العناصر غير المادية الأخرى مثل البحث والتطوير. كما أشار بيسن أيضاً إلى برهان آخر يربط ما بين الاستثمار في العناصر غير المادية وبين ارتفاع هوامش الربح. ومن المحتمل أن قياسه لموظفي تقنية المعلومات ليس مؤشراً على الاستثمار في هذا المجال، ولكنه مؤشر على العناصر غير الملموسة اللازمة لجعل تقنية المعلومات مربحة.

ويمكننا النظر إلى “ماكدونالدز”، كمثال عن العناصر غير الملموسة القابلة للتوسع الفعلي. فكما يشير الباحث نيكولاس بلوم من “جامعة ستانفورد”، طورت “ماكدونالدز” نظاماً لتشغيل وإدارة المطاعم، مما تطلب مجهوداً تأسيسياً، ولكنه أصبح متاحاً فيما بعد لتوسعته عبر المتاجر المختلفة. ويشير بلوم: “بمجرد قيام الشركة بابتكار منظومة الإدارة الجيدة، فإنها ستنمو بشكل سريع وتسيطر على السوق”.

ولكن مثل وجبات “ماكدونالدز”، يأتي هذا التفسير مع بعض الحرص، الذي يجعلنا نفكر في التفسير بقدر من التساؤل، على الأقل في الوقت الحاضر. والسبب الأول، كما أوضح لي رافاييلا سادون من “كلية هارفارد للأعمال”، أنه ليس من الواضح ما إذا كانت الإدارة الجيدة تتلاءم تماماً مع نموذج “ماكدونالدز” للاستثمار التأسيسي المقدم الذي يتزايد بوتيرة سريعة – حيث تتطلب الإدارة الجيدة أيضاً بعض الاستثمارات المستمرة. إضافة إلى ذلك، وكما أكد الباحثون سادون، بلوم، وفان رينين، لا تعتبر التكلفة هي السبب الوحيد وراء إخفاق بعض الشركات في اتباع ممارسات الإدارة الجيدة، فالعديد من المدراء لا يدركون – ببساطة – أن شركاتهم تُدار بأسلوب ضعيف، وقد يحدث نفس ذلك الأمر مع تقنية المعلومات. وبعبارة أخرى، ربما لا تدرك الشركات التي تعمل وفق منظومة متدنية لتقنية المعلومات، مدى تأخرها الفعليّ عن الآخرين في هذا الصدد.

وأخيراً، على الرغم من أن تقنية المعلومات دائماً ما ترتبط بالشركات الاستثنائية الخارقة، فمن الخطأ تجاهل عوامل أخرى كالضغط، وعمليات الاندماج والشراء، ومكافحة الاحتكار، وتدني مستوى الابتكار باعتبارها تفسيرات محتملة لتركيز القطاع التجاري. وفي الواقع، تطرأ العديد من التغيرات على طبيعة المنافسة في الوقت الحالي، وقد يحدث ذلك بأسلوب معقد، وأحياناً متناقض. ومن الواضح أن تقنية المعلومات أصبحت جزءاً من ذلك التغير، وكذلك التوجه نحو الاستثمار في العناصر غير الملموسة. ولكن، مثل الحال في “ماكدونالدز” التي لم تحقق ما وصلت إليه فقط بسبب إحدى الأفكار الجيدة القابلة للتوسع، فمن المرجح أنه لا يوجد أي تفسير واحد شامل عن السبب وراء التفوق المتزايد لعدد قليل من الشركات على بقية منافسيهم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .