كيف تطور طريقة “الاحتمالية” لإدارة الغموض في رؤية المستقبل؟

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عالمنا الجديد الذي يغص بأجهزة الاستشعار والهواتف الذكية والأجهزة المتصلة بالإنترنت يشير إلى أنه سيكون هناك بيانات أكثر من ذي قبل، ولكن هل يشير هذا أيضاً إلى أن اتخاذ القرارات المستنيرة سيكون أكثر سهولة؟ في الواقع، ما سيحدث هو العكس تماماً. فالأهم من كم البيانات التي لديك هو كيف تحدد أو تشكّل البيانات الطريقة التي تفكر بها. في كثير من الأحيان، لكي يبدو القادة تحت وطأة الضغط حاسمين فإنهم يحاولون التعامل مع المشكلات المعقدة بوضع قواعد بسيطة أو بالبحث عن أوجه التماثل، من خلال الاستخدام الانتقائي للبيانات لتبرير اتخاذ القرارات التي تفتقر إلى الحكمة. ولكن ماذا سيحدث إذا حاولت أن تقلل من حالات الخطأ بمرور الوقت بدلاً من محاولة أن تكون مصيباً على الدوام؟

كيف ينبغي أن يتصرف القادة عند مواجهة الغموض؟ هل يجب أن يضعوا رهاناً كبيراً أم يحموا مناصبهم أم الانتظار فحسب ورؤية ما سيحدث؟ قد يكون المستثمرون والتجار بارعين في إدارة المخاطر والأحداث غير المتوقعة، ولكن في قطاعات أخرى، يمكن للمجهول أن يصدم القادة ويفاجئهم. فنحن نميل بطبيعة الحال إلى النظر إلى المواقف بإحدى هاتين الطريقتين: إما أن تكون الأحداث مؤكدة وبالتالي يمكننا إدارتها من خلال التخطيط والعمليات والميزانيات الموثوقة، أو أن تكون الأحداث غير مؤكدة وبالتالي لن نتمكن من إدارتها بشكل جيد على الإطلاق. ولحسن الحظ هناك نهج آخر.

لنأخذ على سبيل المثال توماس بايز، عالم الإحصاء ورجل الدين الإنجليزي، الذي اقترح نظرية في عام 1763 غيرت بشكل دائم الطريقة التي نفكر بها في اتخاذ القرارات في الظروف الغامضة. كان بايز مهتماً بكيفية تطور معتقداتنا حول العالم أثناء تجميعنا لأدلة جديدة ولكن غير مثبتة. وقد تساءل على وجه التحديد كيف يمكنه توقع احتمالية وقوع حدث ما في المستقبل إذا كان يعلم فقط عدد مرات حدوثه، أو عدم حدوثه، في الماضي. وللإجابة عن هذا السؤال، أجرى بايز تجربة فكرية.

فلنتخيل أن هناك طاولة بلياردو، وأنك تضع عصابة على عينيك ويدحرج زميلك الكرة على الطاولة بشكل عشوائي. ثم يرى زميلك أين توقفت الكرة عن الدحرجة. ومهمتك هي أن تكتشف مكان الكرة. وكل ما يمكنك فعله حقاً في هذه المرحلة هو أن تخمن مكانها عشوائياً. والآن تخيل أنك طلبت من زميلك أن يلقي المزيد من الكرات على الطاولة، وأن يخبرك ما إذا كانت توقفت على يمين أم على يسار الكرة الأولى. إذا توقفت الكرات جميعها على يمين الكرة الأولى، ماذا يخبرك هذا عن مكان الكرة الأولى؟ وإذا أُلقيت كرات أخرى، كيف سيحسن هذا معرفتك بمكان أول كرة؟ في الواقع، بعد إلقاء دفعات من الكرات واحدة تلو الأخرى، ينبغي لك أن تكون قد ضيّقت المنطقة التي من المرجح أن توجد بها الكرة الأولى. فقد اكتشف بايز أنه حتى عندما يتعلق الأمر بالنتائج غير المؤكدة، يمكن أن نحدّث معرفتنا من خلال إدماج معلومات جديدة وذات صلة بمجرد توفرها.

يمكنك أن تجد أدلة على طريقة التفكير البايزية، نسبة إلى توماس بايز، على مدار العصور الحديثة، بداية من ضباط المدفعية الفرنسيين والروس في القرن التاسع عشر الذين كانوا يضبطون مدافعهم لمراعاة عدم تيقنهم من موقع العدو وكثافة الهواء واتجاه الرياح وغيرها، إلى آلان تورنغ الذي استطاع فك شفرة الإنيغما (Enigma) الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية. حتى أن بايز أثّر في تصميم تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، خاصة من خلال مصنّفات بايز البسيطة، وهي عائلة خوارزميات تُستخدم لتوقع الفئة التي ينتمي إليها كائن البيانات، وتُستخدم في طائفة واسعة من التطبيقات، من تحليل المشاعر في وسائل التواصل الاجتماعي إلى تصفية رسائل البريد الإلكتروني غير المرغوب فيها أو نُظم التوصية بالأفلام.

اقرأ أيضا: فوائد التعلم مدى الحياة.

بالنسبة إلى القادة المعاصرين، أصبحت طريقة التفكير البايزية مؤثرة على نحو متزايد أيضاً. على سبيل المثال، أحد مبادئ القيادة الأربعة عشر في أمازون هو “احصل على الدعم وعارض ثم التزم”، وهذا المبدأ، كما شرحه جيف بيزوس، هو استراتيجية لتشجيع القادة على تجنب إضاعة الوقت أثناء محاولة التوصل إلى اتفاق عالمي. فمن الأفضل أن تتخذ القرار المثير للجدل، ثم تجمع البيانات وتكيفها إذا اقتضى الأمر. في مختبر “إكس” (X)، مصنع المشاريع الخلاقة الخاص بشركة “ألفابت” (Alphabet)، يحتفلون عمداً بالمشاريع الفاشلة، فكما تشير البيانات، هذا يساعدهم على تضييق نطاق الخيارات ما يؤدي إلى تسريع وتيرة الابتكار. وبالمثل، في شركة “سبوتيفاي” (Spotify) وضعوا إطار عمل لاستكشاف العلاقة بين البيانات والغموض وهو مكون من أربعة عناصر: البيانات والرؤى والمعتقدات والرهانات. ويستخدمونه لتحديد مقاييس نجاح الأفكار والفرص الجديدة بشكل واضح، وإيجاد لغة مشتركة للحكم على الأداء.

البيانات يمكن أن تكون معيبة أو ناقصة أو غير مؤكدة. وغالباً ما يكون هناك أكثر من تفسير لسبب حدوث الأشياء بالطريقة التي حدثت بها، ومن خلال فحص تلك التفسيرات البديلة باتباع نهج احتمالي، يمكنك تكوين فكرة أوضح حول العلاقات السببية بين الأحداث وحول ما يجري فعلياً.

إلا أن التفكير الاحتمالي يتطلب بعض الوقت لكي يعتاد عليه العقل البشري الذي يفكر بطريقة حتمية بطبيعته. فنحن نؤمن بشكل عام أن الأشياء إما أن تكون صحيحة أو خاطئة. أي أنك إما أن تكون تحب الشخص أو لا تحبه. فنادراً ما تقول في موقف ما أن هناك احتمال بنسبة 46% أن يكون شخص ما صديقك (ما لم تكن مراهقاً ولديك الكثير من “الأصدقاء الأعداء”). الواقع أن ميلنا الفطري نحو التفكير الحتمي هو ابتكار يتطور مع الوقت. فللبقاء على قيد الحياة كان علينا إصدار أحكام سريعة عن العالم واستجابتنا لما يحدث فيه. على سبيل المثال، عندما يقترب منك نمر، لا وقت لديك حقاً لكي تفكر فيما إذا كان يقترب منك باعتباره صديقاً أم عدواً.

ولكن هذا النهج الحتمي، الذي ساعد أسلافنا في البقاء على قيد الحياة أثناء الصيد في السهول العشبية، لن يساعدك على اتخاذ قرارات جيدة في المواقف المعقدة وغير المتوقعة عندما تخذلك الاختصارات والاستدلالات العقلية. من أفضل الطرق لكي تتقبل الغموض وتتبع نهجاً احتمالياً في التفكير هو أن تتعلم أن تفكر مثل المقامر المحترف. لنتحدث على سبيل المثال عن راسموس أنكرسن.

في الأصل جاء أنكرسن، وهو دنماركي يعيش في لندن، إلى المملكة المتحدة للبحث عن دار نشر إنجليزية لنشر كتابه حول الأداء البشري، ولكتابته انتقل من كينيا إلى كوريا لاستكشاف السبب وراء أن الرياضيين العظماء، سواء كانوا عدّائين أو لاعبي غولف، عادة ما يكونون من المناطق الصغيرة نفسها. أحد الأسباب التي جعلته يقرر البقاء في لندن هو الحصول على فرصة للقاء المقامر المحترف ماثيو بنهام الذي أسس شركتين للألعاب: شركة “ماتش بوك” (Matchbook) لتبادُل المراهنات الرياضية، وشركة “سمارت أودز” (Smartodds) التي تقدم بحوثاً إحصائية وخدمات استخدام النمذجة في الألعاب الرياضية.

عندما تقابل أنكرسن وبنهام، بدآ بالتحدث عن كيف أن كرة القدم تُعد من الألعاب الرياضية التي لم تُزعزَع حتى الآن بالبيانات والتفكير الاحتمالي. وقد كان بنهام منبهراً بما يكفي لأن يدعو أنكرسن لمساعدته في إدارة “نادي برينتفورد” (Brentford Football Club) الذي استحوذ عليه مؤخراً. وبعد ذلك بقليل، اشترى بنهام “نادي ميتييلاند” (FC Midtjylland) أيضاً، وهو نادي كرة القدم في مسقط رأس أنكرسن.

كان أنكرسن يرى أن: كرة القدم واحدة من أكثر الألعاب الرياضية غير العادلة في العالم. وعلى الرغم من أن هناك مقولة تقول أن “جدول ترتيب الدوري لا يكذب أبداً”، فإن أنكرسن يرى أن ما يحدث هو العكس تماماً. لأن كرة القدم رياضة ذات نقاط قليلة، فإن نتيجة الفوز بالمباراة أو خسارتها لا تعبر بدقة عن الأداء الفعلي للفريق ولا عن القيمة الحقيقية للاعبين. ومن وجهة نظر المقامر المحترف، السر في وضع رهان جيد هو أن تحدث موقفك باستمرار بالرؤى ذات الصلة التي تؤثر على احتمالية وقوع حدث ما. وبدلاً من أن يحاول المقامرون أن يكونوا مصيبين طوال الوقت، يسعون إلى أن يكونوا أقل خطأ بمرور الوقت.

بدأ بنهام وأنكرسن استخدام التطبيق العملي للإحصائيات عند تقييم أداء اللاعبين، فقد أصبح استخدام أسلوب “كرة المال” رائداً في لعبة البيسبول. وأصبح مقياس الأداء الرئيسي الذي يستخدمونه هو “الأهداف المتوقعة” لصالح الفريق أو ضده، بناء على نوعية وكمية الفرص التي تنشأ أثناء المباراة. ويتمثل الهدف من ذلك في وضع بديل لجدول ترتيب الدوري الذي قد يكون بمثابة مؤشر أكثر موثوقية للنتائج وأساس أفضل يمكن الاستناد إليه لتقييم اللاعبين وشرائهم.

النهج الذي اتبعه بنهام وأنكرسن يعطي دروساً للقادة من جميع الأنواع في أثناء سعيهم إلى إدماج المزيد من البيانات في عملية صناعة القرار. على سبيل المثال، مدير الموارد البشرية صاحب التفكير الاحتمالي قد يفحص البيانات المتعلقة بالأماكن التي يأتي منها أفضل العاملين بالشركة وكيف يكون أداء كل منهم طوال مسيرتهم المهنية بهدف تحديد مصادر جديدة للمواهب ربما يكون قد تم إغفالها. وموظف المبيعات صاحب التفكير الاحتمالي ينبغي أن يعي أنه لا يكفي إتمام الكثير من الصفقات ببساطة، فمن المهم للغاية التفكير أيضاً في الأماكن التي يأتي منها العملاء المحتملون. وبدلاً من الاعتماد على السياسات الائتمانية التي لا تتسم بالمرونة، قد يبدأ مدير المخاطر صاحب التفكير الاحتمالي في النظر بشكل أعمق في البيانات لمعرفة ما إذا كانت هناك شرائح منخفضة المخاطر في قاعدة عملاء الشركة ربما لم ينتبهوا إليها.

تبنّي العقلية الاحتمالية يجعلك أكثر استعداداً للتعامل مع حالات الغموض والتعقيدات في عصر الخوارزميات. وحتى عندما تكون الأحداث محددة بمجموعة معقدة للغاية من العوامل، يمكن للتفكير الاحتمالي أن يساعدنا على تحديد النتائج الأكثر احتمالاً وكذلك أفضل القرارات التي يمكننا اتخاذها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .