لدى أكثر من ثلاثة أرباع الشركات الكبيرة مبادرات ذكاء اصطناعي "نهمة للبيانات" قيد التنفيذ، وهي مشاريع تتضمن شبكات عصبية أو أنظمة قائمة على التعلم العميق، تدربت بناء على مخزون هائل من البيانات. ومع ذلك، فإن أغلبية مجموعات البيانات الأعلى قيمة في المؤسسات هي مجموعات صغيرة جداً، وقد لا يتجاوز حجمها بضع كيلوبايتات أو ميجابايتات، بدلاً من عدة إكسابايتات. ولأن هذه البيانات تفتقد حجم البيانات الضخمة وقوتها، غالباً ما نغفل عنها وهي قابعة في أجهزة الكمبيوتر وقواعد البيانات التشغيلية، وغير متصلة بمبادرات ابتكار تقنية المعلومات المتبعة على مستوى الشركة بأكملها.
دور البيانات الصغيرة في الذكاء الاصطناعي
حسب ما تبين لنا من تجربتنا الجديدة التي أجريناها مع مبرمجين طبيين، فإن أدوات الذكاء الاصطناعي وتقنياته الحديثة -مترافقة مع الانتباه الشديد إلى العوامل الإنسانية - تفتح إمكانات جديدة لتدريب الذكاء الاصطناعي باستخدام البيانات الصغيرة وتحويل العمليات.
اقرا أيضاً: بناء ثقافة تحتضن البيانات والذكاء الاصطناعي
وفي المؤسسة الكبيرة النمطية، نجد أنه مقابل كل مجموعة بيانات ضخمة (تتألف من مليار عمود وسطر) تغذي مبادرة متقدمة للتحليلات القائمة على الذكاء الاصطناعي، توجد ألف مجموعة بيانات صغيرة غير مستخدمة. توجد أمثلة كثيرة على هذا، مثل استبيانات التسويق حول شرائح الزبائن الجديدة، والسجلات المكتوبة للاجتماعات، وجداول البيانات التي تضم أقل من 1,000 عمود وسطر. وفي تجربتنا، أضاف فريق المبرمجين الطبيين بضع عشرات فقط من الملاحظات إلى عدة آلاف المخططات الطبية.
حلل المبرمجون الطبيون مخططات المرضى كل على حدة، وترجموا المعلومات المعقدة المتعلقة بالتشخيص والعلاج والأدوية وغيرها إلى رموز رقمية، تُدخل هذه الرموز إلى أنظمة الفواتير وشركات التأمين الصحي من أجل السداد والاسترداد، وهي تلعب دوراً حاسماً في رعاية المرضى.
وكان المبرمجون في تجربتنا ممرضين مرخصين، وكانوا معتادين الاعتماد على مساعدة أنظمة الذكاء الاصطناعي. درَس نظام الذكاء الاصطناعي المخططات، وحدد الروابط بين الحالة الطبية والعلاج، واقترح الرمز المناسب لكل مخطط.
أردنا أن نرى ما إذا كان ممكناً تحويل المبرمجين المسؤولين عن التقييمات الفردية الدقيقة للمخططات إلى مدربين للذكاء الاصطناعي قادرين على إغنائه بالمعرفة الطبية التي يمكنها تحسين أدائه في التعرف على الروابط.
ثلاث مبادئ للعمل على البيانات الصغيرة في الشركات
وما تعلمناه من خلال التجربة التي امتدت على مدى 12 أسبوعاً هو أن إنشاء إجراءات العمل، وتحويلها عن طريق الدمج بين البيانات الصغيرة والذكاء الاصطناعي، يتطلب الانتباه الشديد للعوامل البشرية. نعتقد أن تجربتنا تمخضتْ عن ثلاثة مبادئ محورها الإنسان، ويمكنها مساعدة المؤسسات لبدء العمل على مبادراتها الخاصة القائمة على البيانات الصغيرة.
الموازنة بين تعلم الآلة والخبرات البشرية في المجال المعني
طُوِّر عدد من أدوات الذكاء الاصطناعي من أجل تدريب الذكاء الاصطناعي بواسطة البيانات الصغيرة. على سبيل المثال، يُساعد أسلوب التعلم ببضع دفعات من البيانات في تعليم الذكاء الاصطناعي طريقة تحديد فئات الأشياء (وجوه، قطط، دراجات نارية) بناء على مثال واحد أو بضعة أمثلة بدلاً من مئات آلاف الصور. أما في أسلوب التعلم من دون أي دفعة من البيانات، يتمكن الذكاء الاصطناعي من وضع توقع دقيق لتسمية صورة أو شيء لم يتعرف عليه في بيانات تدريب الآلة، أي أنه يتمكن من التعرف بصورة صحيحة على الأشياء التي لم يرها من قبل. أما تعلّم الانتقال فيتضمن نقل المعرفة المكتسبة في مهمة ما إلى التعلم في مهمات جديدة. مثلاً، التعرف على الأنواع الفرعية من السرطان بناء على المعرفة المتعلقة بنوع آخر، وهو يحدّ من حاجة الآلة إلى مجموعة واسعة من البيانات الجديدة من أجل إنجاز المهمة الجديدة.
في تجربتنا، استعنا بأداة تُسمى عادة "مخطط المعارف"، وهي تُمثل بوضوح العلاقات العديدة بين أنواع مختلفة من الكيانات. مثلاً: "العقار أ يعالج الحالة ب"، و"العلاج س يخفف العارض ص"، و"العارض ص يترافق مع الحالة ب"، الخ. يلتقط هذا الأسلوب معارف الخبراء بإيجاز، ويجعل هذه المعارف قابلة للتعليل الآلي. مثلاً، تعليل احتمال وجود حالة معينة بالنظر إلى العقاقير والعلاجات الموصوفة.
وليتمكن المبرمجون من نقل معارفهم إلى الذكاء الاصطناعي، طوّرنا واجهة سهلة الاستخدام، تتيح لهم مراجعة الروابط المتنازع عليها في قاعدة بيانات المخطط. كانت هذه الروابط مواضع اختلاف زملائهم مع الذكاء الاصطناعي، أثناء مراجعة المخططات المفردة، سواء عن طريق إضافة روابط غير معروفة لدى النظام أو إزالة روابط أضافها. تمكّن المبرمجون، بناء على خبراتهم، من المصادقة على الروابط بصورة مباشرة أو حذفها أو إضافتها، وتقديم تفسير منطقي لقراراتهم، التي سوف يراها زملاؤهم المبرمجون فيما بعد. كما شجعناهم على اتباع رغبتهم في استخدام "جوجل" (Google) لإجراء بحث عن روابط بين الأمراض والعقاقير (بالتشارك مع شركة "ويب إم دي" WebMD غالباً)، ليتجاوزوا أداة البحث القائم على الذكاء الاصطناعي التي اعتبروها بطيئة.
هناك أثر مضاعف هام لهذا المزيج من تعلم الآلة والخبرات الإنسانية، وبدلاً من تقييم مخططات مفردة فحسب، أضاف المبرمجون معارف طبية تؤثر على المخططات المستقبلية كلها. وعلاوة على ذلك، مع تولي الذكاء الاصطناعي مهمة أداء الأعمال الروتينية، انخفضتْ الحاجة لتفحص المخططات الطبية كلها بدرجة كبيرة، ما أتاح للمبرمجين الوقت للتركيز على الحالات الصعبة تحديداً. وفي هذه الأثناء، تحرر علماء البيانات من العمل الممل ذي القيمة المتدنية في تنظيف البيانات وتطبيعها وانتزاعها.
التركيز على جودة البيانات التي يُدخلها الإنسان، لا على كمية نتائج الآلة
في النظام المستخدم، ركز المبرمجون على تقييم كميات كبيرة من المخططات كل على حدة، ومع مرور الوقت، تعلَّم الذكاء الاصطناعي من الروابط المتراكمة التي أضافها أو رفضها عدد كبير من المبرمجين. وعندما يتكرر تقديم المبرمجين لأحد الروابط غير المألوفة لدى النظام بين عقار ومرض بصورة كبيرة، يضيفه عالِم البيانات إلى مخطط قاعدة البيانات. لم تُتبع هذه الطريقة اليدوية إلا نادراً، ويعود جزء من السبب في ذلك إلى وجود ثغرات زمنية في تجميع الروابط المقترَحة، كما أنها اعتمدت على دعم الرابط بدلاً من الخبرة الطبية.
اقرأ أيضاً: ماذا يعني اجتماع الذكاء الاصطناعي مع اقتصاد السمعة؟
وفي النظام الجديد، تم تشجيع المبرمجين على عدم التركيز على حجم الروابط المفردة، والتركيز أكثر على تعليم الذكاء الاصطناعي طريقة التعامل مع روابط معينة بين العقاقير والأمراض عموماً، وإجراء البحث عند الضرورة. أصبح الآن بالإمكان أخذ الروابط في الاعتبار لإضافتها إلى الذكاء الاصطناعي القائم على مخطط المعرفة الذي يحمل حجماً أقل من الأدلة الكمية. وبذلك سيتعلم الذكاء الاصطناعي على نحو منتظم وحيوي أكثر، وخصوصاً فيما يتعلق بالروابط النادرة أو المتعاكسة أو الجديدة بين العقاقير والأدوية.
التعرف على الحركيات الاجتماعية المتبعة في الفرق التي تعتمد على البيانات الصغيرة في عملها
سرعان ما بدأ المبرمجون يعتبرون أنفسهم في وظائفهم الجديدة معلمين للذكاء الاصطناعي ومعلمين لزملائهم المبرمجين أيضاً. والأهم هو أنهم رأوا أن سمعتهم بين أفراد الفريق الآخرين تعتمد على قدرتهم على تقديم تبريرات منطقية متينة لقراراتهم، وكثيراً ما تحدثوا عن أهمية هذه التبريرات في بناء ثقة المبرمج الذي يواجه رابطاً غير مألوف لاحقاً.
وبعد بضع جلسات تجريبية فقط، طلب عدد من المشاركين أن تتم زيادة عدد الأحرف المستخدمة في الإطار المنطقي للبرنامج، ولاحقاً، طلبوا أن يتم تعديل صندوق البحث ليتمكن من استيعاب أكثر من مرجع. والجدير بالذكر هو أنهم لم يبدؤوا بتخصيص وقت أكبر لكل حالة مقارنة بالنظام الحالي فحسب، بل وقدموا تبريرات منطقية شاملة أكثر لقراراتهم مع بدء التجربة. أضف إلى ذلك أنّ المبرمجين أشاروا إلى شعورهم بالرضا والإنتاجية أكثر عندما نفذوا المهمات الجديدة، باستخدام المزيد من معارفهم واكتساب مهارات جديدة تساعد في بناء خبراتهم، كما شعروا بإيجابية أكبر بشأن العمل مع الذكاء الاصطناعي بصورة يومية.
ومع تقدم أساليب البيانات الصغيرة، سوف تُستخدم فعاليتها ودقتها وشفافيتها المتزايدة في العمل في جميع القطاعات ووظائف الشركات. مثل اكتشاف العقاقير واستعادة الصورة الصناعية وتصميم منتجات استهلاكية جديدة والتحقق من الأجزاء المعطوبة من الآلات في المعامل، وغيرها الكثير.
اقرأ أيضاً: أن تكون ذكياً في عصر الذكاء الاصطناعي مفهوم مختلف كلياً
ولكن لن تتولد الميزة التنافسية من الأتمتة، وإنما من العنصر البشري. على سبيل المثال، مع تنامي دور الذكاء الاصطناعي في التدريب على مهارات الموظفين، ومن خلال استخدام قدرته على التعلم من قواعد بيانات أصغر، سوف يتمكن الموظفون الخبراء من دمج خبراتهم في أنظمة التدريب، وبالتالي يستمرون في تحسينها ونقل مهاراتهم للموظفين الآخرين بكفاءة. وسوف يتحول الموظفون من غير علماء البيانات إلى مدربين للذكاء الاصطناعي، مثل مبرمجينا، وسوف يُتيحون تطبيق المخزون الهائل من الخبرات غير المستخدمة التي تنفرد بها مؤسساتهم وتوسيع نطاقه. كما أنّ النتائج التي تولدها تطبيقات البيانات الصغيرة لن تأتي من صندوق أسود، كما هو الحال في التطبيقات النهمة للبيانات، وإنما من التعاون بين الإنسان والآلة الذي يجعل هذه النتائج قابلة للتفسير، وبالتالي تزداد جدارتها بالثقة داخل المؤسسة وخارجها على حد سواء.
سوف يساعد إتقان الأبعاد البشرية للجمع بين دور البيانات الصغيرة في الذكاء الاصطناعي في إحداث أثر على التنافسية بالنسبة للعديد من المؤسسات، خصوصاً التي تجد نفسها في سباق نحو التسلح بالبيانات الضخمة، والذي لن تفوز فيه على الأرجح.
*شكر وتقدير: يود المؤلفان توجيه الشكر لفريق البحث الذي يعمل في مركز الابتكار "ذا دوك" (The Dock)، التابع لشركة "أكسنتشر" (Accenture) في دبلن، وفي مختبرات الشركة في دبلن وفي سان فرانسيسكو. ويضم فريقنا الأساسي ديارمويد هاكالين، وميب كوركوران، وأندرو دالتون، وجيمس بريستاس، وباتريك كونولي، وديفيد لافيري.
اقرأ أيضاً: اتباع نهج الأنظمة في اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي