نسمع كل أسبوع تقريباً أخباراً عن خرق أمني جديد هنا وهناك، حيث تشير الدلائل إلى أن الأشرار يزدادون ذكاءً واحترافاً. وتبرز أهمية هذه القضية خاصة في الدفاع الوطني، مع انخراط أطراف فاعلة على درجة عالية من التطور، تضم دولاً، في الحرب الإلكترونية. ويعود جزء كبير من المشكلة إلى عدم وجود ما يكفي من محللي الأمن السيبراني في مجال الدفاع لصد تلك الهجمات.
وتواجه "وكالة الدفاع الأسترالية"، التي تتألف من قوات الدفاع الأسترالية وموظفي وزارة الدفاع المدنيين الذين يدعمون قوات الدفاع، التحدي المتزايد نفسه. فبهدف المساعدة على معالجة تلك التحديات وبمساعدة بعض شركات الأعمال المبتكرة، اتخذت الوكالة نهجاً جديداً لجلب الموهوبين في مجال الأمن السيبراني، يتمثل في برامج "الهندباء" (Dandelion). حاولت الوكالة جذب مواهب غير تقليدية، خصوصاً من فئة المصابين بالتوحد، ممن يعانون من صعوبة في الحصول على وظيفة بسبب المصاعب الاجتماعية المرافقة لهذه الإصابة، وهو ما يجعلهم عاطلين عن العمل. ونتيجة لما فعتله الشركة الدانماركية المتخصصة "سبيشاليستيرن" (Specialisterne) أولاً في أوائل العقد الأول من القرن العشرين، وأثبتته مؤسسة "دي إكس سي تكنولوجي" (DXC Technology)، شريكة الوكالة، بما قامت به في أستراليا، فإنه إذا تمكنتَ من وضع الأمور في نصابها الصحيح، فستتمكن من توظيف مواهب مميزة من الأشخاص المصابين بالتوحّد ودفعهم إلى تقديم عمل مميز للغاية.
وتعود تسمية المشروع "بالهندباء" إلى ثوركيل سون مؤسس "سبيشاليستيرن"، الذي لاحظ أن الهندباء تعتبر حشائش على الرغم من أنها نباتات ذات قيمة كبيرة؛ وذلك لأنها في المقام الأول تظهر في المروج بشكل غريب ومختلف عن تلك المروج. ويعني التشبيه أن الأشخاص الذين يعانون من مرض التوحد هم أعشاب فقط إذا حاولنا دمجهم في المؤسسات بطرق نموذجية وباستخدام الإدارة التقليدية. أما إذا قمنا بتبني نهج إداري مختلف، فيمكننا الحصول على مواهب متفوقة. وطورت "دي إكس سي" برنامج "الهندباء" بناءً على هذه الاستعارة بالتعاون مع عدد من الجامعات الرائدة والمستشارين المستقلين.
وعلى الرغم من أننا نتحدث هنا عن فريق دعم، لا عن أشخاص يرتدون زياً عسكرياً، فإن هذا الفريق يساعد الجيش على تحقيق الكثير من النجاح، من خلال جذب الأشخاص "غير المنتمين" وإتاحة الفرصة لهم وصقل مهاراتهم وتعزيز شعورهم القوي بالذات. وكلنا نعرف قصة المراهق الذي تحول عبر التدريب والخدمة العسكرية من شخصية مشاغبة إلى عضو مثمر للغاية في المجتمع. وعلى الرغم من أن تحديات الأشخاص الذين يعانون من اضطراب طيف التوحد مختلفة إلى حد ما عن قصة ذاك المشاغب، فإنه في الإمكان الاستفادة من بعض قدرات الجيش على دمج أشخاص من خلفيات ومواهب مختلفة في وحدات تنظيمية فاعلة كما في حالة الأشخاص المصابين بالتوحد.
وكانت بعض الجيوش رائدة في فكرة تجنيد محللين مدنيين مصابين بالتوحد. إذ تهتم الوحدة 9900 التابعة لقسم الاستخبارات في أحد الجيوش أساساً بتحليل المعلومات المرئية الآتية من أقمار المراقبة. ويتكون فريق "رويم راكوك" (Roim Rachok) (بالعبرية: "ما وراء الأفق") بالكامل من أشخاص مصابين بالتوحد. ووفقاً لمدونة الجيش، فإن هؤلاء المحللين المتخصصين "موهوبون بقدرة لا تصدق على تحليل صور الأقمار الصناعية والخرائط وتفسيرها وفهمها". وبعبارة أخرى، لا يعتبر توظيفهم تضحية أو تنازلاً؛ لأنهم يمتلكون مواهب تضاهي أي موهبة يمكنك الحصول عليها في سوق عمل مفرطة المنافسة. إنها فرق نخبة حقيقية، غير أن الفارق هنا هو أن أفرادها مصابون بالتوحد. وربما ما يثير الدهشة، أنه عندما يتعلق الأمر بالمهارات المطلوبة لتحليل الأمن السيبراني، سيتفوق (بعض) الأشخاص المصابين بالتوحد بشدّة على البقية.
وبالطبع، يجب أن يتم كل هذا على نحو صحيح وليس بالطرق التقليدية. ولدى نظرها إلى السكان من العاطلين عن العمل ممن يعانون من اضطراب طيف التوحد، أجرت "دي إكس سي" اختبارات نموذجية نفسية واكتشفت أن ثمّة محللين مستقبليين "خارجين عن المألوف" في بعض المجالات لديهم مهارات هائلة، ولكن لا يستفاد منهم جيداً. وغالباً ما تكون مواهبهم عميقة جداً في مناطق محددة، ولكنها سطحية جداً وتقترب من الصفر في بعض المناطق.
كما أن بعض المحللين أيضاً يُظهرون أموراً غريبة الأطوار. فعلى سبيل المثال، تشعر إحدى المحللات بالارتياح وتبرز موهبتها بشكل رائع من خلال احتفاظها بالرمل في جيوبها، وتريد فقط المشي على العشب وليس على الرصيف؛ لكن لا يوجد أدنى شك في موهبتها في مجال البيانات، على الرغم مما سبق ومن أمور أخرى متعلقة بأسلوب تفاعلها ربما تكون غريبة. وفي وقت فراغها، في المنزل أو في أي مكان، تقوم بتصنيف البيانات والرسوم البيانية والاطلاع عليها. وليس من المستغرب أن تنعكس تلك الجودة أيضاً على عملها في حال تم الاستفادة منها بالشكل المناسب. وعندما عثرت عليها "دي إكس سي"، كانت تعاني في برنامج علوم الكمبيوتر في المرحلة الجامعية الأولى، ليس لأنها لم تستطع إنجاز تلك المهام، لكن لأنها كانت تشعر بالملل.
لقد تَعلّمنا الكثير حول كيفية إدارة هذه البرامج، إذ كان كثيرون من الأشخاص المصابين بالتوحّد سيئين جداً في عمليات المقابلات النموذجية، ومن ثم، كان لا بد من تغيير أساليب التوظيف والتقييم التقليدية. وكانت المقابلات تتم في الهواء الطلق عبر التسكّع والحديث الودي، ومشاريع الاختبار تتم في صورة تجارب ومسابقات. وكان ذلك يتيح للمراقبين فرصة مشاهدة قدرات التحليل لدى الأفراد في أثناء العمل، وهو مقياس أكثر دقة مقارنةً بأي مقابلة تقليدية. ويقوم مركز "أولغا تينيسون" (Olga Tennison) لأبحاث التوحد في جامعة لاتروب، الذي يعمل بالتعاون مع "دي إكس سي" ووكالة الدفاع الأسترالية، بترجمة أدوات التقييم النفسي ودراستها وتكييفها، لأخذ الأمور الناجحة منها في مجال الأمن السيبراني وتطبيقها. ويوفر التدريب المطور خصوصاً إعداداً فريداً لهذا العمل. وبمجرد تكوين فرق العمل، تعمل فرق الهندباء في "براعم" فاعلة للغاية (مصطلح ابتكرته "دي إكس سي") ذات أنظمة دعم متكاملة، بما في ذلك أخصائي توحُّد، للحفاظ على العمال على المسار الصحيح.
وعلى الرغم من أن المشروع لا يزال في بداياته، فإنه يبدو واعداً، إذ تشير الأدلة الأولية إلى أن محللي الأمن السيبراني الجدد يقومون بعمل رائع. والمحللون من ذوي طيف التوحد لدى الوكالة موظفون يعملون بلا كلل، بل يصعب حثّهم على نيل استراحة. إنهم قادرون على اكتشاف أنماط لا يمكن للآخرين رؤيتها. ولأنهم لا يحبون التغييرات في الإجراءات الروتينية، فإن معدلات الاحتفاظ بهم مرتفعة للغاية حتى الآن، (بعضها عبر برامج الهندباء التابعة لمؤسسة "دي إكس سي" وبعضها خارج وكالة الدفاع الأسترالية).
وثمّة فوائد أخرى مثيرة للإعجاب أيضاً، حيث تؤكد بيانات مركز "تينسيون" (Tennison) التابع لجامعة "لاتروب" ملاحظة تحسن كبير في نوعية الحياة التي أبلغ عنها محللو الهندباء. وتستفيد الحكومة والمجتمع كثيراً أيضاً في كل مرة ينتقل فيها شخص ما من تلقي مساعدة عامة إلى موظف يدفع الضرائب. حيث أظهرت دراسة أجرتها شركة "بي دبليو سي" (PwC) بتكليف من "دي إكس سي"، أنه حتى النشر المحدود لمثل هذه البرامج يمكن أن يؤدي إلى توفير مئات الملايين من الدولارات كفائدة لاقتصاد البلاد. والقوالب الإدارية العامة التي يتم تطويرها كجزء من هذا المشروع واعدة إلى درجة أن وكالة الدفاع الأسترالية تفكر الآن فيما يتعلق بـ "حاضنات المواهب" - مما يخلق قدرة واسعة على تشكيل فرق نخبة من ذوي التوحد في العديد من مجالات تحليل البيانات العسكرية والاستخبارية من السكان الذين لوحظ أن معظمهم كانوا عاطلين عن العمل.