لطالما كانت الاختبارات والفحوصات القياسية، مثل تنظير القولون والتصوير الشعاعي للثدي وقياس الكوليسترول، إجراءات مفيدة للأفراد المعرضين لخطر الإصابة بالسرطان وأمراض القلب، لكنها لم تكن كافية لمن يحملون مورثات تزيد من احتمالية تعرضهم لتلك الأمراض. فالإرشادات السريرية الحالية، والتي تعتمد في المقام الأول على عائلات مكونة من عدد أفراد كبير، بما يكفي للاطلاع على تاريخ العائلة وبالتالي تشخيص إمكانية الإصابة بالمرض، فشلت في بلوغ هدفها وذلك لدى حوالي نصف الأفراد المعرضين له حقاً، إذ أننا نحتاج في تلك الحالات إلى نهج مختلف يتنبأ بدقة عوامل الخطر لديهم ويتوقع احتياجاتهم الصحية. وبهدف تحقيق هذه الغاية، أطلقت مؤسسة جايزنجر (Geisinger) الأميركية مشروع "تسلسل الحمض النووي" والذي لديه القدرة افتراضياً على معرفة كل من لديه عوامل خطر الإصابة بأمراض وراثية أو أمراض سرطانية أو أمراض القلب ضمن مجموعة المرضى الموجودة، وذلك في مرحلة مبكرة جداً من بدء المرض. ولقد حددت المؤسسة بالفعل أكثر من 500 مريض معرضين لخطر الإصابة بالأمراض الوراثية، فضلاً عن اكتشاف حالات لمرضى بالسرطان وأمراض القلب لم يتمكن الأطباء من اكتشافها قبل المؤسسة، وهو ما سمح بمعالجتها في مراحل مبكرة جداً بالمقارنة مع ما سيكون عليه الحال في ما لو لم يتم اكتشافها.
أصبح تسلسل الأجزاء الوظيفية المعروفة من جينات مرضانا ضمن برامج الصحة الدقيقة لدى جايزنجر حقيقة واقعة، حيث لا يشمل ذلك القيام باختبار تشخيصي للمرضى الذين يعانون من أعراض معينة فحسب، بل حتى جميع المرضى الموجودين. إذ بات فهم إشارات التحذير الموجودة في جيناتهم الآن جزءاً أساسياً في عملية التنبؤ بصحتهم مستقبلاً، وجزءاً من عملية التخطيط الإجمالية لصحتهم وإدارتها. كما بات الآن في إمكانهم العمل مع أطبائهم لتعديل نمط حياتهم أو القيام بالسلوكيات اللازمة للتخفيف من تلك المخاطر التي تم الكشف عنها لديهم فضلاً عن مشاورتهم كشركاء في رعايتهم الصحية والتنبؤ باحتياجاتهم الصحية المستقبلية. إذ يتيح هذا النوع من التنبؤ توفير "الرعاية الصحية" الاستباقية بحق، بدلاً من "رعاية المرضى" اللاحقة والتي ظلت لفترة طويلة إحدى نقائص نظام الرعاية الصحية.
لقد تحقق هذا النجاح من التطبيق العملي لجهود جايزنجر في إنشاء المصرف الحيوي وجهود التسلسل الجيني التي انطلقت قبل 10 سنوات والمعروفة باسم مبادرة صحة المجتمع ماي كود (MyCode)، حيث قامت جايزنجر في هذا المشروع بتحديد تسلسل الحمض النووي لما يسمى بالـ"إكسوم" (exome) – وهو عبارة عن الأجزاء الوظيفية المعروفة من الجينات ويُقدّر عددها بـ20 ألف جزء في جيناتنا – وذلك لأكثر من 90 ألف مريض من جيزاينر، بالاشتراك مع مختبر أبحاث التسلسل في مؤسسة ريجينيرون فارماسيوتيكالز (Regeneron Pharmaceuticals) للصناعات الصيدلية والتكنولوجيا الحيوية. وقد سمح هذا بتأكيد وتقديم تقارير عملية حول مغايرات الحمض النووي ذات الاحتمالية الكبيرة لأن تكون ضارة. وتتوقع جايزنجر أن يكون لدى 3 في المئة على الأقل من مرضى المركز تلك المغايرات (ليس يوماً ما، بل الآن وحالياً) وهو ما يمكن استخدامه للتنبؤ بشكل أفضل بصحتهم ويقدم أثراً أكبر في ما يتعلق برعايتهم. ويذهب التقرير السريري مباشرة إلى سجلهم الصحي الإلكتروني في جيزاينر ويُرسل إلى طبيبهم أيضاً. ومع مرور الوقت، وإدخال المزيد من بيانات المرضى، وتعلم المزيد عن مغايرات صبغي معين وتأثيره على صحة المرضى، تتوقع جيزاينر استفادة ما بين 10 في المئة إلى 15 في المئة من المرضى من تلك الاكتشافات.
لطالما دعم مرضى جايزنجر مشروع ماي كود البحثي، وتطوعوا بأعداد كبير ليتم تحليل جيناتهم لإدراكهم أنّ للمشروع القدرة على تحسين رعايتهم الصحية، وتقديم الفائدة حتى للمرضى الآخرين في مجتمع جايزنجر. وفي حال مصادفة نتائج مهمة سريرياً أثناء الدراسة، كان يتم سؤالهم إن كانوا يريدون أن يتم إبلاغهم هم وأطبائهم بتلك النتائج وكانت الأغلبية الساحقة منهم موافقة على ذلك. وأشارت الدراسات الاستقصائية الواسعة التي أجريت على فئات متنوعة من الناس في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية إلى أنّ غالبيتهم قد يتبنون برامج فحص مماثلة في نظمهم الصحية لاحقاً.
بينما يعتبر تأثير هذا البرنامج على مجتمعنا بأكمله مؤثراً للغاية، إلا أنّ أثره أكبر وأعمق في حياة المرضى أنفسهم وعائلاتهم. على سبيل المثال، عندما أخبرتنا مريضة من مرضى جيزاينر عن اكتشافات جينية غير متوقعة لديها، كان الأمر كما وصفته "منقذاً لحياتها" إذ أنه سمح لأطبائها باكتشاف ورم لم يكتشفوه سابقاً لديها. وفي حالة مريض آخر، سبق له وأن عانى من نوبة قلبية في فترة مبكرة من حياته، فقد ساهم اكتشاف متغيرات في جيناته في جعل طبيبه يصف له العلاج المناسب.
ما تراه جايزنجر، هو اعتماد الملايين من الناس عليها لمعرفة جيناتهم، وبالتالي لم يعد عليهم الخضوع لقوانين الاحتمالات والإحصاءات للتنبؤ بصحتهم ووضع خطط حول حياتهم وكيفية عيشها، حيث بات الأمر بالنسبة لهؤلاء المرضى متمثلاً في حصولهم على رعاية صحية دقيقة والتقليل من عدم اليقين والسماح لهم بتولي زمام حياتهم. أما بالنسبة للأطباء، فتساعد هكذا تقنيات على تحقيق ما يجب أن يكون الهدف الحقيقي لمهنة الطب: وهو المحافظة على حياة المرضى بأفضل شكل ممكن.