بدا مشروع شركة التعدين ناجحاً من الناحية النظرية، إذ سوف يُسفر استثمار الشركة عن توفير وظائف وتقنيات القرن الحادي والعشرين في منطقة فقيرة اقتصادياً، فضلاً عن فرض إيرادات ضريبية على الحكومة. لماذا إذاً أغلق المواطنون الطرقات واحتجوا في الشوارع، وجذبوا انتباه المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام وساهموا في تأخر المشروع؟
يُعتبر هذا المشهد مألوفاً بالنسبة إلى الشركات التي تبني المناجم وخطوط الأنابيب وحقول النفط، وحتى مشاريع الطاقة المتجددة والمشاريع العقارية الكبيرة. تأمّل الاحتجاجات الأخيرة عقب الانتهاء من إنشاء خطوط أنابيب "كي ستون" و"داكوتا"، أو المعارضة التي أوقفت تطوير المحطات البحرية لتوليد طاقة الرياح التابعة لشركة "كيب ويند" (Cape Wind Associates) في مدينة نانتوكيت ساوند.
تُسفر مثل هذه النزاعات مع المجتمعات المحلية عن الشقاق وتعود بتكاليف باهظة على الشركات. على سبيل المثال، يمكن أن تُسفر التأخيرات المرتبطة بالنزاع الاجتماعي في عمليات التعدين الكبيرة عن خسارة ما يقرب من 20 مليون دولار في الأسبوع. ووفقاً لحساباتنا، تكبّدت شركة "إنيرجي ترانسفير بارتنرز" (Energy Transfer Partners) التي تطور خط أنابيب "داكوتا" ، أكثر من 800 مليون دولار تعويضاً عن الأضرار الناجمة من النزاع مع المجتمعات المحلية للشعوب الأصلية الذي تصاعد بسرعة عندما انضم النشطاء إلى حملة الاحتجاج والمعارضة.
ومن الواضح أن الفشل في إدراك خطر النزاع الاجتماعي قد يكلف الشركات الملايين من الدولارات ويعيق الاستثمارات. ومع ذلك، لا تكرّس هذه الشركات، التي تقضي شهوراً وتنفق أموالاً هائلة لإجراء تغيير في التفاصيل التشغيلية، سوى جزء صغير من مواردها لفهم المخاطر الاجتماعية التي تواجهها ومعالجتها. نتيجة ذلك، لا تمتلك سوى قدرة محدودة على إدراك كيفية تأثير قراراتها على المشكلات والشواغل المحلية وكيفية تأثرها بها.
وانطلاقاً من تجاربنا الخاصة في إجراء البحوث في العديد من الشركات وإدارة الاستثمارات الاجتماعية للشركات في العديد من البلدان، نرى أن الوقت حان لأن تدرك الشركات أهمية إدارة المخاطر الاجتماعية للمشاريع الإنشائية بشكل فاعل بقدر إدارتها للمخاطر التشغيلية. ويتطلب فعل ذلك فهم الطبيعة المنهجية للمخاطر الاجتماعية وتداعيات كل قرار تتخذه الشركة، إضافة إلى فهم مدى تعقيد العلاقة بين الشركات والمجتمعات.
إن الاختلافات بين شركة عالمية تمتلك موارد كافية ومجتمع يكافح مع مشكلات نقص التنمية المتمثّلة في الدخل المنخفض والبطالة وضعف البنية التحتية والخدمات الاجتماعية لافتة للنظر. وتفشل معظم الشركات في إدراك هذه الاختلافات، بل تصبح مشكلات هذه المجتمعات عبارة عن مجموعة مختصرة من النقاط التي يتعيّن على صنّاع القرار قراءتها دون تطوير فهم حقيقي للبيئات المعقدة التي يعملون فيها. في الواقع، تُعد هذه المجتمعات جزءاً من نظام اجتماعي وسياسي أوسع، مثلها مثل أي مكان في العالم. ولا تُعتبر النزاعات التي تنشأ داخلها معزولة، بل بإمكانها أن تُشعل فتيل التوترات والنزاعات القائمة، ويمكنها أن تتفاقم بسرعة إلى أبعاد وطنية أو دولية، كما تُظهر دراسة حديثة.
ومن المرجح أن يؤدي تجاهل الصورة الأشمل إلى أخطاء فادحة، إذ سوف يقضي المدراء الذين لا يفهمون اهتمامات المجتمعات التي يعملون فيها مزيداً من الوقت في الدفاع عن الشركة ضد أصحاب المصلحة الحانقين، بدلاً من بناء علاقات إيجابية مع أفراد المجتمع الذين يُعد دعمهم ضرورياً لنجاحهم.
وليس من المستغرب أن يُصرّح عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في مجال الطاقة والبنية التحتية اليوم بأن تميّز الشركات الناجحة في هذه القطاعات يعود إلى قدرتها على توليد الدعم الاجتماعي والسياسي لمشاريعها، وليس إلى امتلاكها التقنيات والخبرات. في عام 2012، أكّد مؤسس شركة "باريك غولد" (Barrick Gold) ورئيسها بيتر مونك أن "العامل الأكثر أهمية في تنمية أي شركة تعدين في بيئة اليوم هو الإجماع الاجتماعي، بمعنى الحصول على ترخيص للتعدين". ويُعتبر الحصول على دعم أصحاب المصلحة المحليين لتنفيذ استثمار كبير هو ما يُحدد نجاح الإدارة وتقييم المخاطر.
ويصبّ بحث جديد في المسار ذاته، إذ وجدت دراسة أجريت على 19 شركة تعدين ذهب ناشئة مطروحة للتداول العام أن ثلث قيمة هذه الشركات السوقية ناتجة عن علاقات أصحاب المصلحة. وتظهر دراسة حديثة أخرى أن الاتفاقات الرسمية مع المجتمعات الأصلية الكندية قد تزيد القيمة السوقية لشركة تعدين ناشئة أكثر من الضعف.
وبالنظر إلى هذه النتائج، كيف يمكن للمسؤولين التنفيذيين التعامل مع المشاريع الكبيرة في المواقع التي قد لا يعرفون الكثير عنها؟ من المهم أن ندرك أن العلاقات مهمة لإدارة المخاطر الاجتماعية، وأنه ليس من المنطقي الاستعانة بمصادر خارجية لبناء العلاقات، وإنما يحتاج المدراء إلى التواصل بشكل مباشر مع العديد من أصحاب المصلحة لبناء فهم مشترك للاحتياجات والقضايا والاهتمامات المحلية. وكثيراً ما تُلقى هذه المهام على عاتق الاستشاريين، وتُفوت الشركات فرصاً هائلة لاكتساب الظهور والدعم بين المجتمعات المحيطة بها عندما يطلبون من خبراء خارجيين تولي إجراء تحليل على أصحاب المصلحة ومدى ارتباطهم. لذا، تحتاج الشركات أولاً إلى التحدث مع أفراد المجتمع بشكل مباشر.
ومن الضروري إدراك أن التصورات السائدة تنطوي على أهمية أكبر من العروض التقديمية المنمّقة، فبدلاً من إعداد تقارير بتكليف من الشركة، توجد طريقة أكثر فاعلية للحصول على دعم المجتمع المحلي تتمثّل في اكتشاف الحقائق عبر إجراء تحليل تعاوني. على سبيل المثال، يمكن للمشاريع البحثية الصغيرة ذات المشاركة الواسعة من أصحاب المصلحة أن تجمع موظفي الشركة والسكان المحليين ومجموعات المجتمع المدني لجمع المعلومات وتحليل المشكلات ومناقشة الحلول المحتملة بشكل مشترك. ويمكن لمثل هذه الارتباطات أن تبني علاقات قوية في المجتمع، وتصحح المفاهيم الخاطئة عن الشركة، وتحد من النزاعات التي تؤثر على العمليات بشكل مباشر، فضلاً عن أنها تتطلب الحد الأدنى من الموارد من الشركة.
ويُعتبر بناء قنوات متعددة ومباشرة وشاملة من الارتباط والتواصل مع المجتمعات أمراً بالغ الأهمية أيضاً. وتميل العديد من الشركات إلى الاعتماد على العمل مع عدد قليل من القادة الذين يدعمون مشاريعهم ويتحاشون أصوات المحتجين، على افتراض أنهم يمثلون أقلية صغيرة غير مقبولة. وغالباً ما تكون غالبية المجتمع صامتة، وتكمن مواقفهم في مكان ما بين وجهات النظر المتطرفة هذه. ويعتمد دعمهم للمشروع على كيفية تأثرهم به، وما إذا كان يجري إعلامهم ومشاركتهم بانتظام. ويُعتبر الوصول إلى هذه الغالبية الصامتة من خلال عملية شاملة مبنية على التواصل المفتوح والمشاركة والتعاون مع مجموعات أصحاب المصلحة المختلفة أمراً حاسماً للحصول على دعم المجتمع والحفاظ على هذا الدعم.
ونادراً ما ينجح نهج رفض المشاركة مع المتظاهرين أو النشطاء الرافضين بصفته استراتيجية لإدارة المخاطر الاجتماعية، بل من الأفضل دائماً السعي لفهم اهتمامات أولئك الذين يُعارضون الاستثمار، وتحديد أهدافهم النهائية بدلاً من الانسحاب أو رفض التواصل أو التعليق. ومع ذلك، تفترض العديد من الشركات أن تجاهل المعارضة سيجعلها تتقبّل الأمر الواقع، لكن غالباً ما تكتسب المعارضة الدعم، ويتصاعد النزاع، ولا يتبقى أمام المدراء خيار سوى الاستجابة للأزمة الناشئة علناً. وغالباً ما تُنفق الشركات مواردها على الاستجابة لمطالب المحتجين، بدلاً من تخصيصها لإشراك المجتمع بأسره بطريقة استباقية وشاملة، وقد تُنفق الشركات في بعض الأحيان عشرات الأضعاف من هذه الموارد.
وأصبحت الأدوات الجديدة لإدارة العلاقة مع المجتمعات المحلية أكثر شيوعاً أيضاً، مثل اتفاقيات المنفعة المجتمعية، ومذكرات التفاهم، واتفاقيات أصحاب المصلحة المتعددين المصممة لتوثيق الالتزامات والمسؤوليات والمزايا التي تكتنف مشروع استثمار كبير أو تنمية الموارد، فإنها تساعد في إضفاء الوضوح لجميع المعنيين. ومن الضروري مراجعة هذه الأدوات وإعادة التفاوض عليها بمرور الوقت.
أخيراً، ضع في اعتبارك أن إعادة التفكير في التواصل المجتمعي يتطلب تغييراً كبيراً في عقلية معظم الشركات، بدءاً من الهوس بالسياسات وأفضل الممارسات، وصولاً إلى التركيز على الأفراد الذين يمكنهم جعل هذه الشركات ناجحة. وغالباً ما يُمثّل العثور على الموظفين المناسبين لإدارة القضايا والنزاعات المحلية تحدياً دائماً، فضلاً عن أنه يتطلب تقدير الخبرة المناسبة والسلوكيات ومهارات التعامل مع الآخرين بدلاً من المؤهلات التعليمية أو العلاقات البارزة. ويُعدّ الحفاظ على هؤلاء الموظفين الذين يديرون العلاقات المحلية والذين يمكنهم الحفاظ على ذاكرة مؤسسية للقضايا المحلية أمراً بالغ الأهمية بمجرد العثور عليهم. وقد وجدنا أن للعلاقات مع أصحاب المصلحة المحليين تأثيراً بالغاً تجاه قضايا الدوران الوظيفي، وقد تكون الفترة الطويلة لتولي وظيفة ما أكثر أهمية في استدامة العلاقات المجتمعية من أي مجال آخر في الشركة.
ومن الضروري أن تتبنّى أقسام الشركة كلها هذه الطرق وأن يمارسها الموظّفون بعقود في سلسلة التوريد. ويمكن للشركات وشركائها تجنب الأخطاء المكلفة التي نشهدها عندما تمتلك الأشخاص المناسبين والعقلية والجهد المتواصل للحفاظ على التعاون والاستمرارية.