يعاني الأميركيون من نقص الرعاية أو المبالغة فيها بسبب النظام الحالي للرعاية الصحية الذي يهدر ما يصل إلى تريليون دولار سنوياً، ويقدم مستوى متفاوتاً جداً من الرعاية: ذلك أن التقديرات الحالية تشير إلى أن الأخطاء الطبية التي يمكن تلافيها هي ثالث أكبر مسبّب للوفاة في الولايات المتحدة. كما أن نسبة 58% من المرضى المُحالين إلى مركزنا الطبي "فرجينيا ميسون" (Virginia Mason) في سياتل لإجراء عملية جراحية في الظهر، كان يمكن علاجهم بفاعلية دون الخضوع للجراحة. وكذلك عشرات الملايين من الأميركيين الذين يتبع معظمهم نظام التأمين الصحي لم يخضعوا قط للفحص اللازم لسرطان القولون. ويمكن أن تساعد السجلات الطبية الإلكترونية في تصحيح هذه العيوب التي تشوب نظام الرعاية الصحية.
تستخدم متاجر التجزئة على الإنترنت كل يوم معاملات حاسوبية لإرشادنا عبر تسلسلات تدريجية لشراء بنطال من الجينز، أو طلب بطاقة ائتمانية، أو حجز رحلة طيران. وباتباعنا هذه المسارات الإلكترونية، لا يمكن أن نخطئ. فإذا أغفلنا معطيات مهمة أو اتخذنا خياراً غير مناسب، فلن يسمح لنا البرنامج بالمتابعة حتى نصحح هذا الخطأ. بلغة هندسة النظم، تكون المعاملة "مانعة للخطأ". وفي الحالات الاستثنائية التي توجد فيها معاملة نادرة أو معقدة جداً، يمكننا رفع سماعة الهاتف لحل هذه المشكلة مع خبير المحتوى. ويمكن أن تنقلنا هذه العملية نفسها أو التقنية المانعة للخطأ والمُضمَّنة في السجلات الطبية الإلكترونية بصورة هائلة نحو رعاية صحية أكثر أماناً وأعلى جودة وأقل تكلفة.
السجلات الطبية الإلكترونية
دخلت تكنولوجيا المعلومات إلى مجال الرعاية الصحية بشكل متأخر. لكن في عام 2009، وضعت التشريعات الفيدرالية حوافز مالية وعقوبات لتشجيع استخدام السجلات الطبية الإلكترونية على نطاق واسع. وعلى الرغم من أن تقديم هذه التقنية كان مكلفاً ومربكاً للممارسات الطبية التقليدية، فلا شك في أن المرضى ومقدمي الرعاية الذين يشترون هذه التقنية يمكنهم الحصول على منافع من حيث تحسين مستوى السلامة، وضمان تقديم الرعاية اللازمة، وتجنب الرعاية غير الضرورية.
تحسِّن السجلات الطبية الإلكترونية مستوى سلامة المريض باشتراطها توصيات من الطبيب من خلال الكمبيوتر، بحيث تمنع الحاجة إلى الكتابة اليدوية غير المقروءة والتوصيات الشفهية التي يُساء فهمها. فمربعات الاختيار تتيح لمقدمي الرعاية تحديد العناصر الصحيحة فقط من الدواء، ما يمنع تناول جرعات غير صحيحة. حين طبَّق مركز "فرجينيا ميسون" الطبي نظام إدخال التوصيات من خلال الكمبيوتر، انخفضت توصيات الأطباء المحيرة أو الخاطئة من 50% إلى ما يقارب الصفر بين ليلة وضحاها. وبجوار أسرّة المرضى، تقارن الممرضات حالياً رقماً كودياً مطبوعاً على سوار المريض بالملصق المطبوع على الدواء لضمان تلقّي المريض المناسب للدواء المناسب. وقد أصبحت ميزات الأمان هذه، المُقدَّمة من خلال السجلات الطبية الإلكترونية، شائعة الاستخدام حالياً.
اقرأ أيضاً: التحولات المعلوماتية التي يحتاجها قطاع الرعاية الصحية
ومثلما تكيفت الهواتف الجوالة، التي صُمّمت في الأصل لتكون أداة اتصال متنقلة، مع مجموعة لا يمكن تصورها من الوظائف الإضافية، فقد أصبحت السجلات الطبية الإلكترونية بمثابة منصة للابتكار والإبداع. ذلك أن مقدمي الرعاية التقدميين وفِرق المهارة التكنولوجية بدأوا يعملون على تطوير أفق جديد لضمان جودة الرعاية الطبية، ويتعاونون مع المورّدين التجاريين للسجلات الطبية الإلكترونية. وقبل أن تُتاح الابتكارات تجارياً بوقت طويل، فإنها تخضع للاختبار والتدقيق باعتبارها تحسينات صغيرة مبرمجة في السجل الطبي الإلكتروني لكل مركز طبي على حدة. تتضمن بعض هذه الابتكارات: (1) تنبيهات فورية تفصيلية ورسائل تذكيرية لتجنب السهو في الرعاية الصحية، (2) الشفافية لإشراك المرضى وأسرهم في اكتشاف أخطاء الرعاية، (3) إضافة الذكاء الطبي إلى برامج الكمبيوتر.
يمكن أن توحِّد التنبيهات الفورية التفصيلية الرعاية الصحية وتحسِّنها. هناك إرشادات بأفضل الممارسات المستندة إلى الأدلة يُروَّج لها في عديد من الحالات الشائعة، لكنها غالباً ما تكون دفينة في المجلات الطبية. يمكن أن تساعد السجلات الطبية الإلكترونية على نقل هذه الإرشادات إلى مراكز الرعاية، لتوجه الأطباء فيما يتعلق باستكمال جميع أنواع العلاجات اللازمة. وكان نظام "إنترماونتن هيلث كير" (Intermountain Healthcare) الذي يخدم المرضى في ولايتي يوتا وأيداهو، قد طوّر العديد من هذه الإرشادات، كما يعمل حالياً على دمجها في مسار أعمال السجلات الطبية الإلكترونية.
اقرأ أيضاً: كيف ستتغير خدمات الرعاية الصحية عندما تبدأ الخوارزميات بتشخيص الأمراض؟
ولكن الشفافية في تقديم الرعاية الصحية الموصى بها، تلك التي تتحقق بفضل السجلات الطبية الإلكترونية، تتعارض مع الثقافة التقليدية داخل المستشفيات. في وحدة العناية الفائقة بمركز "فرجينيا ميسون"، تعرض لوحات النتائج الإلكترونية في مساحات عامة، باللون الأحمر أو الأخضر، الحالة العلاجية الراهنة لكل مريض يتلقى العلاج لمنع تكوين جلطات دموية خطِرة في الساقين. وهذه الشاشات المُثبَّتة في أماكن ظاهرة بشكل واضح، تمكِّن المرضى وأفراد أسرهم من الانضمام إلى الأطباء والممرضات وفريق الدعم من أجل الاكتشاف السريع للرعاية الصحية غير المكتملة وتصحيحها. كما يشهد حالياً مركز "فرجينيا ميسون" استجابة بنسبة 100% للتدخلات الطبية الموضوعة لمنع إصابة المرضى بالجلطات الدموية. (توضيح: يتلقى مركز "فرجينيا ميسون" دعماً عينياً لمساهمات أحد كاتبي المقال - جيم بيندر - لمؤسسة سيرنر للتنسيق بين الأطباء (Cerner Physician Alignment Organization).
علاوة على ذلك، يمكن أن تتخطى إمكانات السجلات الطبية الإلكترونية مجرد التنبيهات الفورية والرسائل التذكيرية لتطبِّق وظائف الذكاء البسيطة. حين تُطلب مضادات تجلط الدم أو الأنسولين في مركز "فرجينيا ميسون"، يطلب أحد البرامج المُطوَّرة داخلياً بصورة تلقائية الاختبارات المعملية الضرورية لتقديم هذه الأدوية بأمان. وعلى نطاق أوسع، يمكن للسجلات الطبية الإلكترونية أيضاً الولوج إلى قواعد البيانات والسجلات عن بُعد لاختيار البيانات المهمة لكل مريض على حدة، وتقديم هذه المعلومات القيمة إلى مقدم الرعاية الصحية والمريض في مركز الرعاية. تتيح هذه الوسائل المتقدمة لمقدّمي الرعاية الصحية التفرغ للتركيز على المرضى ذوي الحالات المعقدة التي تتخطى حدود الرعاية القياسية والتي تكون الخبرة واتخاذ القرار فيها أمراً حتمياً.
ومن التطبيقات الفريدة لنظام السجلات الطبية الإلكترونية المزعزِعة لنظام الرعاية الصحية هو استخدامه لمنع الرعاية المكلفة وغير الضرورية. ففي عام 2004، زار أرباب أعمال كبار في سياتل مركزنا الطبي طلباً لرعاية صحية أقل تكلفة. وبناءً على بيانات فواتيرهم الطبية، حدّدنا حالاتهم المرضية الأعلى تكلفة، ومنها آلام الظهر والصداع والتهاب الجيوب الأنفية. لاحظنا وجود إفراط في تقديم الرعاية الصحية غير المناسبة كمساهم أساسي في ارتفاع تكلفة هذه الحالات. واكتشفنا أن سبب ارتفاع التكلفة في كل حالة هو الفحوص الباهظة بالرنين المغناطيسي أو الأشعة المقطعية، التي كان العديد منها غير مطلوب.
اقرأ أيضاً: كيف ستبدو الرعاية الصحية عندما تصبح السماعات الذكية في كل مكان؟
طور مقدّمو الرعاية في مركز "فرجينيا ميسون" قائمة مرجعية تتوافق مع القواعد المستندة إلى الأدلة لطلب هذه الاختبارات، وحرصوا على تثبيتها على صفحة كمبيوتر محلي. وإذا لم يستطع مقدم الرعاية تحديد سبب منطقي مستند إلى الأدلة لطلب اختبار معملي ما، فسيمنع الكمبيوتر الطلب. والنتيجة: بعد أن جعلنا أوامر مقدمي الرعاية "مانعة للخطأ"، انخفضت فحوص الأشعة المتطورة لهذه الحالات بنسبة 25%. طبّقنا منذ ذلك الحين قواعد القرارات المستندة إلى الأدلة لمنع مزيد من الممارسات غير الملائمة أو غير الآمنة.
استخدام السجلات الطبية الإلكترونية لتقديم رعاية صحية أكثر أماناً
يمضي المبتكرون بقوة في هذه الجبهة الرقمية ليثبتوا كيف يمكن استخدام السجلات الطبية الإلكترونية لتقديم رعاية صحية أكثر أماناً وفاعلية وأقل تكلفة. ما الذي يتطلبه الأمر كي يعبر الآخرون هذا الحاجز؟ تشير تجربتنا إلى 3 عوامل رئيسة.
العامل الأول هو وضع معايير واضحة لأفضل الممارسات لتقليل الاختلافات غير الضرورية في إدارة الحالات الطبية. وقد طبّقت بعض المجموعات هذه المعايير في ظل وجود اتفاق مؤسسي على تحقيق الجودة. من بينها مركز "فرجينيا ميسون"، ومركز "بري كولابراتيف" (Bree Collabrative) بولاية واشنطن، و"إنترماونتين" (Intermountain)، و"جايزنجر" (Geisinger). كما تؤدي الجمعيات الطبية المتخصصة أيضاً دوراً. فعلى الرغم من أنها تفتقر إلى السلطة لتطبيق المعايير، فإنها تستطيع تيسير الاتفاق على التوصيات التي يمكن تبنيها على نطاق واسع في الممارسات الطبية الأميركية. وكانت مبادرة "تشوزينغ وايزلي" (Choosing Wisely) التي انطلقت عام 2012 من المجلس الأميركي للطب الباطني بالتعاون مع جمعية حماية المستهلك الأميركية، قد شاركت مع 70 جمعية مهنية لتقديم مئات التوصيات التي تستهدف إشراك مقدمي الرعاية والمرضى في المناقشات الداعية إلى تجنب الرعاية الصحية غير الضرورية.
يتمثل العامل الثاني في ضرورة تعاون المراكز الطبية والمورّدين لترسيخ المزيد من هذه البروتوكولات في السجلات الطبية الإلكترونية لمساعدة الأطباء على اتخاذ أفضل القرارات. ويجب توجيه الأولوية لتطوير أدوات رادعة يمكن أن تمنع تقديم الرعاية غير الآمنة أو غير الملائمة (على سبيل المثال: طلب أشعة غير ضرورية). ما زال تطوير تطبيقات السجلات الطبية الإلكترونية في بداياته. ولعل أحد عوائق التطوير هو تكلفة تخصيص موظفين في الجانبين الطبي والفني لتفعيل هذه المشاريع وضمان استمراريتها: ونظراً لأن المراكز الطبية تعاني من الضغوط المالية المتزايدة، فإن التكلفة تمنع التطوير المُخصَّص لهذه الأدوات.
علاوة على ذلك، فإن مطالبة مقدمي الرعاية بالامتثال لمعايير أفضل الممارسات ربما تتحدى سلطتهم التقليدية وروافد دخلهم. لكن من منطلق تجربتنا، يتحول مقدمو الرعاية إلى مؤيدين حين يكون لهم دور فاعل في وضع قواعد القرار الطبي، وحين يمكنهم تجاهل القواعد في المواقف غير الاعتيادية باللجوء إلى رأي ثان، وحين يستقطب مستوى رعايتهم فائق الجودة عملاءً جدداً. وبصفتهم عملاء ومستشارين في الوقت نفسه لمطوري السجلات الطبية الإلكترونية، يستفيد مقدمو الرعاية الصحية بتطبيق منظورهم العملي بما أن هذه الأدوات مصممة ومدمجة في المنصات البرمجية.
أما العامل الثالث فهو ضرورة أن يشترط المشترون لهذه التقنية الالتزام بالمعايير المستندة إلى الأدلة في عقود الدفع المجمعة (أي تخصيص سعر موحَّد لكل أشكال الرعاية اللازمة لعلاج حالة ما) وغيرها من العقود المعتمدة على القيمة مع مقدمي الرعاية. أما إضافة أسعار تنبؤية، واتخاذ ضمانات ضد التعقيدات التي يمكن تلافيها، والإبلاغ بشفافية عن النتائج وثيقة الصلة بالسوق، فكل ذلك يعزّز خضوع مقدمي الرعاية للمساءلة لتحسين الجودة والتكلفة. كما يتيح التعاقد المباشر بين المشترين ومقدمي الرعاية لأصحاب الأعمال تطبيق معايير الشراء مع مقدمي الرعاية مثلما يفعلون مع موردي السلع والخدمات الآخرين. تملك ولاية واشنطن وغيرها من كبار المشترين في القطاع الخاص عقوداً مع مقدمي الرعاية تسري وفقاً لهذه البنود. أما معايير الأداء المستندة إلى السوق التي تُعرِّض مقدّمي الرعاية للمخاطر المالية إذا عجزوا عن الالتزام بمعايير الرعاية الآمنة والفاعلة، فسوف تشجعهم على استخدام التقنيات الحاسوبية الفاعلة نفسها التي تستخدمها متاجر التجزئة عبر الإنترنت للمنافسة والنجاح في سوق تحكمها الجودة.
وسينجح مقدّمو الرعاية الذين يستثمرون جميع إمكانات السجلات الطبية الإلكترونية في الحصول على حصة سوقية وفي تخفيض التكاليف التي ينفقونها. والأهم من ذلك كله، أن أفضل الأطباء سوف يستخدمون السجلات الطبية الإلكترونية لإضافة المعرفة المتعمقة والحماية التي توفرها الخاصية الرقمية لمنع الأخطاء في مجال الطب، وهو ما يعود بالفائدة على جميع مرضاهم بسبب الانتباه إلى دور السجلات الطبية الإلكترونية في مجال الرعاية الصحية.
اقرأ أيضاً: كيف ستُغير الطباعة ثلاثية الأبعاد مجال الرعاية الصحية؟