ما السبب وراء نجاح أو فشل مجالس الإدارة؟ وكيف يمكن تحسين أداءها؟ هذان السؤالان أساسيان عند الحديث عن حوكمة المؤسسات. فنحن نعلم أن الآلية التي يتم فيها اختيار أعضاء مجلس الإدارة – من هم وما هي خلفيتهم الأكاديمية والمهنية والأفكار التي يمثّلونها – يمكنها أن تؤثر في المخرجات المهمة للمجلس، مثل قيمة الشركة أو المؤسسة ونمو المبيعات. إلا أن هذا الطيف الواسع من العلاقات ليس مفهوماً وهو بعيد عن إدراك الكثيرين.
أجرينا دراسة نُشرت مؤخراً في مجلة أكاديمية الإدارة (Academy of Management Journal) لمعرفة المزيد حول الجانب المُهمل في بُنية مجلس الإدارة واختيار أعضائه، أي نسبة الخبراء في مجال عمل الشركة ضمن أعضاء مجلس الإدارة. بمعنى آخر، النسبة المئوية للأعضاء الذين يتمتعون بالخبرات المهنية الرئيسة في القطاع الذي تعمل فيه الشركة. وعلى الرغم من سهولة استغلال الشركات لنسبة عدد الأعضاء الذي يتمتعون بالخبرات ذات الصلة بقطاع عمل الشركة عند تشكيل مجلس إدارتها أو عند تعيين أعضاء جدد فيه، إلا أننا لا نعلم فعلياً أي شيء عن مدى تأثير ذلك في أداء الشركة.
قد نرى أن من الطبيعي والمنطقي أنه كلما ازداد الخبراء، كلّما كان ذلك أفضل، لا سيما أن الخبراء في مجال معين يكونون على دراية أكبر بجميع جوانب عمل القطاع، فضلاً عن أنهم يتمتعون بمهارات عالية في تقييم المخاطر والفرص. ولكن تشير المقابلات التي أجريناها مع العديد من أعضاء مجالس إدارة الشركات والمدراء التنفيذيين في القطاع المصرفي، مدعومة بعشرات السنين من الأبحاث حول الخبراء وفرق العمل، إلى أن هناك ثلاثة عوامل يمكن أن تحد من كفاءة عمل مجالس إدارة الشركات التي تكون أغلبية أعضائها من الخبراء، على الأقل في بعض الحالات.
ويتجسد العامل الأول فيما يطلق عليه علماء النفس بـ "التحصين المعرفي" أو ما يعرف اصطلاحاً باللغة الإنجليزية Cognitive Entrenchment، حيث أنه كلما اكتسبنا خبرة أعمق في مجال ما، نكسب معرفة أكثر دقة وتفصيلاً، ولكننا أيضاً نصبح أقل مرونة في أسلوب تفكيرنا، وأكثر تمسكاً بوجهة نظرنا. لذلك قد تكون مجالس الإدارة التي تكون أغلبية أعضائها من الخبراء، أقل استجابة للمعلومات الجديدة والحالات غير المألوفة. وفي الحقيقة، تشير الأبحاث ذات الصلة إلى أن الفرق التنفيذية التي تضم العديد من الخبراء في مجال عملها، لا تتمتع بالمرونة في الاستجابة إلى التغييرات التي تشهدها بيئة العمل التنافسية. كما تؤكد المقابلات التي أجريناها صحة هذه الفكرة أيضاً، حيث أكد لنا العديد ممن أجرينا معهم المقابلات أن الأفكار والآراء التي يقدمها هؤلاء الخبراء إلى مجلس الإدارة ليست بتلك الفائدة في معظم الأحيان. وفي هذا الخصوص، قال لنا أحد المدراء التنفيذيين: "غالباً ما يجلب الخبراء في مجال عمل الشركة معهم ممارسات وأساليب كانت تتبعها شركات أخرى، والتي بدت أنها ليست دائماً مفيدة لنا".
أما العامل الثاني يتمثل في الثقة الزائدة بالنفس، وهي مشكلة شائعة لدى الخبراء عند تقييمهم للأمور، وتؤثر عليهم في مجموعة واسعة من المجالات، سواء أكانوا أطباء أو علماء فيزياء أو اقتصاديين أو محللين لدى الاستخبارات الأميركية CIA. ففي قطاع الخدمات المصرفية، على سبيل المثال، أوضح أحد أعضاء مجلس الإدارة قائلاً: "لنفترض أن هناك مجلس إدارة معظم أعضائه من الخبراء في قطاع البنوك، سنجد أنهم سيميلون أكثر للحصول على القروض، وذلك لأنهم يرون أنفسهم على صواب بسبب خبرتهم في هذا المجال. بينما يميل الأعضاء الآخرون غير الخبراء في قطاع البنوك إلى الحذر أكثر. ومن جهة أخرى، وصف أحد أعضاء مجلس الإدارة الأعضاء الآخرين غير الخبراء أنهم "محامو الشيطان"، حيث أنهم غالباً ما يتبنون القرارات التي تؤدّي إلى أسوأ النتائج". هذا يعني أن مجالس الإدارة التي تضم العديد من الأعضاء غير الخبراء، تميل أكثر لناحية التشكيك وعدم اليقين. فهم دائماً يطالبون بالمزيد من التقارير والتحليلات، وغالباً ما تكون إجاباتهم على المقترحات الجديدة: "لن نتخذ أي قرار اليوم نظراً لعدم تقديمك المعلومات الكافية لنا لاتخاذ القرار المناسب".
وبالنسبة للعامل الثالث، فهو يتعلق بمدى "تعارض المهام" – إلى أي مدى قد يبلغ الاختلاف بين وجهات النظر والأفكار والآراء حول القرارات التي يجب على أعضاء مجلس الإدارة اتخاذها. ويعد تعارض المهام أمراً ضرورياً لأنه يتيح لمجلس الإدارة استكشاف ومناقشة المزيد من الحلول البديلة. ولكن تشير الأبحاث إلى أن نسبة عالية من الخبراء في مجال معين ضمن مجلس الإدارة من شأنها قمع هذا التعارض لأن الأعضاء غير الخبراء قد يحملون آراء مختلفة كثيراً عن آراء الخبراء. وهكذا، فعندما يكون الأعضاء غير الخبراء أقلية في مجلس الإدارة، يصبح من الصعب عليهم تحدي الخبراء في تسويغ افتراضاتهم ودفع المجلس للنظر في البدائل. قال لنا أحد الرؤساء التنفيذيين إنّه في مثل مجالس الإدارة هذه: "نجد هناك أيضاً مشكلة الغرور والأنا – فالأمور هنا لطالما سارت بطريقتي هذه وستبقى كذلك. والجميع ملتزم باحترام "أنا" الآخر طالما كان الاجتماع قائماً، ففي نهاية الأمر هم لا ينتقدون بعضهم أمام الآخرين". وفي المقابل، عندما يكون هناك مجلس إدارة لا يضم عدداً أقل من الخبراء، "لا يخشى أحدنا حينها طرح أي أمر أو قرار على طاولة النقاش".
إن التحديات التي تواجه مجالس الإدارة التي تكون غالبية أعضائها من الخبراء، قد تنطوي على أضرار ومخاطر كبيرة عندما تنحرف الشركة عن المسار المنشود وتواجه حالة من عدم اليقين.
ويشير بحثنا إلى إن هذه التحديات الثلاثة التي تواجه مجالس الإدارة التي تكون غالبية أعضائها من الخبراء، قد تنطوي على أضرار ومخاطر كبيرة عندما تنحرف الشركة عن المسار المنشود وتواجه حالة من عدم اليقين. إن التعامل مع المواقف المتغيرة وغير المألوفة يتطلب عقلية مرنة ومقداراً من الاختلاف الإيجابي في الآراء. وعندما تواجه الشركات ظروف عمل جديد أو يكتنفها الغموض، حينها تحديداً ستؤثر ثقة الخبراء الزائدة بأنفسهم سلباً في أداء الشركة.
لقد درسنا بيانات تمتد لـ 17 عاماً حول ما يقرب 1,300 من موظفي البنوك التي تتمتع بحوكمة مقبولة وإجمالي أصول تبلغ قيمتها أقل من مليار دولار، وتتبع نموذج أعمال على المستوى المحلي. ورأينا أن مجالس إدارة بعض البنوك تضم أعضاء معظمهم من الخبراء في القطاع، أي الأعضاء والمدراء الذين يتمتعون بخلفية قوية في عمل البنوك، هم عادة أولئك الذين يشغلون مناصب نائب الرئيس التنفيذي أو مناصب أعلى. بينما مجالس الإدارة الأخرى لم تضم سوى عدد قليل من الأعضاء الخبراء في قطاع البنوك، ولكن كان لديهم أيضاً مدراء وأعضاء يتمتعون بخلفيات قوية في مجالات القانون والتأمين والطب والقطاع العام والمجال العسكري وغيرها.
ويتضح من النموذج المقدم بشكل عام، أنه ليس هناك علاقة واضحة بين نسبة الخبراء في مجال العمل والأداء المالي للبنك أو فرص بقائه. ويبدو للوهلة الأولى، أنه ليس من المهم لتحقيق الأرباح والنمو أو التقليل من احتمالية فشل البنك، أن يضم مجلس إدارة البنك عدداً كبيراً أو ضئيلاً من خبراء القطاع.
ولكن بعد ذلك بحثنا بشكل خاص في البنوك التي واجهت حالة من عدم الوضوح في الرؤية لسبب ما، مثل تحقيق نمو مطرد في أحد مناطق السوق المجهولة، أو لأنهم يعملون في سوق إقراض ينطوي على قروض غير عادية، وعملاء متباينين وغير نمطيين. في مثل هذه الحالات، كان هناك علاقة واضحة بين نسبة الأعضاء الخبراء في مجلس الإدارة واحتمال فشل البنك. فكلما زاد عدد الخبراء في قطاع البنوك ضمن أعضاء مجلس الإدارة، زاد احتمال فشل البنك عبر إفلاسه أو خروجه من السوق.
بقيت نتائج بحثنا صحيحة حتى عندما كنا نتحكم في مجموعة من العوامل الأخرى من ضمنها التنوع الوظيفي، ولم تكن مدفوعة بقيام البنوك بتعيين المزيد من الخبراء لمعالجة المشاكل المالية أو حالة عدم اليقين.
وفي الوقت ذاته، إنّه من المهم ملاحظة أن معظم مجالس الإدارة في العينة التي شملها البحث كانت تضم اثنين من الخبراء في مجال البنوك على الأقل، أو ما يقرب 20% من أعضاء مجلس الإدارة ككل. لذا فإن نتائجنا لا تعني أن عدم وجود خبراء على الإطلاق هو الحل الأمثل. وبدلاً من ذلك، يعد من المهم تعيين عدد غير قليل من الأعضاء الذين تتركز خبرتهم الرئيسة في قطاعات أخرى، وخاصة عندما يكون من المحتمل أن يواجه مجلس الإدارة حالة من عدم اليقين لسبب ما.
ويجدر بنا هنا التنويه أيضاً إلى أن وجود نسبة عالية من الخبراء في القطاع لا يختلف تأثيرها السلبي عن التأثير السلبي الناجم عن غياب التنوع المهني بين أعضاء مجلس الإدارة. وعلى سبيل المثال، يعد مجلس إدارة إحدى شركات الاتصال الذي يضم 5 خبراء في مجال الاتصالات، واثنين من المحامين، واثنين من الخبراء في القطاع المصرفي، من مجالس الإدارة التي تتميز بالتنوع الحيوي لناحية الخلفيات المهنية لأعضائه، ولا يختلف من حيث التنوع عن مجلس إدارة شركة أخرى في القطاع نفسه يضم اثنين من خبراء الاتصالات و5 محامين واثنين من الخبراء في القطاع المصرفي. ولكن هذه المجالس تختلف إلى حد كبير في نسبة الأعضاء الخبراء في مجال عمل الشركة – خمسة مقابل اثنين من أصل تسعة أعضاء.
هذه الدراسة هي فقط الأولى حول هذا الشأن. وسيتطلب الأمر المزيد من البحث لتأكيد أن العلاقة التي اكتشفناها هي علاقة سببية، وأنّها تبقى موجودة في قطاعات أخرى أيضاً. ولكن هذه الدراسة خطوة مهمة تمهّد الطريق لاكتساب فهم أعمق حول آلية عمل مجالس الإدارة، وكيف يمكن للشركات أن تعززها وتجعلها أقوى.