دروس من تجربة صانعة المسلسلات الناجحة إيفا دوفيرني

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قبل تسع سنوات، كانت إيفا دوفيرني تعمل وكيلة دعاية. أما اليوم فهي مخرجة لامعة، بعد أن أخرجت مسلسلها الثوري “عندما رأونا” (When They See Us) من إنتاج شبكة “نتفليكس”، والذي حقق 23 مليون مشاهدة في الأسابيع الأولى من عرضه، ورُشح للحصول على 16 جائزة من جوائز إيمي للأعمال التلفزيونية. وفي حين يمكننا إطلاق العديد من الأوصاف على مسارها المهني الرائع، إلا أن إلقاء نظرة مقربة على خيارات دوفيرني وسلوكها وأسباب نجاحها تكشف لنا عن شيء آخر: إنها تعرّف المبدعين أينما كانوا كيف يقتحمون لجج المحيطات الزرقاء.

المحيطات الزرقاء تعبير يجسد شريان الحياة لكل من النمو والأرباح والإبداع، وتمثل العملاء الجدد الذين يستقطبهم أفراد جسورون ابتكروا واستلهموا أفكاراً جديدة من مجالات منسية. أما المحيطات الحمراء على الجانب الآخر فتعبر عن العملاء الموجودين فعلاً، والتنافس الحاد بين كل المنتجات للحصول ولو على حصة ضئيلة من السوق.

وصناعة السينما في هوليود اليوم هي إحدى صناعات المحيط الأحمر. فمنذ ظهور صناعة السينما الأميركية، والأفلام يخرجها في العادة رجال بيض، ويمثل فيها في الغالب ممثلون بيض، وتدور قصصها غالباً عن بيض، حتى مع توسع وتنوع دائرة الجمهور والممثلين والكتاب والمخرجين وغيرهم. على سبيل المثال، كان 87% من مخرجي الأفلام من البيض في عام 2016، رغم أن الملونين كانوا يشكلون 40% من تعداد الأميركيين، وكان 93% من المخرجين من الذكور، رغم أن الإناث كن يمثلن أكثر من نصف السكان في العام ذاته.

لا تقف حدود هذا المحيط الأحمر عند البيانات الديموغرافية لهذه السوق التي تبلغ من العمر 100 عام، بل تمتد لتشمل العرف السائد الذي ترسمه الصناعة لنفسها بنفسها. عد بالذاكرة عشر سنين إلى الوراء، حيث كان الكثيرون في هوليود يؤمنون بأن أفلام الأكشن التي يُسند فيها دور البطولة إلى شخصية نسائية “محكوم عليها بالفشل”. استلزم دحض هذه الأسطورة أن يحطم جزءان من سلسلة أفلام “مباريات الجوع” (Hunger Games) الأرقام القياسية للإيرادات. أو انظر إلى فيلم “النمر الأسود” (Black Panther) – كان العرف السائد في هوليود هو أن الأفلام التي يقوم ببطولتها ممثلون سود محكوم عليها بالفشل تجارياً في الخارج، إلا أن الإيرادات العالمية لهذا الفيلم بلغت مليار دولار خلال أربعة أسابيع من عرضه.

إن التفكير التقليدي في حدود المحيطات الحمراء هو ما يخفي المحيطات الزرقاء عن العيون.

إذ لا تظهر الأسواق الجديدة إلا عندما يقف أحدهم في موقع يتيح له رؤية الأمور من زاوية مختلفة. ومن هذه النقطة، ومن هذا الموقع المتفرد، يمكننا اكتشاف أسواق المحيط الأزرق للمرة الأولى. من تلك البقعة اكتشف ستيف جوبز مؤسس شركة “آبل” محيطاً أزرق في صناعة التكنولوجيا بالتركيز على التصميم المتفرد. ومنها وجدت كارا غولدن من شركة “هنتر ووتر” محيطاً أزرق آخر في صناعة الصودا بالتركيز على الصحة. ومنها أيضاً وجدت إيفا دوفيرني محيطها الأزرق في صناعة السينما والتلفزيون بالتركيز على الملونين في أعمالها. لكن اقتحام مياه هذه المحيطات الزرقاء يتطلب أكثر من مجرد الإيمان بوجودها، بل لا بد من بناء قوارب جديدة، وتشكيل طاقم عمل يعملون بروح الفريق، ورياح مواتية لخلق الزخم والنمو. وتقدم دوفيرني نموذجاً ممتازاً لكل من هذه العناصر الثلاثة.

بناء القارب

كأي مبدع في أية صناعة، أرادت دوفيرني أن تحكي القصص التي تهمها. من هذا المنطلق صدر لها فيلم “سيلما” (Selma) عام 2014 والذي يؤرخ لمسيرة الحقوق المدنية التي انطلقت من سيلما بولاية ألاباما بقيادة مارتن لوثر كينغ، كان الفيلم مشبعاً بذكريات أيام الصيف في طفولتها في المنطقة ذاتها. وفيلم (Middle of Nowhere) الذي تم تصويره في مسقط رأسها بمدينة كومبتون في كاليفورنيا، والذي يحكي قصة انفصال امرأة عن زوجها السجين، ويركز الفيلم على تفاصيل حياة النسوة هناك. وفي مسلسل “عندما رأونا”، أعادت رواية قصة عمرها 30 عاماً لخمسة مراهقين أميركيين من أصل أفريقي أدينوا ظلماً بارتكاب جريمة اغتصاب عام 1989. تسبب المسلسل في تغيير لقبهم من “أشقياء سنترال بارك الخمسة” إلى “الأبرياء الخمسة”.

ولك أن تتخيل حجم التضحيات التي كان على دوفيرني بذلها لتطبيق هذه الأفكار في سوق صناعة السينما. في عام 2017 وصف الباحثان آدم غالينسكي وجو ماغي من “جامعة كولومبيا” كيف أن السلطة والمكانة يعملان كدوائر مغلقة تعزز بعضها بعضاً: فحجم المكانة التي يمتلكها الفرد يؤثر إيجاباً في قدرته على تبليغ أفكاره للناس، وذوو المكانة الرفيعة (المنتجون السينمائيون في هوليود، قادة المشاريع، الأشخاص الذين يظهرون كقادة فعليين) يلقاهم الناس بقبول أكبر، ويمنحونهم وقتهم ودعمهم العاطفي لتطوير الأفكار الناشئة حتى تصير أكثر قوة وكمالاً. ومن ثم يعزز هذا النجاح مكانتهم، ما يتيح أمامهم المزيد من الفرص. وعلى النحو ذاته، فإن صاحب المكانة الأقل نسبياً – ذلك الذي يفتقد إلى النسب أو الشهادات، أو كان صغيراً أو عجوزاً أكثر من اللازم، أو امرأة، أو ملوناً – فلن يحظى في الغالب بذات الدعم، ليس لأن فكرته غير جديرة بالدعم، بل لأنها تأتي من قبل شخص قُدر له ألا يكون صاحب سلطة، وبالتالي فلا يستحق عناء الاستماع إليه.

في مواجهة هذه الدينامية، استطاعت دوفيرني الخروج من تلك الدائرة المغلقة. فبعد رفضها مرة تلو الأخرى، توقفت عن السعي للحصول على إذن دخول من صانعي النجوم وجربت مسلكاً مختلفاً: لقد بنت لنفسها قارباً جديداً.

أسست دوفيرني في عام 2010 شركة توزيع صغيرة مكونة من شخصين فقط، تسمى اليوم “أراي” (Array). كان مقدراً لهذه الشركة أن تكون شركة للتوزيع المباشر، والفنون، ومؤسسة تركز على الأفلام التي تصنعها المرأة والملونون. أثبتت دوفيرني من خلال هذه الشركة صحة رؤيتها بأن ثمة قصصاً تدور حول ملونين بحاجة لمن يحكيها. ونجحت في تهيئة الظروف الملائمة لسماع الفكرة بإيجاد ولو شخص واحد آخر يكترث بالشيء نفسه الذي تكترث له. وتمنت غير متيقنة أن يقود ذلك إلى أسواق جديدة.

اجمع طاقم عمل وجهزه

غالباً ما نرى أفكار المحيط الأزرق كومضات إبداعية براقة، يصنعها فرد برؤية غير عادية لديه، لكن كل فكرة جديدة تحتاج في الواقع إلى فريق يخرجها إلى النور.

ولقد نما الفريق في شركة “أراي” الآن ليصل عدد أفراده إلى 17 شخصاً، كلهم يعملون معاً لإعادة تعريف الأعمال المتميزة والصالحة للتنفيذ، حتى صارت الشركة معروفة عالمياً كمكان يستقطب أصحاب الفكر المشابه لصياغة أجندتهم المشتركة – بإبداع قصص تدور حول رجال ونساء ملونين دون أن تتحمل عبء تبرير قصص النساء أو فنون السود وثقافتهم. في هذا السياق، انطلقوا يبدعون قصصاً جديدة، وينمون قدراتهم الإنتاجية، ويستقطبون شريحة من السوق.

حتى في إخراجها فيلم (A Wrinkle in Time) لصالح إحدى كبرى شركات الإنتاج، لم تتخل دوفيرني عن هذه المكونات الاجتماعية حتى وهي تعمل لصالح شركة جديدة، حيث قالت: “لا تأتوني بحفنة رجال بيض، أتوقع منكم أن… تختاروا طاقم عمل لا يشبهون معظم أطقم العمل”.

هكذا يصل الناس إلى المحيطات الزرقاء، فلا يصلون بمفردهم، ولا يصلون أبطالاً منفردين أو متمردين أو منشقين لكن كفريق واحد وكيان اجتماعي. والنتيجة أن دوفيرني، وكما وضح في مسلسلها “عندما رأونا”، لم تظهر وحدها قط في الترشيحات الستة عشر لجائزة إيمي، بل كانت دائماً برفقة فريقها.

إنك تصل محيطك الأزرق كفريق يعمل معاً، لأننا مع الفريق يمكننا طرح أسئلة جديدة لبعضنا بعضاً، ورؤية زوايا مختلفة. مع الفريق نخاطر وتنشأ بيننا ثقة تمكننا من تحديد ما لم نكن نعرفه، والتعلم أو تكرار تعلم ما يجب علينا معرفته. مع الفريق يمكننا بناء المستقبل.

ابحث عن الريح المواتية

في هذه الأيام، يتحقق الانتشار بالمشاركة. عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن صار بمقدور كل من يستطيع الاتصال بالإنترنت الوصول إلى جمهور وأسواق ما كان بالإمكان الوصول إليها من قبل إلا من خلال المؤسسات الكبرى أو ذات القدرات المالية الهائلة. فتسهيل الانتشار الواسع يعني إمكانية ورود الأفكار الجديدة من أي شخص والوصول إلى المحيطات الزرقاء دون الوسائل السلطوية والمكانة المهنية التقليدية. وهذا ما يمكن الفرق الصغيرة في قواربها البحرية من إيجاد الريح المواتية وخلق الزخم المناسب.

تبدأ كل فكرة بالمشاركة، فهي الريح المواتية التي حملت إليها قصة مسلسل “عندما رأونا”، عبر ريموند سانتانا، أحد المراهقين المدانين زوراً. ففي أبريل/نيسان من عام 2015 كان قد شاهد لتوه فيلم “سيلما” وسألها على تويتر عن مشروعها التالي، مضيفاً إليها وسم #cp5#fingerscrossed أو الأبرياء الخمسة، فراسلته ومن هنا بدأت القصة.

كما أن المشاركة غيرت نطاق الوصول. وحيث إن شبكة “نتفليكس” لم تنشر بيانات مشاهدي مسلسل “عندما رأونا” ما عدا الأرقام الضخمة التي حققها المسلسل، فيمكننا العودة إلى فيلم “النمر الأسود” كمثال آخر لاستخدام نظام المشاركة في إيجاد المحيطات الزرقاء. في هذا الفيلم، يحكي المخرج ريان كوغلر قصة مملكة إفريقية خيالية، من بطولة فريق من الممثلين السود بالكامل تقريباً وبحضور قوي للعنصر النسائي. ونتيجة لذلك، كان جمهور النمر الأسود هو الأكثر تنوعاً على الإطلاق – سواء فيما يتعلق بالعرق أو الجنس.

يحاول كثيرون أن ينسبوا الفضل في الانتشار الواسع لفيلم “النمر الأسود” إلى التسويق المتميز، مشيرين إلى أن الفيلم قد تم الترويج له في فعاليات كبرى مثل أسبوع نيويورك للموضة، ونهائيات دوري السلة الأميركي، وفي الاستراحة بين شوطي المباراة النهائية لبطولة الجامعات، لكن اختيار شركة “مارفل” لكوغلر كمخرج للعمل أطلق سلسلة من ردود الفعل. كان الرجل يعرف السوق التي يستهدفها، وبقرار مشاركة إعلان الفيلم في هذه المساحات استطاع كوغلر خلق كتلة حرجة للفيلم دون الحاجة إلى تبرير رغبته صنع فيلم كهذا. وعلى نحو مشابه، باختيار مغني الراب كيندريك لامار لتلحين الموسيقى التصويرية للفيلم والتي تصدرت قائمة بيلبورد للموسيقى التصويرية، استغل كوغلر شهرة لامار وشبكة علاقاته المهنية لتوسيع نطاق انتشار الفيلم. وهكذا كان كل قرار اتخذه يقوده إلى رابط يؤدي بدوره إلى مزيد من المشاركة.

إن الحقيقة الكامنة في مسلسل “عندما رأونا” وفيلم “النمر الأسود”، تبين كيفية ركوب التيارات المؤدية إلى المحيطات الزرقاء: بمعنى أن ما نصنعه يتأثر حتماً بحقيقة شخصياتنا، تماماً كما تتأثر منتجاتنا بزاوية رؤيتنا، وكما يتأثر ما نحققه بمَن نضمهم إلينا، وفي النهاية يؤثر ما نحققه في المشاركين فيه ومَن يشاركونه ويوسعون نطاقه.

لقد أثبتت لنا دوفيرني المعنى الحقيقي لاكتشاف المحيطات الزرقاء: إعلان ملكيتك للبقعة التي تقف وحدك فيها من العالم، حتى لو كان ذلك يعني ترك مساحات في المناطق التي طُردت منها وهُمشت فيها. وجمع فريقك، أولئك الأفراد الذين يشاركونك الالتزام والغاية ويعملون معاً لخلق واقع جديد. وإيجاد المجتمعات التي يمكنك مشاركة رؤيتك ونشرها فيها. وتلك طرق غير تقليدية لتحقيق الريادة بترك المألوف، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ومشاركته. فهي وإن بدت سبلاً غير منطقية بل وخاطئة بالنسبة لأولئك الذين يسبحون في المحيطات الحمراء، إلا أنها سبل النمو والتقدم والإبداع. إنها السبل التي يتبعها المستكشفون للوصول إلى أراضٍ جديدة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .