ما الذي يميز الشركات المبتكرة؟ على حد قول ستيف جوبز: الأمر لا علاقة له بالمال، "بل بالكوادر البشرية التي تعمل لديك، وبأسلوبك في القيادة، وقدرتك على تحفيزهم". وتشهد العديد من الدراسات على صحة مقولة ستيف جوبز بعد أن أثبتت أن القادة يلعبون دوراً رئيساً في تحديد قدرة الشركة على النجاح في مجال الابتكار، فعلى سبيل المثال، ثبت أن جميع الرؤساء التنفيذيين شديدي الثقة في أنفسهم والرؤساء التنفيذيين ذوي الشخصية المحبة للتجريب وأولئك الذين يتمتعون بخبرة إدارية عامة نجحوا في رفع القدرات الابتكارية لشركاتهم.
أردنا استكشاف جانب مختلف من التاريخ الشخصي للرؤساء التنفيذيين – سواء قاموا بتطوير أنفسهم - ومعرفة ما إذا كان ذلك يؤدي إلى رفع القدرات الابتكارية لشركاتهم. ففي دراسة أجريت مؤخراً ونُشرت في "مجلة الاقتصاد المالي" (Journal of Financial Economics)، ركزنا على الرؤساء التنفيذيين المبتكرين، ووجدنا أن الشركات التي تعمل تحت قيادة مخترعين تحقق عدداً أكبر من الابتكارات وبجودة أفضل.
لماذا تم دراسة الرؤساء التنفيذيين المخترعين؟ كنا مهتمين بفكرة "التعلم بالممارسة"، الفكرة أن مهارات ورؤى معينة يمكن اكتسابها فقط من خلال الخبرة المباشرة. وتوصلت العديد من الدراسات إلى أن هذا الأمر ينطبق على بعض المجالات، مثل الاستثمار، حيث نجح المستثمرون المغامرون (أو ما يسمون بالمستثمرين الجريئين) الذين أسسوا شركات ناشئة، على سبيل المثال، في التفوق على أولئك الذين لم يقدموا على تلك الخطوة، وحيث يستطيع محللو الاستثمارات الذين يتمتعون بخبرة عملية في قطاع الأعمال توقع أسعار الأسهم المستقبلية بدقة أكبر. وأجرينا دراسات مفصلة حول ما إذا كان للخبرة المباشرة للرؤساء التنفيذيين في "ممارسة" الابتكار دور في جعلهم أفضل استعداداً لتعزيز نجاح الابتكار في شركاتهم.
أولاً: تتبعنا تاريخ الابتكار لحوالي 935 رئيساً تنفيذياً في شركات التكنولوجيا فائقة الدقة المدرجة في البورصات الأميركية من خلال استخدام معلومات مأخوذة من مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية، بدايةً من عام 1975. عندما كنا نجد أن الرئيس التنفيذي حاز لقب مخترع عند الحصول على براءة اختراع واحدة على الأقل، كنا نطلق عليه وصف "الرئيس التنفيذي المخترع". ووُجد أن هناك شركة واحدة تقريباً من بين كل خمس شركات شملتها دراستنا تعمل تحت قيادة رئيس تنفيذي مخترع. بعض هؤلاء الرؤساء التنفيذيين قدموا اختراعاتهم في وقت مبكر من حياتهم المهنية، في حين استمر الآخرون في تقديم الاختراعات في أثناء شغلهم منصب الرئيس التنفيذي. ويعتبر كل من لورنس إليسون وبيل غيتس وستيف جوبز من أبرز أمثلة الرؤساء التنفيذيين المخترعين الأسطوريين في بياناتنا.
ثم قارنّا التقنيات التكنولوجية المسجلة كبراءات اختراع (من حيث الحجم والأثر) للشركات التي تعمل تحت قيادة رؤساء تنفيذيين مخترعين والشركات التي لا تعمل تحت قيادة مخترعين على مدى 17 عاماً بداية من عام 1992. وتأكدنا أن الشركات التي قارنا بينها كانت تتمتع بمستويات متماثلة من الاستثمار في البحث والتطوير، وكانت في مرحلة متماثلة في دورة حياتها (من حيث الحجم والعمر) وتعمل في القطاع نفسه.
ووجدنا أن الشركات التي تعمل تحت قيادة مخترعين لا تحصل على مزيد من براءات الاختراع فحسب، بل إن براءات اختراعاتها كانت أكثر قيمة تجارياً وأعمق أثراً من الناحية العلمية، مقارنة ببراءات الاختراع التي مُنحت لشركات لا تعمل تحت قيادة مخترعين. الأهم من ذلك، أن الابتكارات المرتبطة بهذه البراءات كانت ذات طبيعة أكثر ثورية في أغلب الأحوال، ما أدى إلى استحداث منتجات أكثر نجاحاً مقارنة بمثيلاتها من الشركات الأخرى.
وللتأكد من وجود علاقة مباشرة بين هذا النجاح على صعيد الابتكار ووجود رؤساء تنفيذيين مخترعين، درسنا الخبرة الفعلية للرؤساء التنفيذيين بصورة أعمق. كان بعض الرؤساء التنفيذيين يمتلكون خبرة ابتكارية محدودة فيما يبدو، بينما يتمتع آخرون بتاريخ حافل بالاختراعات المؤثرة. ووجدنا أن أثر الرؤساء التنفيذيين المخترعين في شركاتهم (من حيث براءات الاختراع) كان أقوى بشكل ملحوظ عندما كانوا مخترعين شديدي التأثير قبل شغلهم منصب الرئيس التنفيذي.
كما درسنا نوعية التقنيات التكنولوجية تحديداً التي عمل عليها الرؤساء التنفيذيون المخترعون في الماضي، بغرض معرفة ما إن كان لهذه المسألة علاقة بعمق أثرهم، فوجدنا أن الرؤساء التنفيذيين الذين سبق لهم تقديم اختراعات أكثر اتساقاً مع نوعية التقنيات التي تنتجها شركاتهم، استطاعوا زيادة معدلات نجاح شركاتهم على صعيد الابتكار.
وفي حين أن هذه الأنماط مثيرة للاهتمام بشدة، إلا أن العلاقة بينها لا تعدو أكثر من علاقة ترابطية. وقد حاولنا أن نخطو خطوة إلى الأمام لنرى ما إذا كان بمقدورنا تسليط الضوء على ما إذا كان لوجود الرؤساء التنفيذيين المخترعين علاقة بهذه الآثار المتحققة، أم أنهم قد عُينوا بكل بساطة في شركات ناجحة بالأساس في الحصول على براءات اختراع لابتكاراتها.
وقد وجهنا تركيزنا نحو عيّنة بسيطة تتألف من خمس عشرة شركة تعرضت لصدمة خلو منصب الرئيس التنفيذي المخترع فجأةً لأسباب لا علاقة لها بمسألة الابتكار في الشركة (كإصابته بمرض حاد أو وفاته المفاجئة) وتعيين الشركة لرئيس تنفيذي غير مخترع بدلاً منه. ثم أجرينا دراسة حول أثر تغير الرؤساء التنفيذيين بهذا الشكل على الأداء الابتكاري للشركات، وذلك من خلال المقارنة بينها وبين المجموعة "الضابطة" المؤلفة من شركات مماثلة تعرضت أيضاً لصدمة الخلو المفاجئ لمنصب الرئيس التنفيذي لكن مع تغيير بسيط، وذلك بإحلال رئيس تنفيذي غير مخترع محل آخر غير مخترع أيضاً.
فلاحظنا تراجع نتائج براءات الاختراع وأثرها بصورة حادة بعد مغادرة الرئيس التنفيذي المخترع، مقارنة بالمجموعة "الضابطة" للانتقالات. وحدث هذا التراجع في نشاط الابتكارات بصورة رئيسية في فئات التقنيات التي كان يتمتع فيها الرؤساء التنفيذيون المخترعون المغادرون بخبرات واسعة، وهو ما يشير من جديد إلى الأثر المباشر للرؤساء التنفيذيين المخترعين على نجاح شركاتهم في مجال الابتكار.
ما الذي يميز الرؤساء التنفيذيين المخترعين؟
نعتقد أن ثمة أثراً إيجابياً للرؤساء التنفيذيين المخترعين لعدة أسباب، لأن الخبرة الابتكارية تمنح الرئيس التنفيذي رؤى أعمق فيما يخص المجال التقني للشركة وكيفية إدارة منظومة العمل بها لدعمه. سانجاي مهروترا، الرئيس التنفيذي لشركة "سانديسك" (SanDisk) الذي حصل على أكثر من 70 براءة اختراع، وصف أثر خبرته الابتكارية، قائلاً: "لقد ساعدني ذلك كثيراً في فهم القدرات التقنية لشركتنا وتقييم التعقيدات الموجودة في التحديات المستقبلية، ما أدى إلى فارق كبير في رسم الخطط الاستراتيجية وفي إدارة التنفيذ، وغدا تركيز الاهتمام على المسائل الجوهرية أكثر سهولة".
كما أن الاحتكاك المباشر بعملية الابتكار قد يجعل الرؤساء التنفيذيين المخترعين أقدر على خلق ثقافة تعزز القدرات الإبداعية والابتكارية، لأنهم قد يكونون على سبيل المثال أكثر تسامحاً مع الفشل، أو يمتلكون القدرة على التعاون مع فرق البحث والتطوير في شركاتهم، ما يجعلها أكثر قدرة على تسويق الأفكار والأساليب الجديدة. وعلى النقيض من ذلك، فقد يتعرض الابتكار للإهمال من جانب الرؤساء التنفيذيين الذين لا يملكون سجلاً حافلاً بالاختراعات، بينما يسلطون الضوء بقدر أكبر على الجوانب الأخرى لمهمات الرئيس التنفيذي، مثل إعداد التقارير والامتثال والضوابط الداخلية وأنظمة المراقبة.
وبعيداً عن تعزيز القدرات الابتكارية، قد تصنع الخبرة الاختراعية من الرئيس التنفيذي المخترع سفيراً أكثر موثوقية وإقناعاً لمنتجات شركته، ما يساعد مبتكرات الشركة على إحداث أثر أكبر في القطاع الذي تعمل به. على سبيل المثال، يرجع أحد أسباب النجاح الهائل لحملات شركة "آبل" في طرح منتجاتها إلى الرئيس التنفيذي ستيف جوبز الذي سوّق مبتكراتها التكنولوجية للعالم، فعندما كان يتكلم، كان الجميع ينصتون.
أياً كانت الأسباب الكامنة وراء نجاح الرؤساء التنفيذيين المخترعين، فإن أدلتنا تشير إلى ضرورة اهتمام مجالس إدارة شركات التكنولوجيا فائقة الدقة بمؤهلات أي رئيس تنفيذي محتمل، حتى إنهم قد يكونون مطالبين بتعيين أشخاص في هذا المنصب يمتلكون قدرات فريدة من نوعها من شأنها تعزيز القدرات الابتكارية.