ذات يوم في نهاية الثمانينات، كنت جالساً في قاعة محاضرات في إحدى الجامعات أستمع إلى محاضرة ألقاها أبي هوفمان وهو كاتب وناشط معروف، وكان يتحدث بجدية عن حالة اللامبالاة التي أصابت جيلنا. بجواري كانت غلوريا إيمرسون وهي صحفية وكاتبة مبدعة، وكنا نتبادل أطراف الحديث حول محاضرة هوفمان، فأخبرتها كم أحببت أن أغوص مجدداً في هذه الأفكار العميقة.
قلت لها: "إنها فرصة عظيمة لي أن أحضر إلى هنا اليوم، وأخوض في نقاشات مع أشخاص أذكياء ومثقفين".
فكان جوابها: "آه، لا تكن سخيفاً. بإمكان أي شخص أن يكون طرفاً في هذه الحوارات، عليك فقط قراءة بعض الكتب".
العجيب في الأمر، أنني بحكم تخصصي في التاريخ، كنت أقرأ 3 أو 4 كتب كل أسبوع. لكن غلوريا على حق، لقد كانت قراءة هذه الكتب هي التي أعطتني الفرصة للجلوس على تلك الطاولة والدخول في حوار مع بعض الشخصيات العظيمة
وها أنا ذا بعد العديد من السنوات أعود إلى هذا الحوار. منذ أن بدأت برنامجي الحواري على مدونتي الصوتية وأنا أقرأ أكبر قدر ممكن من الكتب غير الأدبية، فأقرأ كتاباً واحداً على الأقل في الأسبوع. هذا ضروري لعملي، فعلي أن أقرر إن كان من المناسب لي أن أستضيف الكاتب وأتحدث عن آرائه، والسبب الثاني هو أن يكون الحوار ذا قيمة إن حلّ الكاتب ضيفاً في البرنامج. (قد لا يحتاج هذا الأمر توضيحاً، ولكن قد تستغرب إن أخبرتك عن عدد المرات التي قابلني فيها أشخاص لم يقرؤوا أي كتاب من مؤلفاتي).
إنني غني بفضل هذه القراءات التي قمت بها، فأنا أعرف أكثر وأُقدم على مزيد من المغامرات وأطبّق خبراتي مما قرأته وتعلمته. ثم إنني أشعر بقدر أكبر من الثقة تجاه آرائي وأفعالي، كما أنني أفهم الآخرين بشكل أفضل لأنني أكثر مقدرة على تقدير مجريات الأمور وظروفها.
لكن القراءة ممارسة تحتاج إلى وقت. لقد كنت مشغولاً جداً حين بدأت قراءة عدة كتب في الأسبوع، مع العلم أنني قارئ بطيء.
جربت الطرق المختصرة التقليدية، ولكنها لم تفلح معي. لقد كانت المختصرات غير كافية لفهم الكتاب، كما أن الخلاصات التنفيذية رديئة للغاية. لا أذكر أنني قرأت خلاصة تنفيذية قادرة على نقل ما هو مثير ومفيد بشأن أي كتاب.
فكيف يمكن إذاً قراءة كتاب أو أكثر كل أسبوع؟ أعتقد أن أكثر ما وجدته مفيداً هو بعض النصائح التي تلقيتها وأنا في الجامعة. لقد كان مايكل غمينيز، أستاذ تاريخ أميركا اللاتينية، أحد أفضل الأساتذة الذين درسوني، وأخبرته ذات يوم أنني أستصعب قراءة المقررات التي كلفنا بها.
فقال لي: "أخشى أنك تقرأ هذه الكتب كلمة كلمة كأنها كتب روائية".
فأخبرته أنني أقرأ هكذا.
فنظر حوله في القاعة ورأى بقية الطلاب يحركون رؤوسهم بإقرار كأنهم يشكون مما أشكو، فما كان من الأستاذ إلا أن جمعنا وعلمنا كيف نقرأ الكتاب غير الأدبي.
شرع الأستاذ يقول: "أصغوا إلي، أنتم لستم بحاجة إلى قراءة هذه الكتب، ولكنكم تحتاجون إلى فهمها".
وأضاف: "إن قراءة الأدب تتطلب منا أن ندخل في عالم من صنع الكاتب في تجربة أكثر عمقاً، أما الكتابات غير الأدبية فإنها ذلك النوع من الكتب التي نحتاج إلى قراءتها كي تعيننا في عملنا كقادة في عالم الأعمال، فهي تقدم فكرة وتعرض علينا أن نستفيد منها".
نحن بالقراءة نكسب الأفضلية ونضمن التفوق، وكلما قرأنا أكثر ازدادت سرعة استيعابنا للمزيد من الكتب وبتنا أقدر على الربط بينها وبين أفكار المؤلفين الآخرين، كما سنكون أكثر ثقة حين نطبق النصائح التي نقرأها أو نعتمدها في حياتنا العملية.
وبعبارة سريعة يمكن أن نقول: "إن القراءة الكثيرة هي السبيل إلى القراءة السريعة".
سأعرض في النقاط الآتية توجيهات الأستاذ غمينيز لقراءة الكتب غير الأدبية، بالإضافة إلى بعض النصائح مني:
- ابدأ بالتعرف إلى الكاتب، واقرأ نبذة عن سيرته وابحث عن مقابلة أو مقالة سريعة عنه في الإنترنت. اقرأ هذه المعلومات بسرعة لأنها ستعطيك فكرة عن توجهات الكاتب وما إذا كان لديه تحيز لقضية ما.
- اقرأ العنوان والعنوان الفرعي والمعلومات التي على الغلاف وانظر في فهرس المحتويات لتعرف الفكرة العامة للكتاب والطريقة التي يتناول بها الكاتب الموضوع. لاحظ أنك قادر بهاتين الخطوتين وحسب على أن توضح الفكرة العامة للكتاب إذا سألك شخص عنه.
- اقرأ المقدمة والخاتمة، فالمؤلف عادة ما يضع خلاصة رأيه في مقدمة الكتاب وخاتمته. اقرأ هذين القسمين بأكملهما بشكل سريع. أنت الآن تمتلك فهماً عاماً لرأي الكاتب، فالمقدمة تعطيك فكرة عن منهجيته في الوصول إلى رأيه والخاتمة ستوضح لك ما يأمل الكاتب أن تخرج به من الكتاب.
- اقرأ/تصفح فصول الكتاب. اقرأ العنوان وابدأ بالفقرات الأولى وتنقل بين الصفحات الأولى للفصل لترى مكان هذا الفصل في بناء الفكرة العامة للكتاب. ثم تنقل بين العناوين والعناوين الفرعية (إن وجدت) لتحدد الأسلوب الذي يسير عليه الكاتب. اقرأ الجمل الأولى والأخيرة من كل فقرة، فإن فهمت الفكرة المقصودة فتابع التصفح، وإلا فارجع للفقرة واقرأها كاملة. وحين ترى أنك فهمت ذلك الفصل، فابدأ بالقراءة السريعة صفحة صفحة فيه لأن الفكرة ستكون أوضح وستجد شيئاً من التكرار في بعض صفحاته.
- أعد قراءة فهرس المحتويات بعد الانتهاء من تصفح الفصول وارسم ملخصاً للكتاب في ذهنك. حاول في بضع لحظات أن تعيش مرة أخرى مع الكتاب، وتتخيل مسار أفكار الكاتب، والحجج التي قدمها، والقصص التي ذكرها، والرحلة التي قضيتها مع الكاتب.
أحرصُ في أثناء قراءتي على كتابة الملاحظات كي أحضّر نفسي للحوار مع المؤلف، فأحدد النقاط التي أتفق به معها أو أختلف، وأدوّن بعض الأسئلة التي علقت في ذهني، وأفكر فيما يجدر بي مناقشته مع الآخرين أو ما يجب أن أفكر فيه بشكل أعمق في الفترة المقبلة. وأجد أن كتابة مثل هذه الملاحظات ستكون أمراً مفيداً لكل قارئ.
على الرغم من أن هذه الطريقة في القراءة أكثر سرعة من الطريقة التقليدية (يستغرق مني الكتاب ساعة إلى ساعتين بدلاً من ست أو ثماني ساعات)، فقد تساعدك أيضاً على حفظ المزيد من المعلومات، وهذا هو الجانب المثير في هذه الطريقة.
والسر في ذلك هو أن هذه الطريقة تدفعك إلى الانخراط في الكتاب والتفاعل معه بدلاً من الاكتفاء بمجرد القراءة. إن ذهنك يبقى متيقظاً طوال الوقت، ولذا تكون قادراً على تشكيل صورة متكاملة عن الكتاب، فأنت لا تتلقى المعلومات وحسب، وإنما تستنبط ما في الكتاب وتحلله.
كنت أهدف حين بدأت برنامجي الحواري إلى منح المتابعين فرصة الاستماع إلى حوارات أجريها مع شخصيات مميزة في ذكائها وحضورها للحديث عن اهتماماتهم وخبراتهم وتعليمهم وآرائهم. ولكن ما أذهلني هو أنني اكتشفت أننا نمتلك القدرة من خلال قراءة كتبهم على تشكيل معرفة عميقة بهم. صحيح أن هذه الحوارات أمدتني بالكثير، ولكن هذا لم يكن ليحدث لو أنني لم أقرأ ما يكتب الشخص قبل مقابلته.
نستطيع جميعنا قراءة الكتب والاستماع إلى الحوارات مع الكتاب الأذكياء البارعين، لنتمكن من التعرف على الأفكار العظيمة والاستفادة منها في حياتنا.
وفي النهاية أقول: "بقليل من الجهد فقط، يمكننا العودة إلى مقاعد الدراسة والتحصيل".