لماذا التحليل النفسي لمشاكل العالم لن يساعدنا على حلها؟

4 دقائق

بعد قرن من اعتماده علاجاً للاضطراب العصبي، عاد التحليل النفسي للرواج مجدداً باعتباره وسيلة لشرح كل المشكلات الاجتماعية. لا يقتصر الأمر الآن على علماء النفس والفنانين، الذين لطالما انشغلوا بما يجري في اللاوعي. ففي الآونة الأخيرة، بات رؤساء الشركات والسياسيون والاقتصاديون يولون مزيداً من الاهتمام للعلم الذي أسسه فرويد.

في الاجتماع السنوي لـ "المنتدى الاقتصادي العالمي" الذي عُقد في الأسبوع الأخير من يناير/كانون الثاني بدى شبح مؤسس علم النفس التحليلي ابن فيينا سيغموند فرويد، مخيماً على أجواء "دافوس". فلا يمكن للمرء أن يحضر ندوة ما أو يخوض نقاشاً دون التطرق لأفكار على صلة بالتحليل النفسي. فالنخب العالمية؟ في حالة إنكار. والانقسامات الاجتماعية؟ كانت نتاج القلق. والسلوك البشري؟ غير منطقي إلى أبعد حد. والسياسة؟ لقد انتصر مفهوم الهوية على المبادئ الاقتصادية. كل ذلك في ظل زعيم عالمي جديد يبدو عازماً على تقديم أدلة تثبت نظرية الإسقاط النفسي الدفاعي التي وضعها فرويد وتقول إننا غالباً ما ننسب للآخرين أموراً نعرفها عن أنفسنا ولا نحبذها بتاتاً.

نقرأ بين السطور مجموعة اقتباسات من جلسات مختلفة تبدو كأنها نسخة من حلقة دراسية للتحليل النفسي. فقد قال أنتوني سكاراموتشي، الذي توقف لحضور المنتدى المنعقد في جبال الألب في أثناء توجهه لتولي منصب مدير العلاقات العامة في "البيت الأبيض": "يشعر الناس في الولايات المتحدة وأوروبا بصراع مشترك ربما لا يشعر به الكثيرون منا هنا في دافوس". (خذ ربما كدلالة على التردد الذي غالباً ما يرافق الإدراك الناشئ).

وربما عبرت تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، لا شعورياً عن تحليل فرويدي تقليدي حول كيف يؤدي ذلك الصراع إلى ظهور نوع من القادة الذين يثيرون الفرقة والانقسام بقولها: "إن تلك الأطراف التي تتبنى سياسة الانقسام واليأس، وتقدم أجوبة سهلة، وتدّعي فهم مشاكل الناس، وتعرف دوماً على ماذا ومن تلقي اللوم، تتغذى على شعور الناس بأن كبار القادة السياسيين وقادة الأعمال فشلوا في فهم بواعث قلقهم المشروعة لفترة أطول من اللازم".

هذا في حين وجه مايكل سانديل، الفيلسوف في جامعة "هارفارد"، نداء إلى الوعي، وحث القادة على النزول من أبراجهم العاجية التي ينظرون منها بتعالٍ إلى المجتمع واتخاذ موقف متعاطف ومتفهم للمشاعر المقلقة التي طالما دعا إليه المحللون النفسيون: "على القادة أن يُحسنوا الاستماع إلى مشاعر الغضب والسخط والإحباط والاستياء، حتى لو اتخذت في بعض الأحيان أشكالاً قبيحة وبغيضة. لأن هناك ما يمكن تعلمه منها. فهناك داخل التعبير عن الغضب والإحباط، تظلمات وتطلعات مشروعة لم نعالجها بنجاح منذ مدة".

وبصفتي شخصاً استقى هذه الأفكار في عمله منذ زمن طويل، دُهشت لرؤيتها تخرج إلى العلن. لقد كان الأمر مقلقاً كذلك. وكما ذكرت آنفاً، إننا عندما نلجأ إلى التحليل النفسي لفهم الأخبار، نادراً ما نفعل ذلك لأن الأخبار جيدة. إلا أن الأمر لم يكن مفاجئاً. على مدار العام الماضي، وجدت هذه المفاهيم طريقها إلى أعمدة الصحف ومجلات إدارة الأعمال وقاعات الاجتماعات في الشركات وخطابات السياسيين.

لقد بات التحليل النفسي بدعة سائرة هذه الأيام لأننا نلجأ إلى مبادئه لشرح غضب الآخرين بقدر ما نفعل للتعبير عن مخاوفنا. لقد وضع فرويد مصطلحاً لمثل هذه اللحظات، عندما نعحز عن كبت هذه الأفكار والمشاعر المقلقة، أطلق عليه اسم "عودة ظهور الدوافع المكبوتة" (return of the repressed)، وقال: "إن تلك اللحظات تنطوي على نعمٍ متفاوتة: إذ تكشف عن أسوأ دوافعنا ويمكنها أن تنير بصيرتنا.

ويبدو أن كريستين لاغارد، المديرة العامة لـ "صندوق النقد الدولي" اتفقت معه في الرأي عندما استذكرت ما لقيته من جفاء تحذيراتها بشأن عدم المساواة في "دافوس" قبل سنوات، وخلصت إلى القول: "إن لم يفهم صنَاع السياسات الأمر الآن، فلا أدري متى سيفعلون". ويبدو أن الكثير من زملائها الاقتصاديين وقادة الأعمال كانوا عازمين على "فهم الأمر" في نهاية المطاف.

ولكن هل "فهم الأمر" كافٍ؟ هل البصيرة هي كل ما يجب أن نصل إليه؟ ليس تماماً.

لا تسيئوا فهمي. أنا أجد نظريات التحليل النفسي مفيدة جداً في فهم الشؤون الراهنة وتوضيح أن الأفكار الكبيرة غالباً ما تموهها مشاعر قوية. بل أتمنى أن تحظى هذه النظريات بشعبية أكبر وفهم أفضل. وفي الوقت نفسه، فإن اتخاذ موقف مبني على التحليل النفسي (يركز كثيراً على الرحمة والتعاطف والتفسير وقليلاً على الحوار والتدخل)، اعتبره موقفاً دفاعياً من جانب أولئك الطامحين للقيادة.

تُعتبر المشكلات الاجتماعية مثل صعود الشعبوية أو القلق بشأن فقدان الوظائف الناجمة عن الأتمتة ليست مجرد اضطراب عصبي بالمطلق. وإذا كان إخضاعها للتحليل النفسي مفيداً، فإنه سيكون دفاعياً إذا تعلق الأمر بمجرد تفسيرها. لقد حرك هذا الحدس العلماء والمتخصصين الذين أنشؤوا "نظم الديناميكا النفسية" قبل نصف قرن. ويجد القادة أفكارهم حول القادة غير الواعين أكثر فائدة ومعاصرة، إذا كانت أكثر تطلباً، من أفكار سيغموند فرويد.

وخلافاً للمحللين النفسيين السريريين في أوائل القرن العشرين، والذين عملوا مع الأفراد وكانوا مهتمين بتأثيرات مقدمي الرعاية في مرحلة الطفولة على حياة البالغين الروحية، عمل هؤلاء العلماء في المقام الأول مع المجموعات والمؤسسات والأنظمة الاجتماعية المختلفة. واتبعوا نصيحة كورت ليوين، عالم النفس الأميركي المولود في ألمانيا، بأن الطريقة الوحيدة لفهم الأنظمة الاجتماعية تكمن حقاً في محاولة تغييرها. لقد اكتسبوا معارفهم هذه من الانخراط شخصياً في مثل هذه الأنظمة، وليس من خلال النأي بالنفس مثلما يفعل العالم أو المعالج السريري. لقد افتخروا بتسميته "البحث الإجرائي" لتمييزه عن النوع الأكثر ميلاً للتأمل.

تولي نظريات نظم الديناميكا النفسية اهتماماً أقل حول كيف تشكل رواسب المراحل المبكرة لتجارب الشخص وسلوكه، وتولي اهتماماً أكبر بمدى تأثرنا بالمؤسسات وظروف حياتنا وعملنا. وما يلي هو الإدراك بأن فهمنا لتاريخنا لن يحررنا مما يأسرنا في اللاوعي، كما لا يمكن لذلك أن يفتت مشاعر الغضب أو القلق أو اليأس التي عادة ما ترافق الأسر. ولا يمكن إلا للتغييرات الاجتماعية والتنظيمية أن تفعل ذلك من النوع الذي عادة ما يُخلّ بالبنى السلطوية.

تُعتبر نظم نظريات الديناميكا النفسية مخربة في مقصدها تماماً مثل التحليل النفسي السريري، وذلك في سعيها إلى تحرير الإمكانات البشرية من خلال الانقلاب على الوضع الراهن المقيد. لكن أصحابها يقترحون اللجوء إلى النشاط الاجتماعي، وليس مجرد التفسير الرحيم، عندما تكون الأنظمة الاجتماعية من حولنا هي مصدر عذابنا، وليس تلك الموجودة في ماضينا.

باختصار، لا يكفي فهم الأمر أو حتى التعبير عنه، إن لم تكن قادراً أو على استعداد لتغيير "ذلك". سيجعلك فهم الأمر في أحسن الأحوال تبدو عديم الفائدة، وفي أسوأ الأحوال متواطئاً.

وبما أن خطاب القادة الطموحين في جميع أنحاء العالم مستوحى من عبارة "أنا أفهم الأمر، لكن خصومي لا يفهمون"، فربما كان ذاك هو نوع التحليل النفسي المعاصر الذي من الأجدى لهم ألا يكبتوه.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي