يتملك الإعجاب والذهول أي شخص يزور أبوظبي عندما يرى كيف تمكنت الإمارات العربية المتحدة من إحداث ثورة ذاتية لتنتقل من بلد معروف فقط بثروته النفطية والغازية إلى بلد يقود البنية التحتية الحديثة والاقتصاد المتّقد نشاطاً. وفي الوقت الذي تتحول فيه دولة الإمارات العربية إلى شكلها الجديد، تكتشف أنّ ثرواتها العظيمة لا تأتي من اقتصادها، وإنما من المواهب التي يمتلكها عنصرها البشري. إذ سيضيف تحقيق طموح دولة الإمارات في أن تكون ضمن أفضل 20 نظاماً تعليمياً في العالم، وفقاً لبرنامج التقييم العالمي للطلاب أكثر من 5,600 مليار دولار إلى الاقتصاد الإماراتي، أي ما يعادل 9 أضعاف حجمه الحالي.
تحثّ دولة الإمارات العربية المتحدة خطاها للاستثمار في العنصر البشري الذي يمكنه تطوير هذه الثروة الجديدة: أي المدرسين الذين يتميزون بقدر عال من التأثير والفعالية. وفي الفترة من 7 إلى 8 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2017، دعا ولي العهد محمد بن زايد آل نهيان أكثر من 800 مدرس من جميع أنحاء العالم من 70 دولة وأكثر بغاية صياغة هذه المهنة ضمن تصوّر جديد في منتدى "قدوة" العالمي للمدرسين في أبوظبي. وكان هذا الحدث العالمي الأول الذي لم يتحدث عن المدرسين، ولكن حيث تحدث المدرسون عن كيفية رفع مستوى المهنة وإعداد الطلاب لمستقبل متطور باستمرار.
انصبّ اهتمام المدرسين على الجوانب الإنسانية الهامة المتمثلة في التعاطف، والتعاون، والرحمة. ولتوضيح هذا الأمر، خذ هذه الفكرة بعين الاعتبار (غالباً ما يمرّ في حياة الأشخاص الناجحين معلم ناصح ترك بصمته الواضحة في الاهتمام بهم على الصعيد الشخصي وعلى صعيد تأطير تطلعاتهم المستقبلية أيضاً، ما ساعدهم على فهم ذاتهم، وفتح لهم الطريق لاكتشاف شغفهم وبناء مستقبلهم اعتماداً على نقاط القوة التي يتمتعون بها). لقد ثبت أنّ المدرسين الذين صبّوا اهتمامهم على جعل الطلاب يحبون التعلم كانوا أعمق تأثيراً بكثير من أولئك الذين اكتفوا بتعليمهم فقط.
تُعتبر المسؤولية الموكلة إلى المدرسين مسؤولية رهيبة، ويمكن للمرء أن يقول بثقة أنها واحدة من أهم الوظائف في العالم إن لم تكن أهمها على الإطلاق. يبدو أنّ للمدرسين كامل الحق في المطالبة بأجر أعلى بكثير لتلبية تلك التوقعات. ولكن لم نسمع أي شخص في "قدوة" يتلفظ ببنت شفة عن حاجة المدرسين إلى المزيد من المال ليباشروا في التعليم الهادف إلى إعداد الطلاب للمستقبل، وهو موضوع المنتدى لهذا العام. وبدلاً من ذلك، انصب تركيز "قدوة" على الحلول والأجوبة.
إلى جانب ذلك، عرض المنتدى العديد من الأمثلة عن كيفية دعم التكنولوجيا الرقمية للتعليم الناجح، لكن تلك الأمثلة عززت أيضاً فكرة استحالة أن تحل هذه التكنولوجيا محل التعليم بشكله الحالي. وتُعتبر الفرصة سانحة بكل ما في الكلمة من معنى لتحوّل التكنولوجيا منهجيتنا في التعليم، طالما أننا لا نضحّي بالعنصر البشري المتمثل في الرحمة والتعاطف كمجموعات مهارات أساسية.
ولكن تأمّل الإمكانيات الهائلة للمدرسين القادمين من جميع أنحاء العالم عندما يعملون بشكل جماعي على مصادر منتقاة بعناية من أفضل الممارسات التعليمية، وأحدث تقنيات التدريس وغيرها من الأفكار المبتكرة. خذ بعين الاعتبار كيف يمكن للطلاب في المناطق النائية استخدام الواقع الافتراضي لدراسة الأماكن التي ما كانوا ليستطيعوا زيارتها ولا حتى في الأحلام. لقد خلقت التكنولوجيا مجتمعاً عملاقاً يملك إمكانيات لا محدودة من المدرسين، وذلك ببساطة عن طريق الاستفادة من رغبتهم في المساهمة والتعاون والاعتراف بمجهودهم. ولا شكّ بأنّ تأثير التكنولوجيا لا ولن يقتصر على التأثير في كيفية تعليم المدرسين فقط، بل سيمتد أيضاً إلى كيفية تعلّم الطلاب.
ومع ذلك، لا تحتل التكنولوجيا مكان القلب من العملية التدريسية الجيدة، إذ تأتي الملكية في صميم هذه العملية. ويتحول السحر إلى واقع عندما يشعر المدرسون بملكيتهم للفصول الدراسية ومسؤوليتهم عنها، وعندما يشعر الطلاب بملكيتهم لعملية تعلمهم. ويجب أن تبدأ هذه الملكية من رأس الهرم. إذ يجب عدم الاكتفاء بإشراك المدرسين في تنفيذ السياسات التعليمية، بل يكونوا العنصر الفعال في تصميمها أيضاً. ولن يؤدي الفشل في القيام بذلك إلا إلى توسيع الفجوة بين ما يحتاج الطلاب تعلمه وما يُتوقع أن يقدمه المدرسون في المناهج الدراسية.
تمحورت الأمور في الماضي حول ما يتعين على المدرسين القيام به وفقاً لسياسات مفروضة عليهم، أما المستقبل فهو يدور حول مهنة مستنيرة وتعاونية. ويتمثل التحدي على هذا الصعيد في عدم إمكانية الحكومة فرض تحوّل كهذا. كما أنه لا يمكن إحداث هذا التحول من الأسفل إلى الأعلى فقط. نحن بحاجة إلى القيام بعمل أفضل يتمثل في تحديد العوامل الرئيسة للتغيير ومواجهتها للعثور على نهج أكثر فعالية لتوسيع نطاق الابتكار ليشمل مدى أوسع. ويدور هذا التحول أيضاً حول إيجاد طرق أفضل للاعتراف بالنجاح، ومكافأته وتسليط الضوء عليه. أي باختصار، يحتاج التعليم إلى تغيير واقعي أكثر مما يحتاج إلى إصلاح افتراضي.
لا يحدث أي تغيير بين ليلة وضحاها، وخاصة عندما يواجه الوضع الراهن بكل ما لديه من ركائز. ومع ذلك، يبقى التعليم أقوى أداة لدينا لبناء عالم أكثر إنصافاً وإنسانية وشمولية. ولم يقم هذا المنتدى بأكثر من التأكيد على هذا الاعتقاد فقط.
يعود الفضل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في إنشاء منصة عالمية تضع المعلمين في صميم عملية التقدم. لذلك دعونا نحتفل بالانتصارات والجهود الصغيرة من قبل مؤسسات مثل "قدوة" للنهوض بهذا التغيير، ورفع مهنة التدريس عالياً وتذكيرنا بالثابت الوحيد الذي يجب أن يبقى على الدوام ألا وهو: الروح المتعاطفة والرحيمة.