ينعقد حوالي 55 مليون اجتماع يومياً في الولايات المتحدة. ورغم من أنها غالباً ما تكون لها غايات وأهداف مختلفة ومتنوعة، إلا أنّ هذه الاجتماعات تُعقد عادة بالطريقة نفسها، مراراً وتكراراً. أعني أن الأفراد يجتمعون سوياً، بشكل افتراضي، أو وجهاً لوجه، للحديث حول موضوع ما. وفي الغالب لا ندرك الأمر، إلا أن الحديث هو مجرد خيار أمامنا، وهو ببساطة أحد أنماط الاجتماع، أو أحد طرق التواصل الكثيرة والمختلفة التي يستطيع القائد اختيارها. وبينما تتمتع الاجتماعات الكلامية بأفضلية كبيرة، باعتبار أنها قد تكون فعالة وتقدم مستوى من الراحة في الحديث بشكل شخصي إذا جرى التخطيط لها على نحو جيد. إلا أنه قد تحيط بها مجموعة من المشاكل، مثل أن أحد الأشخاص يُسيطر على الحديث، أو أن آخرين يغادرون ويقومون بعدة وظائف في آن واحد، أو أن تتخللها محادثات جانبية، أو قد تخرج عن السياق، أو حتى يتعرض المجتمعون لضغوط للامتثال لأفكار المدير.
الخبر السار هو وجود طرق بديلة بالفعل يمكن أن تنجح بشكل مدهش حسب المهمة التي في متناول يدك. وإحدى هذه الطرق يتقبل الصمت. قد يبدو هذا الأسلوب غريباً، إلا أن الأبحاث الحالية تدعم مزايا عقد "اجتماع صامت" كطريقة لتعزيز الأفكار ووجهات النظر ورؤى المواهب التنظيمية على نحو أفضل. ويتعين على القادة أن يضيفوا هذا النوع إلى صندوق أدواتهم لاختيار نمط الاجتماع المناسب للعمل الذي بين أيديهم. وعلى أقل تقدير، ستساعد تجربة طرق جديدة في الحفاظ على طابع اجتماعات جديدة، ومحفزة على المشاركة، ومثيرة للاهتمام.
لماذا ينجح الصمت؟
دعونا نذهب أولاً إلى تجربة تقليدية أجريت عام 1985 على يد الأستاذين الجامعيين غارولد ستاسر وويليام تايتوس حول موضوع مشاركة المعلومات. وضع الثنائي مخططاً أُعطي فيه لكل حاضر، قبل الاجتماع، معلومات تتعلق بمهمة الاجتماع. وكانت بعض المعلومات مشتركة بين جميع الحضور، وبعضها معلومات مميزة أُعطيت لأشخاص معينين. إذا جُمعت المعلومات المميزة معاً، سيُنتج الحضور قراراً مثالياً. وعلى أي حال، دون هذه المعلومات المميزة، عندما اعتمد الحضور على المعرفة المشتركة فحسب، فإنّ قراراتهم لن يكون لها تأثير كبير.
ولتوضيح ذلك، دعونا نفترض اجتماعاً يضم ثلاثة أشخاص (إبراهيم وسمية وتسنيم) يُعقد لمعالجة مشكلة زبون مزعج. يعرف إبراهيم ثلاثة أجزاء من معلومات ذات صلة؛ (أ) و(ب) و(ج). وتعرف سمية (أ) و(ب) و(د). وتعرف تسنيم (أ) و(ج) و(هـ). أي أجزاء من المعلومات ستجري مناقشتها؟ يُبين البحث أنّ من المرجح جداً بروز المعلومات (أ) و(ب) و(ج) ومناقشتها، ولكن (د) و(هـ) من المرجح أن يتم التغاضي عنهما وإخفاؤهما رغم أهميتهما. وتتسبب المعرفة المخفية وغير المشتركة في أداء ضعيف بالاجتماع، وأيضاً أفكار وحلول ذات جودة ضعيفة إجمالاً. وفي الحقيقة، جرى التوصل إلى قرار راجح في أقل من 20% من الوقت في ضوء هذا الانحياز للتركيز فقط على المعلومات المشتركة.
إذاً، لماذا يحدث هذا؟ عندما نقدم معرفة مشتركة، يقوم الآخرون بتعزيزها من خلال الاستحسان الاجتماعي. الإيماءات والنظرات الداعمة والابتسامات هي ردود فعل مشتركة نتلقاها عندما نقدم معلومات يشاركنا فيها الآخرون. ومن جانب آخر، يمكن للمعرفة المميزة أن تتحدى الأفكار التقليدية، ما قد يزعزع الوضع الراهن ويؤدي إلى عدم استحسان جماعي. يتراجع الحضور في أحوال كثيرة في الاجتماعات، بانتظار سماع ما يقوله الآخرون، وما قد يقوله مديرهم، خشية النظر إليهم كأشخاص متشددين أو غير ملمين بمجريات الأمور أو بعيدين عن الواقع. ويُمكن أن يكون الصمت حلاً لهذه المشكلة، لأنه يوفر مساحة لظهور المعرفة المميزة والأفكار الجديدة.
دعوني أوضح طريقة يمكن من خلالها أن يتجلى هذا بشكل ينسجم مع الأبحاث المستفيضة حول الموضوع. تخيل عدداً من الأشخاص يجلسون حول طاولة، ويضعون معاً حلولاً لمشكلة ما من خلال نقاش مفتوح. وفي الغرفة المجاورة، اجتمع عدد من الأشخاص حول طاولة ليضعوا حلولاً بصورة مستقلة للمعضلة نفسها بينما يجلسون في صمت (كأن يسجلوا أفكاراً على بطاقات مفهرسة). وبعد 30 دقيقة، جرى تقييم مقدار الحلول المقترحة وجودتها للمجموعتين. وقد أنتج المشاركون في محادثة صوتية خلال جلسة العصف الذهني أفكاراً قليلة إلى حد كبير. كما كانت الحلول الناتجة ذات جودة أقل وأفكار أقل إبداعاً مقارنة بالأفكار التي أنتجتها المجموعة الصامتة من المشاركين. وعلاوة على ذلك، يُبين بحث إضافي أنّ هذه الآثار السلبية حول الحديث، بالمقارنة مع الصمت، تتضاعف كلما زاد حجم الاجتماع.
ويوجد تفسيران للسبب الذي جعل حالة الاجتماع الذي يخلو من الحديث أنتجت حلولاً بكمية أكبر وجودة أعلى. فبداية، لم يخف الحضور في هذه المجموعة من التحقير الاجتماعي أو التقييم السلبي من الأقران. وكانت لديهم قدرة على العصف الذهني دون ضغط خلق أفكار مقبولة اجتماعياً، لأنّ أفكارهم كانت مكتوبة، بعكس المسموعة لدى الجماعة. وتتضاعف هذه الآثار الإيجابية عندما يفعل الحضور في الاجتماعات هذا دون الكشف عن هويتهم.
ثانياً، تبطل الاجتماعات الصامتة الآثار السلبية لشيء يدعى بـ "حجب الإنتاج". ففي اجتماع الكلام التقليدي، يمكن لشخص واحد في العادة أن يتحدث بالتتابع. ويخلق هذا حلقة كلامية، إذ يجب على أعضاء المجموعة التناوب في عرض أفكارهم. وقد يكون من الصعب العثور على فرصة سانحة، إذ يميل الأشخاص الخجولين والانطوائيين إلى الانتباه لألفاظهم بدلاً من مشاركة الأفكار. وإضافة إلى ذلك، ربما يختار أحد الحضور تأجيل مساهمته نظراً لشعور ينتابه حول أنّ فكرته لم تعد ذات صلة، مع حلول الوقت الذي تسنح له فيه الفرصة للمساهمة في النقاش. ويوفر الصمت في الاجتماعات فرصة لجميع الحضور للتعبير عن آرائهم وأفكار في آن واحد.
كيف تُعقد اجتماعات صامتة
الصمت ملائم بشكل خاص لبنود جدول الأعمال التي تتطلب أي نوع من العصف الذهني أو التفكير، ويتعين على قائد الاجتماع أن يطلب الصمت خلال العصف الذهني للحفاظ على نزاهة العملية. تنتج أفكار الحضور بشكل مستقل. وعلى العكس من معظم الاجتماعات التي تكون فيها المساهمات الفردية واضحة تماماً، يوجد في أغلب الأحيان مستوى من السرية في هذه الطريقة، وليس بالضرورة أن تحتوي أسماء أو دلائل على ما يكتبه كل شخص.
وبعد جمع الإجابات، يمتلك القادة بعض الخيارات المتعلقة بطريقة الاستفادة من المعلومات المجموعة. ويمكن للقائد أو القادة البدء من خلال فرز الإجابات إلى "أكوام" من الأفكار المتشابهة من حيث المفهوم (مثل التجميع). وفي العادة، يمكن أن تختلف المجموعة من حيث الحجم من 1 إلى 20 فكرة. وتحدث عملية التجميع هذه في الاجتماع نفسه، أو ربما في على نحو أكثر كفاءة، قبل الاجتماع المقبل بالضبط. ثم يعرض القائد أو القادة المجموعات "الأكوام" على الجميع لتحديد أيها يناقشون وبأي ترتيب.
ويتمثل نهج ثانٍ في إمكانية أن يُجري القادة عملية تصويت لإزالة جميع الأكوام التي لا تحظى بشعبية. ويمكن للقائد تقديم المجموعات "الأكوام" إلى المجتمعين من خلال لصقها على الجدار أو لوحة النشرات أو مستندات جوجل أو في تطبيق ما، وغيرها من الوسائل. يمكن لكل شخص من الحضور في كل اجتماع أن يُدلي بصوته لصالح كومته أو أكوامه المفضلة. تُسجل الأصوات لكل كومة، ويجري استكشاف الأكوام التي حصلت على الدعم الأكبر من خلال نقاش جماعي. ويعمل أسلوب التصويت هذا على تقليل كمية الأفكار، ليوفر في نهاية المطاف من وقت الحضور، بطريقة شمولية وديمقراطية.
تتجاوز الطريقة الثالثة الصمت بخطوة إضافية. إذ تُقدَّم كل فكرة أو كومة على ورقة إيضاحية وتُلصق على الجدران أو المكاتب (أو يتم فعل ذلك في تطبيق ما)، وتُنشر عادة في أرجاء الغرفة لتقديم مستوى ما من الخصوصية. يتجول الحضور المجتمعون في أرجاء الغرفة مع أقلام يستخدمونها لإضافة تعليقات على الأفكار أو تفاصيل إضافية للأفكار المطروحة. قد تختلف هذه التعليقات أو الاقتراحات، فتتراوح بين "لست متأكداً من أنّ هذا الأمر عملي" و"إليك تطوير إضافي..." و"أحب هذه الفكرة". ويستطيع أصحاب الفكرة الأصلية، أو غيرهم، الرد على الآراء التقويمية والنقد، ولكن لا يجب عليهم ذلك، بينما يستمر الحضور في التجول في الغرفة والمشاركة برسائل مكتوبة. وتحدث المناقشة بشكل أساسي من خلال الكتابة، فتتكدس التعليقات ويظهر تسلسل نصي. وتنتهي العملية عندما لا يُضاف تعليق جوهري على المنشورات (غالباً في غضون 15 - 20 دقيقة). وبشكل عام، تحظى هذه الطريقة بإعجاب المشاركين، ويرونها مميزة وتفاعلية وشمولية وموفرة للوقت وتحث على المشاركة الفعالة.
وإلى جانب الورقة والقلم، يمكن تيسير أساليب عدم الحديث بسهولة من خلال تطبيقات موجودة ومتوفرة على الهواتف وأجهزة الكمبيوتر. وتستطيع هذه التطبيقات تسجيل مدخلات الحضور بسهولة، وتوسيع النقاشات إلى ما هو أبعد من الاجتماع نفسه. وتتضمن بعض المميزات المفيدة التصويت الفوري دون الكشف عن هوية المصوّتين، والترتيب حسب الدرجة، وتصنيف خيارات الأفكار، والتعليق السري، وإمكانية تحميل محتوى الاجتماع.
وأخيراً، يمكن تنفيذ هذه الطرق القائمة على الصمت جمعيها، بشكل غير متزامن، قبل الاجتماع الفعلي. إذ يستطيع القائد جمع المعلومات قبل بضعة أيام من موعد الاجتماع، ومشاركة ما يظهر لديه أثناء الاجتماع نفسه.
وكقادة للاجتماعات، يجب عليا أن نفعل ما بوسعنا للاستفادة من الأفكار البارعة والمميزة والمهمة لموظفينا بصورة تتسم بالفعالية والكفاءة. ففي النهاية، نحن مسؤولون عن وقت الآخرين. لذا، ابحث عن الآراء التقويمية وتواصل باستمرار مع المشاركين في الاجتماع للتعلم والتكيف والنمو. وبينما نلجأ عادةً إلى الطرق التقليدية للاجتماعات، توفر الطرق القائمة على الصمت خيارات إضافية، تُبين الأبحاث أنها تحقق نتائج أفضل. تعزيز العصف الذهني المستقل، وأسلوب التجميع والتصويت السري والتواصل المكتوب، من شأنه أن يوسع صناديق الأدوات التي يعتمد عليها القادة، ما يجعل أداءهم أكثر فعالية. وبينما لا يتعين أن يستبدل الصمت بالحديث بشكل كامل، إلا أنه قد يكون مفيداً في بعض الأوقات. ويمكن أن يكون الصمت من ذهب عندما يتعلق الأمر بتعزيز نجاح الاجتماعات.