كيف يمكن للولايات المتحدة التحكم على نحو أفضل بتكاليف الرعاية الصحية وجودتها مع تحقيق التغطية الشاملة؟ لا يتمثل الخيار الأقوى ببرنامج "ميديكير للجميع" (Medicare for All) الذي يلغي التأمين الخاص، بل في الخيار العام الذي من شأنه السماح للناس الاختيار بين برنامجي ميديكير والتأمين الخاص. ولكن لن ينجح الخيار العام في التحكم بالتكاليف وتحقيق التغطية الشاملة إلا إذا تم تطبيقه من دون الحيل التمويلية التي تميز برنامج ميديكير.
وفي هذه المقالة، نقوم بتعريف المبادئ التي تجعل الخيار العام منافساً شرعياً وقوياً لشركات التأمين الخاص، وتحديد الطريقة التي توسع بها هذه المنافسة إمكانية الوصول وتحسين التكاليف والجودة. ولكن أولاً، سنوضح الأهمية الكبيرة التي تتمتع بها التغطية الشاملة.
التغطية الشاملة للرعاية الصحية: سياسات الحياة والموت
تعتبر التغطية الشاملة للرعاية الصحية أمراً مركزياً للصحة الجسدية والمالية والسياسية لأي دولة. ولا يتضح ذلك في أي مكان في العالم كما في الولايات المتحدة، فهي أغنى دولة في العالم ولا تزال تضم 28.3 مليون نسمة غير مؤمنين صحياً. وقد مات الأميركيون حرفياً وأفلسوا وأصيبوا بإعاقات حقيقية، واحتجزوا في وظائف لا مستقبل لها لأنها تقدم التأمين. ولكن، وعلى الرغم من انعدام التغطية الشاملة، تنفق الولايات المتحدة نسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي أكبر من أي دولة أخرى وجودة الرعاية الصحية فيها غير منتظمة. وعلى الرغم مما تسجله من أرقام عالمية وما تملكه من تقنيات طبية إلا أنها تصنف في أدنى مرتبة بين الدول المتقدمة في تلافي حالات الوفاة التي يمكن تجنبها.
تملك الدول المتطورة الأخرى تاريخاً طويلاً مع التغطية الشاملة، إذ بدأت في المقام الأول كتغطية التأمين الصحي الذي يعتمد على أرباب العمل في ثمانينات القرن التاسع عشر في ألمانيا، ثم تحولت إلى تغطية شاملة تدعمها الحكومة في إنجلترا في عام 1948، ثم سارت عبر أوروبا الغربية والشرقية في الأعوام الخمسة والعشرين التالية، ثم إلى أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وكندا، ما جعل الولايات المتحدة استثناء بين البلدان المتقدمة. وأخيراً وبعد 65 عاماً و12 رئيساً، أقرت الولايات المتحدة قانون الرعاية ميسورة التكلفة عام 2010، بهدف تخفيض عدد المواطنين غير الحاصلين على التأمين، أي 45 مليون شخص.
وتم تمرير القانون بصعوبة وبعد معارك شديدة، لكن لا تزال نتائجه بعد تسعة أعوام مختلطة. على الجانب الإيجابي، أمّن قانون الرعاية الميسرة على أكثر من 20 مليون أميركي إضافي، الأمر الذي أدى إلى خفض النسبة المئوية لسكان الولايات المتحدة الذين لم يكن لديهم تأمين من 17% في عام 2008 إلى 10% في عام 2016، كما تناقص عدد المواطنين الذين يواجهون الصدمات المالية بعد التأمين عليهم وفق القانون الجديد. وعلى الرغم من أن البيانات لا تزال باكرة، إلا أنها قد تساعد على الحفاظ على صحة الأميركيين.
ولكن هناك جوانب سلبية أيضاً. يقول شعار القانون الجديد: "إذا كنت تحب خطة تأمينك أو طبيبك فلتحتفظ به"، إلا أنه أثبت زيفه بالنسبة لكثيرين. كما تم تأمين 14.7 مليوناً من ضمن أكثر من 20 مليون شخص غير المؤمنين عن طريق برنامج ميديكايد (Medicaid)، وهو برنامج التأمين الصحي للمعسرين في الولايات المتحدة، وقد وجد بحث "تجربة أوريغون لتأمين ميديكايد" أن هذا البرنامج لا يؤثر على الحالة الصحية (ولكن كان له أثر إيجابي على الصحة النفسية المبلغ عنها ذاتياً). ولا يزال هناك ملايين ممن لا يستطيعون تحمل نفقات الرعاية الصحية، إذ ارتفعت رسوم التأمينات على المقايضات المرتبطة بقانون الرعاية ميسورة التكلفة بنسبة كبيرة تصل إلى 26%، وهو ما يفسر تراجع التسجيل غير المدعوم بنحو 2.5 مليون نسمة بين عامي 2017 و2018. وواجه المسجلون حديثاً في برنامج التأمين الذين لم يغطهم برنامج ميديكايد سياسات قانون الرعاية ميسورة التكلفة باقتطاع مبالغ كبيرة لا تقلّ عن 1,400 دولار للشخص الواحد أو 2,800 دولار للعائلة. وأخيراً، لم يكن لدى شركات التأمين القليلة التي وافقت على المشاركة في قانون الرعاية ميسورة التكلفة حافزاً يدفعها للتنافس على السعر وتخفيض التكاليف العينية أو توفير مجموعة واسعة من مقدمي الخدمة.
إذن، ما تحتاج إليه الولايات المتحدة ويريده الأميركيون هو أقساط تأمين وتكاليف عينية أقل، وعدداً كافياً من شركات التأمين الخاصة للإيفاء بوعد "إذا كنت تحب خطة تأمينك أو طبيبك فلتحتفظ به". بالإضافة إلى ما تقوله الاستبانات، وهو عدم إلغاء الشروط الموجودة مسبقاً، وعدم وضع قيود مستمرة مدى الحياة على الفوائد، وتغطية الأبناء حتى عمر 26 ضمن خطة تأمين الآباء.
من الواضح أن خيار "ميديكير للجميع" الذي سيلغي جميع شركات التأمين الخاصة لا يحمل الإجابات التي يريدها الأميركيون. فهم لا يرغبون في خسارة تأمينهم الصحي الخاص من أجل بيروقراطية عامة ولا من أجل دفع تكاليفها السنوية التي تبلغ 3.2 مليار دولار على شكل ضرائب أعلى.
كيف يمكن للخيار العام معالجة نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة؟
يمكن أن يساعد الخيار العام على تحقيق هدف تحسين القدرة على تحمل تكاليف الرعاية الصحية، واستمرار التأمين الخاص، وتحسين إمكانية الوصول إلى شركات التأمين ذات الجودة الرفيعة، ولكن بشرط أن يتم تنفيذه بأسعار تعكس تأميناً واقعياً ومحاسبة دقيقة ومنصفة للتكاليف.
إن عنصر برنامج ميديكير في الخيار العام شائع إلى حد كبير، إذ يشعر 85% من المستفيدين من برنامج ميديكير الفيدرالي بالرضى عنه. لم لا؟ فالعديد من الأطباء يقبلونه ولا يدفع المستفيدون منه سوى جزءاً ضئيلاً من التكلفة تاركين ما تبقى للأجيال القادمة. يمنح مجلس النواب الأميركي، أعضاءه الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، فوائد للمستخدمين تتجاوز قيمتها ما ينفقونه بدرجة كبيرة. إذ يتلقى كل مستفيد وسطياً مبلغاً إضافياً يصل إلى 310,000 دولار أكثر مما يدفعه على شكل فوائد. ويتم تأجيل الفواتير غير المدفوعة، التي تبلغ 37 مليار دولار على الأقل، لتدفعها الأجيال المستقبلية على شكل عجز أكبر في الميزانية الفيدرالية. يقول معهد غالن (Galen) أن عجز برنامج ميديكير السنوي مسؤول عن ثلث الديون الفيدرالية في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن حجم برنامج ميديكير الهائل يضفي عليه كفاءات إدارية وشرائية حقيقية. وينفق برنامج ميديكير تكاليف إدارية أقل بنحو سبع مرات من شركات التأمين الخاصة. كما أنه يدفع للمستشفيات نسبة أقل بنحو 40% ويدفع لمزودي الخدمة رسوماً أقل مما تدفعه الشركات الخاصة مقابل الخدمات ذاتها بمرتين إلى ثلاث مرات ونصف. يدعي البعض أن مقدمي الرعاية الطبية يحولون الرسوم غير المسددة من برنامجي ميديكير وميدكايد إلى شركات التأمين الخاصة فقط، وتم دحض هذه التهمة. ولكن سيكون من الأفضل أن تساعد هذه المدفوعات على النحو الملائم في التخلص من ثلث نفقات الرعاية الطبية التي يعتبرها كثير من الخبراء هدراً مطلقاً.
يمكن للخيار العام الاستفادة من هذه الكفاءات، ولكن بشرط أن تطبق من دون اتباع الحيل المالية التي خفضت على نحو مصطنع تكاليف برنامج ميديكير على حساب ذريتنا، الأمر الذي سيسمح له بالتنافس على نحو غير عادل مع شركات التأمين الخاصة.
ومن أجل ضمان عدالة المنافسة بين جميع مؤسسات التأمين، يجب أن تتوافق مبادئ التمويل العام مع مبادئ شركات التأمين الخاصة. وأحد الأسباب هو أن المستخدمين الحاليين هم من يجب عليهم تمويل نفقات الخيار العام، لا أجيال المستقبل. بعبارة أخرى، يجب أن يعمل الخيار العام على مبدأ "الدفع بحسب الاستهلاك" تماماً كما هو الحال في شركات التأمين الخاصة، كما يجب أن تشمل المحاسبة في الخيار العام جميع نفقاته، كالالتزامات غير الممولة لفوائد ما بعد التقاعد لموظفي ميديكير، التي غالباً ما تغمر بتمويل جهة أخرى غير ميديكير. كما يجب أن تحسب تكلفة الأموال التي استثمرها دافعو الضرائب الأميركيون وحاملو الديون في بناء البنى التحتية لميديكير وتجهيزاتها وموظفيها. ففي جميع الأحوال، تتكبد شركات التأمين الخاصة تكاليف بناء البنية التحتية التي تتيح لها تسويق منتجاتها، بينما تحصل ميديكير على هذه الأصول مجاناً بموجب الممارسات المحاسبية الحالية. ومن أجل إبقاء الأمر واقعياً، يقوم المحاسبون الخبراء بالتدقيق بصورة روتينية على البيانات المالية للخيار العام من أجل المصادقة على ذكر نفقاتها بدقة تماماً كما يفعلون مع شركات التأمين الخاصة.
وستجبر شركات التأمين الخاصة على التنافس مع الكلفة المنخفضة للخيار العام عن طريق تحسين الأسعار والخدمات والجودة. على سبيل المثال، يمكنها تقديم سياسات منخفضة التكاليف تنقل المسجلين من الولايات عالية التكلفة إلى الولايات التي تتمتع بجودة عالية وتكاليف منخفضة، مثل يوتاه. أو يمكنها محاكاة ما فعلته شركة آشلي فرنيتشر (Ashley Furniture) عندما أرسلت أحد المؤمن عليهم إلى المكسيك ذات الكلفة المنخفضة من أجل إجراء تقويم للعظام أجراه جراح أميركي ودفعت له ثلاثة أضعاف ما يدفعه برنامج ميديكير عن المريض الذي تبلغ قيمته 5,000 دولار، بالإضافة إلى جميع نفقات السفر والنفقات العينية للمريض. (لأسباب سياسية، لا يمكن لبرنامج ميديكير أن يحاكي السياسات التي تفضل بعض الولايات أو ترسل المسجلين إلى خارج الولايات المتحدة). ومن أجل مساعدة الشركات الخاصة على الدخول في المنافسة، لا بد للقانون الجديد من السماح بوضع حزم للتأمين الصحي والتأمين على الحياة والتأمين ضد الإصابات والإعاقات وأي منتجات أخرى بالإضافة إلى إمكانية بيعها عبر الولايات. وستؤدي هذه المنافسة بين شركات التأمين ومقدمي الخدمة إلى تخفيض التكاليف، وبالتالي زيادة إمكانية الوصول إلى التغطية، مما سيؤدي على الأرجح إلى تحسين جودة الرعاية.
وبرأينا الشخصي، من الأفضل أن تحاكي الولايات المتحدة ثلاثة بلدان أوربية وهي ألمانيا وسويسرا وهولندا، إذ يشاد بجودة أنظمتها للرعاية الصحية ذات التغطية الشاملة، التي تنفق عليها تكاليف أقل بكثير مما تنفقه الولايات المتحدة. تتمتع هذه البلدان بصحة مالية أكبر بكثير من دول تدير حكوماتها أنظمة التأمين الصحي المشابهة لنظام "ميديكير للجميع". ولكن الواقع هو أن هذا النموذج غير مقبول سياسياً في الولايات المتحدة، لأنه يعتمد بالكامل على شركات التأمين الخاصة وسوف يتطلب إلغاء برنامج ميديكير الذي يتمتع بشعبية كبيرة ودفع الناس إلى شراء وثائق التأمين الخاصة.
فالأميركيون عموماً يحبون كلاً من التأمين الخاص وبرنامج ميديكير، ولكنهم يمقتون تكاليفها إجمالاً. وفي حين يلغي برنامج "ميديكير للجميع" شركات التأمين الخاصة ويزيد من أعباء دافعي الضرائب، يبقي الخيار العام على شركات التأمين الخاصة ويتحكم بتكاليف الرعاية الصحية. ولكن سيتطلب ذلك من البنية التشريعية والإدارية الحكومية الأساسية والرقابة المستقلة ضمان أن يحقق الخيار العام هذه الأهداف على نحو مشروع من دون اللجوء إلى الحيل المالية التي يتبعها برنامج ميديكير.