حتى لو كنت تشاهد حملة انتخابية مليئة بالضجيج والأصوات، فهناك أشياء لا يمكنك التغاضي عنها، مثل هذه الجملة التي قالها دونالد ترامب أمام أنصاره في ولاية آياوا: "في وسعي أن أقف في وسط نيويورك وأطلق النار على أحدهم، ولن أخسر أي أحد ممّن سيصوتون لي".
ظهرت في مجلة "بوليتيكو" مؤخراً، مقالة تصف ترامب بأنه "النسخة الأميركية من سيلفيو برلسكوني"، وبرلسكوني كما هو معلوم رئيس وزراء إيطاليا الأسبق الذي وقف مرة ووصف نفسه بأنه "أفضل زعيم سياسي في أوروبا والعالم".
وقد سمعنا قبل فترة قصيرة أيضاً ذلك التعليق الصادم الذي قاله الملياردير سيئ السمعة مارتن شكريللي-الذي رفع أسعار عقار يوصف للأطفال حديثي الولادة ومرضى الإيدز من 13 دولاراً ونصف الدولار للحبة الواحدة إلى 750 دولاراً- وكتب بغرورٍ على حسابه في "تويتر" في أثناء جلسة استماع في "الكونغرس": "أنا لست شخصاً تستطيعون العبث معه".
وسواء وصفنا هذه التصرفات بأنها جرأة أو عجرفة، فإن الشيء الأكيد هو أن أشخاصاً من أمثال ترامب وبرلسكوني وشكريللي لا يعانون إطلاقاً من نقص في الثقة بالنفس، بل إن ما يمتلكونه من فرط الثقة بالنفس بهذا القدر الصادم والمتواصل أمر قد حيّر علماء النفس لعقود طويلة.
كيف تستمر هذه الحالة من فرط الثقة عند الإنسان؟ في مقالة ظهرت في مجلة "نيتشر" (Nature) عام 2011، يذكر دومينيك جونسون المتخصص في علم الأحياء التطوري، والعالم السياسي جيمس فولر، أن فرط الثقة "يؤدي إلى تقييمات خاطئة وتوقعات غير واقعية وقرارات خطيرة. لذا، فإنه من المحيّر فعلاً كيف أن مثل هذا الاعتقاد الخاطئ يتطور أو يستمر في ظل وجود عدد متزايد من الاستراتيجيات المتنافسة التي تعتمد على الآراء الدقيقة والموضوعية". وحين تتجلى الحقيقة، كما يحدث دوماً، فإن المنطق يفرض أن ينال مثل هؤلاء نصيبهم من التوبيخ والمحاسبة.
ولكن هذا لم يحدث بعد، ولذا نرى، مثلاً، أن ترامب يلقي باللوم على خسارته (حتى اللحظة) في الفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري على النظام الذي يصفه هو بأنه "زائف" و"رديء". أما شكريللي الذي اختارَ حقه في الالتزام بالصمت في أثناء جلسة الاستماع في "الكونغرس" فقد قال عن أعضاء اللجنة الذين استجوبوه إنهم مجموعة من "الحقمى". أما برلسكوني فقد وصل إلى مستوى لم يصل إليه أحد حين واصفاً نفسه بأنه "نبي السياسة" وادعى أنه ملاحق ومضطهد من قبل "هيئة خبيثة" في إشارة إلى القضاء الإيطالي. وبقي برلسكوني على هذه الثقة بالنفس حتى في أثناء التحقيق في تهم غير أخلاقية خلال حفلاته الماجنة.
لماذا يبقى أصحاب الثقة المفرطة بالنفس مرتاحين بجهلهم وعدم إدراكهم لجوانب ضعفهم؟
ظهرت في الآونة الأخيرة، بعض الأبحاث التي تسلط بعض الضوء على هذه المعضلة. يعتقد الباحثون في علم النفس الاجتماعي، جويس إلينغر، وإينسلي ميتشم، وكارول دويك، أن الجواب يكمن في المعتقدات الباطنة التي يمتلكها الأشخاص مفرطو الثقة بخصوص قابلية تشكّل الشخصية والقدرة. بعد عقود من الأبحاث التي أجراها دويك وغيره من العلماء تبين أن بعض الأشخاص يرون أن الشخصية والذكاء أمران "ثابتان" نسبياً (أي أن الإنسان يولد بحالة معينة يصعب تغييرها)، بينما يرى آخرون أن الشخصية قابلة للتغير والتطور من خلال بذل الجهد والخبرة.
لهذه المعتقدات آثار بالغة على الطريقة التي نرى بها أنفسنا والآخرين والطريقة التي نتعلم بها (أو إحجامنا عن التعلّم). فعلى سبيل المثال، يميل الأشخاص ذوو التوجهات الثابتة إلى أن يكونوا أكثر رغبة في إثبات أو إظهار أنهم أذكياء، بدل أن يبحثوا عن الفرص التي تجعل منهم أشخاصاً أكثر ذكاء.
وتطرح إلينغر وزملاؤها بعض النظريات عن فرط الثقة، وتقول إنها ظاهرة قد تكون مرتبطة بجانب مُغفَلٍ من ذهنية التوجهات الثابتة. وقد أجرى هؤلاء الباحثون دراسات على مجموعة من الطلبة، حيث يحل الطالب مجموعة من الأسئلة بمستويات متعددة من الصعوبة. وكان يُطلب من الطلبة قبل معرفة نتيجتهم تخمين النتيجة التي حصلوا عليها. وقد تبيّن أن الطلاب الذين يعتقدون أن قدراتهم قابلة للتغيّر والتطور (ذهنية النمو) بالغوا في تقدير نتيجتهم بنسبة 5% فقط. أما الشخص الذي يعتقد أن قدراته ثابتة لا تتغير، فيميل إلى تضخيم تلك القدرات التي لديه.
ولمعرفة ما يجعل هذه المبالغة في استعراض القدرات يتواصل، كان على ألينغر وزملائها البحثُ في مستوى أعمق. حين نظر الباحثون إلى الطريقة التي تعامل بها الطلبة مع الاختبار وجدوا أن الطلبة أصحاب "ذهنية الثبوت" قد أمضوا وقتاً أطول في حل المسائل الصغيرة ووقتاً أقل في حل الصعبة. وهذا يعني أنهم اهتموا أكثر بالمسائل التي تعزز من حالة فرط الثقة لديهم، ما يؤكد على اعتداد بالنفس وتجاهل كل ما عدا ذلك قدر الإمكان. وهكذا، فإن الغرور ليس هو فقط ما يسبق السقوط، بل إنه سبب العرقلة والتعثّر.
يظهر هذا النمط من السلوك لدى أصحاب ذهنية الثبوت في أبحاث أخرى تؤكد على العواقب الوخيمة لمثل هذا التفكير. فالأشخاص الذين يرون أن قدراتهم ثابتة يتجنبون مواجهة الصعوبة وينسحبون في حال التعثّر، ويتصرفون بطريقة دفاعية أمام التحديات. كما أنهم كثيراً ما يتسرعون في إطلاق الأحكام ويلجؤون إلى الصور النمطية، ويميلون إلى الانتقام بعد الخلاف وإضمار الحقد لمن يعتدي عليهم.
تشير أفضل الأدلة التي حصلنا عليها إلى أن هؤلاء الأشخاص مخطئون، فشخصياتنا وقدراتنا في واقع الأمر ليست ثابتة بشكل قاطع. لسنا نعني هنا أن الإنسان لا يتمتع ببعض السمات التي ترافقه لفترات طويلة في حياته، ولكن الدراسات الطولية أثبتت أن طبائع الشخص تتغير بشكل كبير مع التقدم بالعمر، كما أن نسبة الذكاء كانت ترتفع بشكل كبير عندما يكون الشخص في بيئات تعلّم أفضل. هنالك حدود ومقيّدات بلا شك، ولكن الإنسان قادر على التغيير ويتغير دوماً من خلال الجهد والخبرة.
من الضروري الاعتراف أن فرط الثقة في بعض الظروف قد تكون نافعة. فهناك بعض الدراسات التي تشير إلى أن الإنسان ذا الثقة المفرطة بالنفس يميل إلى أن يتمتع بمكانة أعلى في محيطه وأن الناس حوله (لفترة قصيرة على الأقل) يرون أنه أكثر كفاءة منهم. ويرى الباحثان جونسون وفولر أنه حين تكون التكلفة النسبية للمنافسة في تحدّ ما منخفضة والمكاسب المحتملة عالية، فإن فرط الثقة بالنفس يلعب دوراً حاسماً (فكر، مثلاً، بطاووس غير مثير ينفش ريشه أمام أنثى محتملة، فمجرد المحاولة هنا يعد مثالاً على فرط الثقة، ولكن ما الذي خسره هذا الطاووس حين حاول؟).
يبدو أن فرط الثقة سيستمر لدى أشخاص مثل ترامب وبرلسكوني وشكريللي، على الأقل لأننا نتيح لهم ذلك دون محاسبتهم، ويظهر كذلك أن الناس يخلطون بين التعجرف المتبجح والقدرة الحقيقية. يحذّر توماس تشامورو بريموزيتش في كتابه "الثقة" (Confidence)، أن تقدير كفاءة الإنسان من خلال النظر إلى ثقته بنفسه هي طريقة أكيدة للخطأ في التقدير. (نحن نعرف أن جميع الزرافات من الثدييات، ولكن ليس كل الثدييات زرافات، وهكذا فإن الأشخاص ذوي القدرات المتميّزة يتمتعون عادة بالثقة بالنفس، ولكن ليس كل من يتمتع بالثقة بالنفس ذو قدرة عالية بالضرورة).
نحتاج بدل الاعتماد على عنصر الثقة بالنفس لتقدير الخبرة والكفاءة أن نجهد أنفسنا قليلاً في النظر إلى سجل خبرات الشخص وإنجازاته عند التفكير في توظيفه أو الاستثمار معه، أو حتى في انتخابه ليكون رئيساً للبلاد. صحيح أن من الصعب على الشخص مفرط الثقة أن يتعلم، ولكن هذا لا يعني أن نتوقف نحن كذلك عن التعلم.
هل لديك أشخاص مفرطون في الثقة إلى حد الخطورة في عملك؟ وهل تواجه صعوبات في التعامل معهم؟ شاركنا تجربتك من خلال التعليقات.