باتت مفردة "الأصالة" كلمة رائجة بين قادة المؤسسات، إذ يشجّع أرباب العمل كلاً من الموظفين والمرشحين للوظائف للحفاظ على أصالتهم والتصرف على طبيعتهم في بيئات ومقابلات العمل. وبينما يمكن أن تكون "الأصالة" سمة إيجابية (إذ أنها مرتبطة بمجموعة من النتائج الإيجابية للموظفين مثل الانخراط في العمل وإبداء الرأي والرضا في مكان العمل كما في الحياة عموماً والأداء المتميز والرفاه)، تُعرّض العديد من المؤسسات نفسها دون قصد للإخفاق عندما تنقاد خلف ركب "الأصالة" من دون وعي كامل لتبعات ذلك. وفي الواقع تخلق تلك المؤسسات من خلال حثّ الموظفين ليكونوا على طبيعتهم، توتراً غير مقبول وغير أخلاقي بين أن يكون الموظفون على طبيعتهم من ناحية، ولديهم الأهلية للعمل من ناحية أُخرى.
في حين يمكن لمفردة "الأصالة" أن يكون لها معان متباينة بالنسبة للموظفين، إلّا أنها عادة ما تعني بالنسبة للمؤسسات أن يكون الموظفون أصيلين ويتصرفون على طبيعتهم في بيئة العمل. ويمكن أن تتبدّى طبيعة وأصالة الموظفين عبر طرائق عدة ابتداء من أسلوب حديثهم وانتهاء بطريقة ترتيب مكاتبهم. لكن سنركّز اهتمامنا في هذه المقالة على طريقة شائعة أُخرى يعبّر فيها الموظفون عن ذواتهم الطبيعية (ألا وهي مظهرهم الخارجي) وذلك من خلال منظورين اثنين لكي نرى كيف ستجري الأمور.
أولاً، لنتأمّل حالة تشاستيتي جونز، التي تلقّت عرض عمل رسمي من مركز إجراءات تسوية مطالبات التأمين عام 2010. غير أنّ هذا العرض أُلغي عندما رفضت جونز التخلّي عن ضفائرها التي كانت شركة التأمين تلك تنظر إليها بوصفها تسريحة غير ملائمة لمعاييرها وثقافتها. وعلى وجه الخصوص، فإنّ الضفائر بحسب مدير الموارد البشرية في الشركة "تُعتبر نوعاً من الفوضوية"، وبالتالي، تمثل تسريحة الشعر هذه انتهاكاً لمتطلبات الشركة بأن يظهر جميع الموظفين "بمظهر مهني يلائم مكان العمل". رفضت جونز قصّ ضفائرها، لاعتقادها أنّ تلك الضفائر تعكس هويتها كامرأة، وتشكّل أحد مكوّنات تعبيرها عن ذاتها وأصالتها. ورفعت دعوى في حق شركة التأمين تلك، غير أنها خسرتها في نهاية المطاف لأن المحكمة وجدت أنّ بالرغم من وقوف القانون ضد التمييز القائم على طبيعة شعرها (وهي سمة ثابتة، وما من خيارات أمام الموظفين في هذا الشأن)، لكن بمقدور الشركات قانوناً أن تميّز بناء على تسريحة الشعر (وهي سمة متغيرة، وهناك خيارات أمام الموظفين). في هذا المثال، تتضافر ثقافة المؤسسات والنظام القانوني لتعزيز فكرة أنّ الشعر المخالف للنمط الأوروبي لا يلائم المهنية في العمل.
وعلى الرغم من تشجّيع المؤسسات لموظفيهم بحماسة على أن يكونوا بشكل طبيعي في مكان العمل، غير أنّ ذلك ربما يكون مستحيلاً بالنسبة للموظفين الذين لا يطابقون المعايير المهنية لتلك المؤسسات. وبينما أفضت هذه الحالة تحديداً إلى التقاضي، بإمكانك أن تتصوّر كيف يمكن أن تجري الأمور في حالات مماثلة أقل وضوحاً تحدث كل يوم.
والآن، دعونا نتأمل رمزاً بصرياً مختلفة، حيث طلبت مؤخراً زميلتي تينا أوبي من مجموعة متنوعة يفوق عدد أفرادها 100 من الباحثين والمتمرنين تحديد أبرز رموز ثقافة ومهنية المؤسسات وأكثرها شيوعاً. فأول ما صرّح به المشاركون كانت "بدلة العمل" وكانوا محقيّن في ذلك. غير أنّ هؤلاء المشاركين لزموا الصمت عندما طُلب منهم تحديد المنشأ الأصلي لبدلة العمل: ألا وهو المحكمة الملكية الأوروبية. إذ أنه في عام 1666، أدخل تشارلز الثاني الزي الملكي الباذخ في ألوانه، ما ساعد في تمييز أفراد الطبقة الملكية عن سائر الطبقات الأدنى. وظلّ هذا النمط من اللباس شائعاً حتى نشوب الثورة الفرنسية، حيث جعلت التوترات الطبقية والصراعات الناجمة عن غياب المساواة من غير الحكمة ارتداء الزي الملكي الذي يرمز إلى الطبقة الاجتماعية النخبوية. وبحلول عام 1799، كان مشهد أنماط اللباس قد تجهّز لإدخال بعض التعديلات على الأزياء السابقة. وهنا ظهر بيو برومل البريطاني "المتأنق" من الطبقة الأدنى، الذي صعد السلم الاجتماعي من خلال تقديمه نصائح وأفكار جديدة حول الأزياء والموضة إلى الطبقة النخبوية الثرية. ويعود الفضل إلى برومل في تعريف الرجال الأوروبيين على البدلة ذات الألوان الداكنة والمفصّلة بعناية وإتقان مع ملحقاتها من ربطات العنق المعقودة بطريقة فريدة ومعقدة جداً. وفي بادئ الأمر، ارتدى رجال الطبقة النخبوية هذه البدلات الأنيقة في المناسبات الاجتماعية ولأغراض التسلية وتمضية الوقت. ومع الزمن بات ارتداء هذه البدلات منتشراً على نطاق واسع وتطوّر ليغدو اللباس المفترض والواجب في بيئة العمل. ومع ذلك، لا يدرك غالبية المدراء، شأنهم في ذلك شأن الباحثين والمتمرّنين، أنّ هذا التقليد مرتبط بالتاريخ الأوروبي. إنه مجرد مثال واحد، ولكنه واسع الانتشار، يُظهر كيف أنّ المعايير الثقافية لبلد أو منطقة ما (وفي حالتنا هذه المعايير المنبثقة عن رموز طبقية) غدت اليوم معايير سائدة تدل على مدى المهنية.
كل هذا يُعيدنا إلى مسألة الأصالة ويجعلنا نطرح السؤال المهم التالي: عندما يقيّم المدراء مدى ملاءمة الموظفين لمؤسساتهم، هل يقومون من دون قصد بالحكم على مدى ملاءمة الموظفين للمعايير التي تفرضها ثقافة الغالبية بدل الحكم على مدى ملاءمتهم لأداء مهامهم على أحسن وجه؟ ولكي تبدأ المؤسسات بتشجيع موظفيها على أن يكونوا أصيلين، يتعيّن على القادة الاعتراف أولاً بأن ثقافة المؤسسة (وبالتالي مفهوم المؤسسة للمهنية) تتأثر بتاريخ المكان الذي تنشأ فيه المؤسسة وتتأثر بالمعايير والقواعد السائدة في هذه المكان. وعلى القادة أن يسألوا أنفسهم أيضاً: هل مؤسستي تشجع حقاً على الأصالة إذا كانت تلتزم بالأفكار السائدة حول المهنية؟ وهل من الأخلاقي أن نشجّع الموظفين لأن يتصرفوا على طبيعتهم ويكونوا أصيلين في العمل، وفي الوقت نفسه نستخدم، عن قصد أم عن غير قصد، معايير منحازة ثقافياً للحكم على مدى ملاءمتهم للوظائف التي يشغلونها؟، إذا كان الجواب على أحد السؤالين أو على كليهما بنعم، هل تهتم مؤسستي حقاً بأصالة موظفيها أم بمجرّد الامتثال للمعايير السائدة؟
ربما تكون هذه الفكرة صعبة الاستيعاب، ولابد من إجابات قوية عن تلك الأسئلة. فقد يعترض البعض قائلاً: "لكن أصالة الموظفين أمر جيد، وحتى أصغر الخطوات نحو تحقيقها تبقى أفضل من تشجيع الموظفين على أن يكونوا متشابهين كقطع الكعكة". صحيح أنّ أصالة الموظفين هي أمر إيجابي، لكن خبرتنا تثبت أنّ النتائج الإيجابية للأصالة مثل الانخراط في العمل وتحقيق الرضا والتوازن في الحياة والعمل معاً إنما تظهر في الغالب عندما يعمل هؤلاء الموظفون ضمن ثقافات مؤسساتية تقدّر الأصالة فعلاً حق تقدير، ولا تكتفي بمجرد التشدّق بها.
ومن بين الانتقادات الأُخرى في هذا السياق، أنّ المؤسسات تحتاج إلى معايير وأسس لكي تعمل بشكل فعال. هذا صحيح بالطبع، ولعلّنا بكل تأكيد لا نقترح إلغاء جميع المعايير، بل جلّ ما نذهب إليه هو أنّ على المؤسسات حينما تقول: "نحن نقدّر الأصالة عالياً"، التأكد من أنها تقوم بذلك فعلاً. فعندما يلاحظ المدراء، أنّ موظفيهم يقدّمون أنفسهم بطريقة موحّدة على نحو صارخ، بغض النظر عن تصريح مؤسساتهم بأنها تقدّر الأصالة عالياً أم لا، فإنّ ذلك يكون مؤشراً على أنّ أولئك الموظفين غير مقتنعين بتقدير مؤسساهم الأصالة حقّ تقدير.
فماذا بوسع المدراء والقادة فعله لبناء ثقافات مؤسساتية تمنح الأصالة ما تستحقّه من التقدير؟
لاحظ ودوّن
تبقى المعايير المهنية السائدة في المؤسسات بعيدة عن الملاحظة ومحمية من الاعتراض أو الانتقاد، كونها تُعدّ من المسلّمات. ولجعل هذه المعايير أكثر وضوحاً وصحة، يتعيّن على قادة المؤسسات أن يكونوا سبّاقين في طرح التساؤلات بشأنها. فهل هنالك على سبيل المثال أنماط محددة من المظهر تبدو لك مهنية وأنماط أُخرى غير مهنية؟، دوّن هذه السمات المميزة واحرص على ألا تكتفي بمجرد الوصف (مثل: شعر هذا الموظّف يبدو مرتّباً، أما شعر ذاك يبدو فوضوياً). فإذا كنت ترى أنّ تسريحة شعر محدّدة تبدو أنيقة بخلاف التسريحة الأُخرى، حاول التعمق أكثر في الموضوع وتسأل نفسك ما إذا كانت التسريحة التي تجدها أكثر أناقة مرتبطة بطبيعة الشعر، فربما يكون من الأسهل الحصول على تسريحة أنيقة عندما يكون الشعر أملس في حين يصعب ذلك عندما يكون أجعد.
فكّر ملياً
هل الافتراضات التي اعتمدتها للتو منحازة ثقافياً؟، وهل ثمة مجموعات أُخرى تعاني من المعايير المفروضة أكثر من سواها؟ للإجابة عن هذين السؤالين ربما يكون من المفيد طرحهما على الموظفين أنفسهم. ما رأيهم بمعايير المؤسسة المنصوص عليها وغير المنصوص عليها؟ علاوة على ذلك، يُعتبر من الحكمة إلقاء نظرة على الأبحاث الجارية والموارد التي توفّر رؤية مهمّة حول تاريخ معاناة المجموعات صاحبة التمثيل الضعيف وما يؤثّر فيها سلبياً والخطوات العملية لإقامة بيئة عمل أكثر اندماجاً للموظفين المختلفين.
اشعر مع موظفيك
انظر إلى الأمر من منظور الموظفين الذين يضطرون إلى بذل جهود مضاعفة من أجل التكيّف مع معايير المؤسسة. فتسوية الشعر واحتذاء أحذية عمل مزعجة وارتداء بدلات عمل غير مريحة وصباغة الشعر الأشيب هي مجرد أمثلة عمّا يُطلب من الموظفين القيام به من أجل التكيّف مع المعايير المهنية في مؤسساتهم. لكن مقابل أي ثمن؟، فعندما يضطرّ الموظفون للتكيّف مع معايير لا يرونها أصيلة ومقنعة بالنسبة لهم، ربما يعانون من انخفاض في إنتاجيتهم والتزامهم ورضاهم.
كن قدوة حسنة يُحتذى بها
بوصفك القائد للمؤسسة، من الطبيعي أن يراقبك الموظفون ويقلّدونك في سلوكك. ومن خلال تقديم القدوة الحسنة للسلوك الأصيل، يمكنك التأثير على الموظفين بشكل إيجابي. فإذا كنت تعمل في بيئة عمل يرتدي فيها الموظفون بدلات بألوان قاتمة، ماذا يمكن أن يحدث عندما ترتدي أنت قميصاً أو سترة أو بدلة بألوان زاهية وتشجّع موظفيك على القيام بالمثل؟
أخيراً، إذا لم يكن القادة على استعداد للتمعّن عن كثب بالثقافات التي يفضّلونها باللاوعي في بيئات عملهم، وغير مستعدين للتعرّف على أسباب ذلك التفضيل، فقد يكون من المفيد إيقاف مبادرات الأصالة لاستيضاح تلك الأمور أولاً. وفي حين أن تشجيع الأصالة يكون فعالاً بالنسبة لكل من الموظّفين والشركات التي يعملون فيها على حدّ سواء، لكن ذلك لا يتحقّق ما لم يلتزم القادة بضمان أن تكون جميع أشكال الأصالة متساوية القيمة في بيئات العمل الراهنة.