يُعد بذل الجهود وتقديم المبادرات الجديدة التي تهدف إلى إحداث تحولات كبرى في الشركات طريقة شائعة يتبعها القادة في محاولاتهم للتفوق على المنافسين في إدارة التغيير المؤسسي، أو حتى لمجرد الإبقاء على سيرورة العمل. لكن معظم هذه الجهود تبوء بالفشل. فتَقبُّل التغيير أمر صعب في حد ذاته، ولا يكتفي بعض الناس بمقاومته فحسب، بل يسعون إلى تقويضه. لذلك، لم يكن مثيراً للدهشة ما استنتجته دراسة أجرتها شركة "ماكنزي" (McKinsey)، وهي شركة استشارات إدارية، أن نسبة 26% فقط من مبادرات التحول تُكلل بالنجاح. تشترك معظم التحولات الناجحة في أمر واحد: وهو أن عجلة التغيير يجري دفعها من خلال عملية التمكين، وليس بتكليف من سلطة أعلى.
كيفية إدارة التغيير المؤسسي
وجدتُ من خلال بحثي في ثورات التحول السياسي والحركات الاجتماعية والتغيير المؤسسي، أن الجهود الناجحة لا تكتفي بتحديد مصادر المقاومة منذ البداية فحسب، بل تضع خططاً للتغلب على أولئك الذين يعارضون هذا التحول. ولا يكون ذلك بالرشوة أو الإكراه أو إلحاق الخزي أو التملق، بل من خلال تحفيز أفراد من داخل مؤسساتهم وتمكينهم من أجل أن يدفعوا عملية التغيير بأنفسهم. وفيما يلي التفاصيل.
ابدأ بفريق صغير
عادة ما ينطلق القادة بجهودهم الرامية إلى التحول بالتعاون مع مجموعة كبيرة. وهذا منطقي. فهم يودون تحقيق زخم الإنجازات خلال وقت مبكر من خلال إيصال أهدافهم بوضوح. يمكن لهذه المنهجية أن تكون فاعلة إذا كان هناك إجماع مسبق بخصوص المبادرة. ومع ذلك، فإن كان التغيير المنشود تحولياً بالفعل، فسيواجه مقاومة شرسة غالباً. ويعتبر الجمود الذي ينبع من الداخل قوة لا يستهان بها، تفوق في شدتها قوة الأمل أو الخوف. لذلك، سيكون من المحتمل جداً إذا بدأت بحملة تواصل كبرى، فارضاً مبادرتك كأمر واقع، أن تزداد ضراوة المعارضة من أولئك الذين يشككون في التغيير.
أما معظم التحولات الناجحة فتبدأ بمجموعات صغيرة، ليست وثيقة الارتباط فيما بينها بالضرورة، لكن هدفاً مشتركاً يجمعها. تُنجز تلك التحولات بسواعد أفراد متحمسين بالفعل لهذه المبادرة، وعلى أتم الاستعداد لاختبار افتراضاتها، ثم بعد ذلك يضمون إلى هذه المبادرة أفراداً آخرين من أقرانهم. يمكن للقادة التعبير عن ذلك الهدف المشترك، ومساعدة تلك المجموعات الصغيرة في التواصل، لكن يجب أن يكون الإقناع على أرض الواقع. إن لم يشعر الأشخاص بأنهم أصحاب هذا الجهد، فلن يستمر حراك التغيير هذا طويلاً. على سبيل المثال، عندما بدأت شركة "ويث فارماسوتيكالز" (Wyeth Pharmaceuticals)، للصناعات الدوائية، قيادة عملية تحول كبرى بهدف تبني ممارسات التصنيع المرن (الخالي من الهدر)، بدأت مع مجموعات صغيرة فقط في بعض المعامل. وبعدها انتشرت الجهود سريعاً إلى آلاف العاملين في عشرات المواقع، وأدى ذلك إلى تخفيض التكاليف بنسبة 25%.
حدّد تغييراً جوهرياً
تبدأ معظم الجهود الرامية للتغيير من جراء إحدى الشكاوى: مثل أنه يجب تخفيض النفقات، أو تحسين خدمة العملاء، أو تعزيز ارتباط الموظفين بالعمل، وغيرها من القضايا. ينتهز المدير الحكيم هذه الفرصة ليحول هذه الشكوى إلى "رؤية مستقبلية"، لا تهدف إلى معالجة الشكوى فحسب، بل تطوير المؤسسة وتحقيق نهضتها وتوفير مستقبل أفضل لها. على أي حال، نادراً ما يمكن تحقيق تلك الرؤية بأكملها على الفور. فمعظم المشكلات المهمة تنشأ عن مجموعة من الأسباب الجذرية المتداخلة، لذلك فإن محاولة تحقيق رؤية طموحة مكتملة الأركان في آنٍ واحد ستؤدي إلى الانغماس في مستنقع الفشل ربما لـ 5 سنوات، بدلاً من المضيّ في تحقيق النتائج. وهذا هو السبب الذي يفسر ضرورة البدء بتغيير جوهري، يفضي إلى تحقيق هدف واضح وملموس، ويشمل تضافر جهود العديد من أصحاب المصلحة، ويمهد الطريق لإجراء تغييرات كبرى لاحقاً.
أما تلك الفجوة بين الطموح والواقع العملي فقد شكلت التحدي الذي واجهه باري ليبينسون عند توليه منصب كبير موظفي المعلومات في شركة "إكسبيريان" (Experian)، في عام 2015. تَبين له من خلال محادثاته مع العملاء أن أكثر ما يريدونه من شركته هو الوصول إلى البيانات في وقتها الحقيقي، أي الحصول على بيانات فورية. ومن أجل تحقيق ذلك، سيتعين عليه الانتقال من البنية التحتية التقليدية للشركة إلى الشبكة السحابية، وتلك مبادرة أثارت المخاوف بشأن تحقيق الأمان والموثوقية. فبدأ ليبينسون بتطوير طرق للوصول إلى البيانات الفورية بتطبيقها على الاستعمال الداخلي كمرحلة أولى، بدلاً من التوجه مباشرة إلى الميزات التي يستخدمها العملاء. اقتضى ذلك من فريقه إشراك عديد من المعنيين أنفسهم، وتطوير عديد من العمليات ذاتها، التي كان سيتطلبها الانتقال إلى الشبكة السحابية، ما سمح له بالحصول على نتائج مبكرة.
وقال لي ليبينسون: "بمجرد أن تمكنّا من تطوير واجهات برمجة تطبيقات داخلية، رأى الناس أن الفرصة أصبحت مواتية بشكل أفضل، واكتسب العمل حراكاً لا بأس به". لم تنجح شركة "إكسبيريان" بالانتقال إلى الشبكة السحابية فحسب، بل أطلقت منصة "أسيند" (Ascend) الخاصة بها، مستندة إلى البنية التحتية الجديدة، التي تعتبر حالياً القسم الأسرع نمواً في الشركة.
اربط بين الحركات وأصحابها
غالباً ما نربط التغييرات الكبيرة بشخصيات قيادية ذات كاريزما مميزة. فتجدنا دوماً نربط حركة الحقوق المدنية الأميركية بمارتن لوثر كينغ، وكذلك حركة استقلال الهند بمهاتما غاندي. وبالطريقة ذاتها، ترتبط الإنجازات في الشركات الكبرى بقادتها الذين حققوا تلك الإنجازات، أمثال شركة "آي بي إم" (IBM) بمديرها التنفيذي السابق لويس غريستنر، وشركة "ألكوا" (Alcoa) بمديرها التنفيذي السابق بول أونيل.
لكن حقيقة الأمر أكثر تعقيداً. على سبيل المثال، كان كينغ واحداً فحسب من "الستة الكبار" الذين قادوا حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة. واكتسب غيرستنر حلفاءه من خلال إعادة تركيز الشركة على عملائها. أما أونيل فقد فاز على الاتحادات العمالية بالتزامه الجاد باشتراطات الأمان في مكان العمل. توضح تلك الأمثلة أسباب تعريف القيادة الفاعلة عند الجنرال ستانلي ماكريستال في كتابه "القادة: الأسطورة والواقع" (Leaders: Myth and Reality)، بوصفها "نظاماً معقداً من العلاقات بين القادة وأتباعهم ضمن سياق محدد، يمنح مفهوماً محدداً لأعضائه".
يتطلب كل تغيير واسع النطاق وجود قيادة عليا، وكذلك توسيع وتعميق الروابط من خلال التودد لأصحاب المصلحة في منظومة العمل وليس بالإجبار والإكراه.
لنأخذ حالة تاليا ميلغروم إلكوت، الشريكة المؤسِّسة لمنظمة "هاندرد كي إن تن" (100Kin10). عندما شرعتْ في بدء حركة لتوظيف 100 ألف معلم لمشروع (تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات) "ستيم" (STEM)، والإبقاء على الموجودين منهم في غضون 10 سنوات، أدركت أنه ليس هناك نقص في وجود مجموعات قادرة على تحسين التعليم. في الحقيقة، لقد عملت مع عديد من الأشخاص الذين كانوا يضعون مناهج متعددة في هذا المجال. لكنهم لم يسبق أن التقوا قط. فأنشأت منصة للتعاون جمعت من خلالها حوالي 300 مؤسسة شريكة التقت من خلال انعقاد المؤتمرات ومجموعات العمل وشبكات التعارف. والآن، تقترب "هاندرد كي إن تن" من تحقيق هدفها قبل الموعد المحدد له.
حافِظ على الانتصار
غالباً ما يكون الجزء الأكثر خطور في أي عملية تحوُّل عندما تتحقق الأهداف الأولية فيه. وهذا هو السبب الذي يجعل قادة التحول الناجحين لا يركزون فقط على الأهداف المباشرة، بل على عملية التغيير ككل. فلو أن شركة "ويث" اكتفت بتخفيض التكاليف بنسبة 25%، لوجدت نفسها سريعاً عالقة في الأزمات مرة أخرى. لكن نظراً لاتباع موظفيها لأساليب التصنيع المرن، تمكنت الشركة من متابعة تقدمها. وبالطريقة نفسها تقريباً، لو اكتفت شركة "إكسبيريان" بمجرد الانتقال إلى البنية التحتية التكنولوجية الجديدة، لما تحقق كثير من المكاسب.
في بعض حالات إدارة التغيير المؤسسي، يمكن أن تبقى المكاسب الناتجة عن التحولات الناجحة لعقود من الزمن. بالعودة لإنجازات غيرستنر في شركة "آي بي إم" في التسعينيات، أذكر أن أحد كبار مساعديه، وهو إرفنغ فلادوسكي بيرغر، أخبرني قائلاً: "نظراً لأن التحول ارتبط بالقيم بالدرجة الأولى، والتكنولوجيا بالدرجة الثانية، فقد تمكنّا من الاستمرار في احتضان تلك القيم في الوقت الذي استمرت فيه كل من التكنولوجيا والأسواق في التطور". وبعد تجربة عصيبة، لا تزال الشركة تجني الأرباح حتى الآن.
اقرأ أيضاً: 3 أخطاء تُرتكب عند الإقدام على إجراء تغيير مؤسسي.