ما هي العبر المستفادة من مجموعة مبادرات خيرية غيّرت عالمنا؟

19 دقيقة

ساعد أهل الخير والجهات المنخرطة في العمل الخيري من القطاع الخاص في تسجيل بعض من أهم قصص النجاح في مجال الأثر الاجتماعي خلال القرن الماضي، مثل القضاء عملياً على شلل الأطفال على مستوى العالم، وتوفير وجبات غداء مجانية أو بأسعار مخفّضة لأطفال المدارس المحتاجين في الولايات المتحدة، وإنشاء خدمة طوارئ شاملة (للإسعاف والشرطة والإطفاء) عبر رقم واحد هو (911) في الولايات المتحدة، ومناهضة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. وأسهمت هذه الجهود في إنقاذ حياة ملايين البشر وإحداث تحولات جذرية في حياتهم تلك. صحيح أنّ هذه الأشياء باتت من المسلمات بالنسبة لنا الآن، لكن ذلك لا يجعلها أقل إثارة للدهشة. فقد كانت خطوات طموحة للغاية وصعبة المنال في وقتها، قبل تحولها إلى قصص نجاح إذا ما نظرنا إلى الوراء اليوم لنتأملها.

يطمح العديد من أهل الخير والمؤسسات الخيرية الكبيرة الآخذة بالظهور اليوم إلى تحقيق نجاحات جريئة مشابهة. فهم لا يريدون تمويل أماكن إيواء المشردين أو مطابخ الفقراء، وإنما يريدون وضع حد للتشرد والجوع. ولا يعتبر التقدم المضطرد الذي يسير وفق خط مستقيم كافياً، فهم يريدون نوعاً من التغيير المزعزع والمحفز والمنهجي وبسرعة البرق. وحتى في يومنا هذا الذي يكابد فيه المجتمع بحثاً عن إجابات عن الأسئلة المتعلقة بتركّز الثروة اليوم، تشعر العديد من المؤسسات الخيرية الكبيرة بوطأة المسؤولية الملقاة على كاهلها والتي تُعتبر الوجه الآخر للامتياز المعطى لها. كما أنّ حجم طموحاتها، والثروة التي تُعتبر مستعدة لإعادتها إلى المجتمع، تخطف الأنفاس.

بيد أنّ عدداً متنامياً من هذه الجهات المانحة بات يعبّر في مجالسه الخاصة عن قدر هائل من الإحباط. وعلى الرغم من أنّهم كانوا ومنذ سنوات يحررون الشيكات بمبالغ طائلة، إلا أنهم لا يرون النجاحات التي تُحدث التحولات الكبيرة في المجتمع: لنأخذ المبادرات الخيرية في موضوع مكافحة التغيّر المناخي أو تحسين التعليم العام في الولايات المتحدة، كمثالين على سبيل الذكر. فعندما تُمنى الجهات الخيرية الأفضل بالنكسات أو تُواجه بالنقد العام، فإنها تعيد النظر في أهدافها ومقارباتها، بما في ذلك طريقة إشراكها للمجتمع الذي تطمح إلى مساعدته في عملية اتخاذ القرار. لكن البعض منها يتراجع ويعود إلى تقديم التبرعات الأكثر أماناً إلى الجامعات أو المتاحف الفنية، في حين ينسحب الآخرون من الحقل الخيري بالكامل.

لا يرغب المانحون في تمويل أماكن إيواء المشردين أو مطابخ الفقراء، وإنما يريدون وضع حد للتشرد والجوع.

ينطوي التغيير الاجتماعي الجريء على تحديات لا تصدق. ومع ذلك يظهر التاريخ بأنه قادر على النجاح. لكن المؤسف في الأمر هو أنّ النجاح لا ينجم أبداً عن عنصر واحد أو حل سحري، إنما يحتاج إلى التعاون، والتفاعل الحكومي، والمثابرة على مدار عقود، فضلاً عن مجموعة أُخرى من العوامل. ولكي نكوّن فهماً أفضل عن سبب تغلب بعض هذه الجهود على التحديات التي تواجهها، ولكي نستخلص العبر التي يمكن للجهات الخيرية اليوم أن تتعلمها من الجهود التي حالفها النجاح في الماضي، أجرينا مراجعة شملت 15 مبادرة تشكل خرقاً ناجحاً، وتتراوح ما بين مراكز الرعاية الصحية للمرضى المحتضرين في أيامهم الأخيرة والأجور العادلة لعمال المزارع المهاجرين في الولايات المتحدة، والمحاليل التي تنقذ حياة الأطفال المعرضين للتجفاف في بنغلادش. وكشف بحثنا النقاب عن خمسة عناصر يمكنها معاً أن تشكّل إطاراً للجهات الخيرية وأهل الخير الراغبين في إحداث التغيير الواسع النطاق والطموح والسريع. فقد تبيّن بأنّ الجهود الناجحة تعمل على:

  • بناء فهم مشترك للمشكلة وإطارها العام.
  • تحديد "إنجازات قابلة للتحقق" وصوغ رسالة مقنعة ومؤثرة.
  • تصميم مقاربات قابلة للنجاح على نطاق واسع.
  • خلق الطلب (عوضاً عن افتراض وجوده).
  • تبني آليات لتصويب المسار.

كان دور الجهات الخيرية في قصص النجاح التاريخية هذه يتفاوت من حالة إلى أُخرى. فقد كانت وإلى حد كبير تتولى ضمان إنجاح جهود الآخرين، حيث وقع العمل الميداني الملموس على عاتق قادة المؤسسات غير الحكومية ومقدمي الخدمات، والناشطين، والعديد من الجهات الأُخرى التي كانت على الجبهة الأمامية للتغيير الاجتماعي. ويتمثّل القاسم المشترك في قصص النجاح هذه: أنّ الجهات الخيرية كانت تتفهم أهمية هذه العناصر الخمسة وكانت مستعدة لتمويل أي منها أو كلها إذا اقتضت الضرورة. لقد كانت بمثابة مصادر لرأس المال المرن، حيث كانت تحدد الفجوات التي يتركها الآخرون، وتوجه مواردها بناء على ذلك. وفي بعض الأحيان كان الدعم الطفيف الذي يركّز على عنصر واحد فقط من هذه العناصر الخمسة كافياً لترجيح كفة الميزان.

لا يشكّل هذا الإطار وصفة بسيطة أو مباشرة تسير وفق خط مستقيم. فالتغيير الحقيقي شديد التعقيد ومدفوع بقوى عديدة. كما أنّ الحظ والتوقيت لهما دور هام، ومن المستحيل إثبات العلاقة السببية. ومع ذلك، نؤمن بأنّ الجهات الخيرية الطموحة وإذا ما طبقت الإطار على مدار حملة معينة، فإنها تضمن حصول زيادة كبير في احتمالات تحقيق التغيير الذي يقود إلى التحول المنشود.

التحدي

قبل إلقاء نظرة متأنية وفاحصة على قصص النجاح التاريخية، من المفيد أن نأخذ بالحسبان بعض الأسباب الرفيعة التي تجعل الكثير من الجهود تتلاشى جراء قلة الحماسة. فقد اشتركت المبادرات التي درسناها بأربعة أنماط هامة: أولاً، احتاج النجاح إلى وقت طويل كي يتحقق، فقد امتدت 90% من الجهود على مدار أكثر من 20 عاماً (وبمعدل وسيط بلغ 45 عاماً). كما تطلب الأمر غالباً تعاوناً من جانب الحكومة، فقد احتاجت 80% من الجهود إلى تغيير في عمليات التمويل أو السياسات أو الإجراءات الحكومية. وغالباً ما كانت هذه الجهود تقتضي التعاون. وانطوت 75% من الجهود تقريباً على تعاون فعال بين الجهات الأساسية في مختلف القطاعات المعنية. أخيراً، تضمّنت 66% من الحالات على الأقل وجود مانحين قدموا تبرعاً خيرياً كبيراً واحداً أو أكثر أي هدايا بقيمة 10 ملايين دولار أو أكثر.

ولسوء الحظ، تخالف هذه الأنماط معظم الممارسات الخيرية التي نراها اليوم. فيعلم المانحون من حيث المبدأ بأنّ تحقيق التغيير على نطاق واسع يمكن أن يستغرق وقتاً طويلاً، حتى في حالة أهم الأفكار وأكثرها مباشرة. (فكما يوضح الطبيب آتول غواندي، فإن ممارسة بسيطة حتى تنقذ الحياة مثل غسل اليدين وتعقيم الأدوات والمرافق الجراحية احتاجت إلى 30 عاماً لكي تحظى بالقبول حتى بعد أن نشرت مجلّة طبية رائدة براهين لا تدحض تدعم هكذا ممارسة). ومع ذلك، فإنّ الجهات الخيرية غالباً ما تمول الحاصلين على المنح متوقعة بأن يتحقق التغيير الأعقد بكثير خلال بضع سنوات فقط. ونتيجة لقلق المانحين من الإجراءات البيروقراطية، ومن النظر إليهم على أنهم "مسيسون للغاية" كانوا غير راغبين في تمويل أعمال تنطوي على انخراط كبير ومهم مع الحكومة الأميركية، على الرغم من الدور المركزي الذي تؤديه هذه الحكومة وتريليونات الدولارات التي تنفقها لمعالجة أصعب المشاكل المجتمعية. وعلاوة على ما سبق، فإنّ التعاون ومن أي نوع يمكن أن يكون صعباً ومكلفاً، لذلك فإنّ قلّة فقط من الجهات الخيرية تدعمه وتتفاعل معه بطريقة ذات مغزى، على الرغم من أنّ معظمها يشعر بالإحباط جراء التنامي الكبير وغير المؤهل لجهود التغيير المعزولة عن بعضها البعض. أخيراً، يُعتبر النذر اليسير فقط من المنح التي تقدمها الجهات الخيرية لدعم التغيير الاجتماعي كبيراً بما يكفي لإحداث تغيير طفيف على الرغم من أنّ أصحاب الأيادي البيضاء يخصصون 20 مليون دولار أو أكثر وبشكل روتيني لتحديات أبسط بكثير ومتناهية في صغرها، مثل بناء مكتبة جامعية أو جناح جديد في متحف.

والمؤكّد في الأمر: هو أنّه لا يمكن لجهة خيرية أن تعلن النصر المؤزر والنهائي في أي من قصص النجاح التي نوردها هنا. فعلى الرغم من الاستعمال شبه الشامل لمقاعد الأطفال في السيارات، إلا أنّه لا زال الأطفال يموتون في حوادث السيارات. وعلى الرغم من وجود إمكانية للحصول على وجبة غداء مجانية وبسعر مخفض في جميع أنحاء الولايات المتحدة، إلا أنّه لا زال أطفال المدارس يشعرون بالجوع. وعلى الرغم من الزيادات الكبيرة في أجور عمال المزارع، ، إلا أنّهم لازالوا غير قادرين على تقاضي أجور تكفي لسد رمقهم بحق. لكن تركيز المانحين وقادة التغيير في هذه الحركات على العناصر الواردة في الإطار المذكور أعلاه مكّنهم من تحقيق قفزات هائلة. دعونا نراجع هذه العناصر الخمسة بقدر من التفصيل ونستكشف كيف يمكن للفهم الشامل لكل عنصر منها أن يساعد الممولين في تمهيد الطريق أمام التغيير الحقيقي.

بناء فهم مشترك للمشكلة وإطارها العام

يُدرك الجميع أنهم لا يستطيعون حل مشكلة لا يفهمونها. وكان قادة الحركات الاجتماعية الناجحة التي درسناها يقدرون القضايا التي سعوا إلى معالجتها وكانوا قادرين على تأطيرها بشكل متأن. وكانوا يعلمون من هو المتأثر، وما هي القوى التي كانت تتسبب بديمومة المشاكل. وغالباً ما كانوا يدرسون الديناميكيات العرقية والثقافية والاقتصادية الضاربة الجذور، ما يمكّنهم من التعامل مع الأسباب الجذرية لهذه المشاكل، كما حددوا الجهات المستفيدة من الوضع الراهن (والتي كانت تستقل في سبيل الحفاظ عليه)، وبنوا أساساً داعماً للإجراءات التي اتخذوها يقوم على البراهين والأدلة. كما كانوا يعيدون النظر في هذه الأسئلة كلما كانت هذه المشاكل والأطر العامة المحيطة بها تتطور، أو كلما كانت جهود التغيير تنتقل لتغطي شرائح سكانية أو مناطق جغرافية أو جبهات جديدة.

دعونا مثلاً نراجع الحراك الرامي إلى التقليل من استعمال التبغ في الولايات المتحدة. فقد كانت هناك حاجة إلى عقود من تمويل الأبحاث، بما في ذلك الاستثمارات الكبيرة من الجمعية الأميركية للسرطان ومؤسسة روبرت وود جونسون، فضلاً عن جملة أُخرى من الجهات الممولة، لتقديم تفسير علمي لا غبار عليه بأنّ التبغ كان يضر بصحة الناس. وكان التوافق الذي جرى التوصل إليه بين صفوف العلماء، والأطباء، والقادة الحكوميين، وفي نهاية المطاف المدخنين، أمراً حاسماً للتغلب على المقاومة والجهود الضاغطة القوية التي كانت تمولها شركات التبغ العملاقة.

ومع ذلك، فإنّ دفع الناس إلى التخلي عن عادة متأصلة اجتماعياً تشمل منتجاً رخيصاً ومتاحاً على نطاق واسع، ويسبب إدماناً، كان في غاية الصعوبة. وعلى الرغم من أنّ مناصري هذه القضية أدركوا محدودية الجهود المبكرة لوقف التدخين، لكنهم استمروا في الاستثمار بالأبحاث واستمروا بمحاولة تأطير المشكلة. وقادهم ذلك إلى تعديل تعريفهم للمشكلة والتحول من وقف التدخين إلى هدف أوسع هو منع التبغ.

وبغية تسهيل عملية ترك التدخين على الأفراد، عمدت الحركة إلى تطوير الفهم العلمي والسلوكي للتدخين بوصفه نوعاً من الإدمان، ما سهل عملية تصنيع منتجات مثل علكة النيكوتين ولصاقات النيكوتين. وفي الوقت ذاته، بدأت بالاستثمار في تغيير "نظام" الحوافز والمعايير الثقافية التي ساعدت في إدامة التدخين، ما قاد إلى قوانين تحد من التدخين وتحمي صحة غير المدخنين، إلى جانب ضرائب أعلى بكثير على السجائر، وقيود ثقيلة أو حظر على أقنية البيع مثل آلات بيع السجائر، ومنع التدخين في الأماكن العامة، والإعلانات التي تستهدف الأطفال، والإعلانات التي تستهدف الأسواق الجماهيرية، وتراجع في عرض هوليوود والبرامج التلفزيونية للتدخين والمدخنين. وفي نهاية المطاف، أصبحت السجائر باهظة الثمن، وغير مريحة، ومنبوذة اجتماعياً، بينما سجل هبوط حاد في معدلات التدخين بين صفوف الأشخاص البالغين من 42% قبل نصف قرن إلى 15% في 2015.

تُدرك أفضل الجهات الخيرية بأنّ الاتفاق على المشكلة التي تنبغي معالجتها، هو خطوة واضحة ظاهرياً لكنها تحتاج إلى قدر كبير من الدقة في التعامل معها. كما أنها تكلف جهات وهيئات مختلفة بالقيام بأبحاث إجرائية وتحليلات للسياسات بهدف تعزيز التوافق على سبب استمرار المشكلة وكيفية التصدي لها. كما أنها تدرك بأنّ هذه الاستثمارات يجب أن تكون متواصلة، لأنّ المشكلة وإطارها المحيط بها يتغيّران مع مرور الوقت. فلو كان الدعاة المناهضون للتبغ اعتمدوا على التقارير البحثية التي أُجريت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لكانت جهودهم صائبة علمياً ربما لكنها كانت ستُمنى بفشل ذريع. ويجب الانتباه إلى أنّ خفض معدل التدخين إلى ما دون 15% سيحتاج على الأغلب إلى المزيد من الأبحاث وإلى تعديل في تأطير المشكلة، لأنّ التحدي يختلف اختلافاً جذرياً، تماماً كما تختلف طريقة حل تحدي "الميل الأخير" في عالم الأعمال (أي كيفية الوصول إلى الزبائن في أكثر السياقات نأياً أو تحدياً) عن تنمية قاعدة ناشئة من الزبائن.

تحديد "إنجازات قابلة للتحقق" وصوغ رسالة مقنعة ومؤثرة

يكون إحراز التقدم صعباً عندما يكون الهدف كبيراً وغامضاً، ويعلمنا علم السلوك بأنّ الطبيعة البشرية تجعل الإنسان يُصاب بالشلل. أما بالنسبة للقادة في الحالات التي درسناها، فغالباً ما كانوا يحفزون الناس ويُبقونهم في حالة من التفاعل من خلال تحديد أهداف ملموسة، وقابلة للقياس، والتي نطلق عليها تعبير "إنجازات قابل للتحقق". ثم كانوا يرفقونها برسائل أو دعوات مقنعة ومؤثرة عاطفياً لاتخاذ إجراءات محددة. إذ يحتاج صوغ رسالة مؤثرة عاطفياً إلى مجموعة من الأنشطة، مثل استطلاع الآراء، واختبار الرسالة، وإجراء دراسة لها وسط مجموعات بؤرية، وهي أمور تقع خارج النطاق التقليدي للمانحين وعادة ما تُعتبر بمثابة تكاليف "إدارية" غير مقبولة عندما تظهر في موازنات المؤسسات غير الحكومية.

تصميم مقاربات قابلة للنجاح على نطاق واسع

لا يُعتبر الحل الذي لا يكون نافعاً على مستوى المشكلة بأكملها حقيقياً. وللأسف، فإنّ مليارات الدولارات الخيرية تضخ للوصول إلى درجة من الكمال في الخدمات والمنتجات الاجتماعية التي لا تنفع إلا القليل من الأشخاص ضمن المجموعة المتأثّرة (5 آلاف شخص، أو خمس مدن، أو خمس ولايات). وغالباً ما تكون أمثال هذه الجهود محلية، أو ذات طابع ريادي، أو بمثابة استجابة أكاديمية لاحتياجات غير مؤمنة، أو خدمات حكومية سيئة الجودة ولا تحصل على التمويل الكافي (أي طريقة مختلفة لهدر المال). لكنّ "الابتكارات" بحد ذاتها غالباً ما تكون باهظة التكلفة جداً، أو بالغة التعقيد، أو شديدة الاتكال على أشخاص من ذوي المواهب الخاصة بحيث لا تكون مجدية ومتناسبة مع حجم الحاجة الموجودة. وحتى عندما تُختبر الحلول ذات النطاق الضيق ضمن مجموعات أكبر، تكون القفزة عادة من 100 شخص، مثلاً، إلى 1000 شخص، وهذا يكشف عن لا شيء تقريباً. والسؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح هو ما إذا كان الابتكار القادر على خدمة 500 شخص يستطيع أن يخدم 50 ألف شخص أو 500 ألف شخص بفعالية؟

بطبيعة الحال، يُعتبر وضع حل أو استراتيجية للتغيير بإمكانها النجاح على نطاق واسع عملية مفعمة بالكثير من التحديات. فكما هو حال أي عملية ابتكار، فإنها تنطوي على العديد من البدايات الخاطئة. والاختبار الحقيقي هو تقرير الشرط المطلوب لكي تنفذ المقاربة المقترحة على نطاق كامل ومن ثم إجراء تقويم نقدي لتحديد ما إذا كانت هذه العملية واقعية أم لا. في غالب الأحيان، سوف تُظهر عمليات حسابية بسيطة بأنها غير واقعية. على سبيل المثال، إذا كان 10 ملايين شاب أميركي فقير يحتاجون إلى مساعدة للدخول إلى الجامعة والتخرج منها، وكان البرنامج التعليمي الرفيع الجودة يكلف 5,000 دولار للشخص الواحد، فإننا بحاجة إلى أن نسأل أنفسنا ما إذا كان أي نموذج تمويلي، حتى لو كان بقيادة الحكومة، قادراً وبطريقة مجدية على أن يغطي 50 مليار دولار سنوياً وهو المبلغ المطلوب لخدمة كل هؤلاء الشباب. هل يمكن لأي قوة شرطة وبواقعية أن تسيطر على عمليات قطع الأشجار غير القانونية في غابات الأمازون المطرية الكثيفة والضخمة؟ هل يمكن أن نتوقع من 25 مليون ممرضة في عموم الهند أن تتعلم وتطبق إجراء مؤلفاً من 20 خطوة لتعقيم الأجهزة والمعدات الطبية؟ هل يمكن أن نصدق بأن مليارات الناس ممن يحتسون القهوة ويشعرون بالقلق سوف يُجرون أبحاثهم الخاصة للتأكد من أنّ القهوة التي يحتسونها تزرع في ظروف عادلة؟ ربما يمكن لهذه التكتيكات أن تنجح على نطاق ضيق، لكنها سوف تنهار على الأرجح على نطاق الحاجة الكاملة.

تنفق مليارات الدولارات على المبادرات الاجتماعية التي لا تُعتبر مجدية إذا ما طبقت على نطاق واسع.

ومع ذلك يُعتبر حل هذه الإشكالية ممكناً. فقد تمكّنت المبادرات الخمس عشرة التي درسناها من تحقيق أثر واسع النطاق، على الرغم من أنّ أياً منها لم يتّبع المسار الذي أخذته الأُخرى. البعض منها نجح في إنجاز المهمة المطلوبة من خلال الاستثمار العميق في الأبحاث والتطوير، وكذلك التوصل إلى شكل مبتكر لمنتج أو برنامج قائم أو عملية قائمة، فيما تمكّن البعض الآخر من العثور على نموذج تجاري يشكّل خرقاً، بينما استفاد آخرون من نظام توزيع قائم عوضاً عن محاولة بناء نظام جديد، وتمكّن البعض من إيجاد طريقة أو طريقتين جديدتين للتأثير في المجال أو النظام المعني. وفي غالب الأحيان، يكون العمل الخيري مطلوباً لدعم هذا النوع من الابتكار والتجريب، وخاصة بالنسبة للحلول التي تنجح حقاً على نطاق واسع.

لنأخذ على سبيل المثال مشافي آرافيند للعيون، حيث كانت هذه المؤسسة تأسست عام 1976 على يد طبيب هندي هو الدكتور جوفيندابا فينكاتاسوامي (الدكتور في)، الذي بذل جهوده للقضاء على حالة العمى الناجمة عن مرض الساد (الماء الأبيض) والتي يمكن الوقاية منها وذلك وسط سكان ولاية تاميل نادو البالغ عددهم 48 مليون نسمة. فقد طور المشفى وبتمويل خيري من الدكتور في وعائلته، حيث رهن منزله للحصول على المبالغ الأولية، لإجراء عملية جراحية في غاية الكفاءة، وقرنها بنموذج تجاري يستند إلى هيكلية رسوم متفاوتة. وسمحت هذه العوامل لآرافيند بعلاج مئات آلاف المرضى الفقراء بتكلفة بسيطة أو مجاناً حتى من خلال اجتذاب ما يكفي من المرضى القادرين على السداد بهدف تغطية تكاليف الفقراء. وأسهم هذا المستشفى الذي بات يخدم اليوم أكثر من 250 ألف إنسان سنوياً (وبجودة تضاهي أو تتفوق على جودة نظام الرعاية الصحية البريطاني وبواحد على ألف من التكلفة) في حصول تراجع هائل في معدل العمى في عموم ولاية تاميل نادو، وتوسّع بهدف خدمة مناطق أُخرى أيضاً ومشاركة نموذجه معها.

لننظر أيضاً إلى التقنية المعروفة بإنقاذها لحياة البشر وهي تقنية التنفس الاصطناعي (الإنعاش القلبي الرئوي) التي تُعتبر شكلاً من أشكال الإسعافات الأولية، حيث جرى تبنيها على نطاق واسع في الولايات المتحدة بفضل ابتكار "منتجها". فقد اعتمد قادة الحركة على تبسيط كبير لهذه التقنية، وهو عمل جرى تمويله إلى حد كبير من خلال منح بحثية ومنح خيرية محلية بحيث يمكن لأي شخص عادي تقريباً أن يتذكّر هذا الإجراء وينفذه. ما مكّن من التقاط هذه التقنية ونشرها على نطاق واسع من خلال أقنية التوزيع الجماهيرية القائمة. فبداية من العام 1975، أدخل الصليب الأحمر الأميركي موضوع الإنعاش القلبي الرئوي ضمن شبكته من دورات الإسعاف الأولي، والأمان في مكان العمل، والإنقاذ، ثم حذت جمعية القلب الأمريكية حذوه، حيث يحصل أكثر من 18 مليون أميركي اليوم ، بمن فيهم العديد من طلاب المدارس الثانوية الذين يحضرون الدورات الصحية، على تدريب في تقنيات التنفس الاصطناعي كل عام، كما أنّ هذا الإجراء يطبق على 50% تقريباً من الناس الذين يعانون من أزمات قلبية خارج أروقة المستشفيات، ما يضاعف فرص بقائهم على قيد الحياة أكثر بمرتين أو ثلاث مرات إذا ما طبق خلال الدقائق القليلة الأولى من حصول الأزمة القلبية.

أخيراً، توصلت مجموعة من عمال المزارع المهاجرين في فلوريدا والتي تقضي جل فصل الشتاء في قطاف ثمار الطماطم في الولايات المتحدة إلى نموذج قابل للتطبيق على نطاق واسع يسمح لها بالحصول على شروط عمل أكثر إنسانية مع زيادة بنسبة 70% في الأجور. ولم يكن الأمر سهلاً أو سريعاً، إذ تطلب سنوات من التجربة والخطأ. فلعقود من الزمن، كان العمال يتحملون السرقة التي يتعرضون لها من أجورهم، فضلاً عن تعرضهم للإساءة اللفظية والجسدية، والتمييز العرقي، والتحرش الجنسي، إضافة إلى العمل لمدة 70 أو 80 ساعة أسبوعياً، في مقابل الحصول على 1,000 دولار تقريباً فقط كل عام. وفي 1996، بلغ السيل الزبى بين صفوف العمال عندما تعرض أحدهم إلى الضرب المبرح من رئيس فريقه لأنّه طلب استراحة لشرب الماء. فجاء الرد من مجموعة تدعى تحالف عمال إيموكالي (Coalition of Immokalee Workers) على شكل احتجاجات ولسنوات، وإضراب عن الطعام، ومسيرة بطول 234 مليلاً على أحد الطرقات السريعة الرئيسية في محاولة للضغط على أصحاب المزارع لتحسين الشروط.

لم يكن أثر هذه الإجراءات كبيراً. لكن هذا التحالف، مدعوماً بالجهات الخيرية المحلية المتواضعة، وعدد من الممولين المدفوعين بأسباب دينية وعقائدية، ومؤسسة "بابليك ويلفير فاونديشن"، استمر في التجريب حتى توصل إلى استراتيجية تنطوي على احتمال التأثير في المشكلة على نطاق واسع، حيث تمثّلت الاستراتيجية في ممارسة ضغوط شعبية على الشركات التي تشتري كميات كبيرة وبالجملة من الطماطم وتتعامل مباشرة مع المستهلكين مثل مطاعم الوجبات السريعة. وكانت هذه الشركات أكثر ضعفاً من أصحاب المزارع عندما يتعلق الأمر بتكتيكات ممارسة الضغوط، لأن زبائنها كانوا من عامة الناس. وبدعم من الشبكات الشعبية، بما في ذلك تحالف الطلاب/عمال المزارع و"إنترفيث أكشن" تمكنت مؤسسة تحالف عمال إيموكالي من إطلاق سلسلة من عمليات المقاطعة لمطاعم الوجبات السريعة والبداية كانت مع مطاعم تاكو بل.

وبين العامين 2002 و2005، تمكّن التحالف وحلفاؤه في 22 جامعة ومدرسة ثانوية من إغلاق مطاعم تاكو بل في مقراتها، أو من منع افتتاح فروع لهذه السلسة. وأطلقوا حملات في عشرات المجتمعات المحلية الأُخرى أيضاً. وقدم تكتيك الضغط هذا النتيجة المرجوة. فقد وافقت شركة يام! براندز (Yum! Brands) المالكة للعلامة التجارية تاكو بل على دفع سنت إضافي إلى أصحاب المزارع مقابل كل رطل من الطماطم لكي تذهب هذه المبالغ إلى أجور العمال مباشرة، كما وافقت أيضاً على إجبار أصحاب المزارع الذين تتعامل معهم على الالتزام بظروف العمل الإنسانية والسماح لمؤسسة غير حكومية مستقلة لا تتوخى الربح بأن ترصد مدى هذا الالتزام. ومع تزايد الدعم الخيري من الممولين على المستوى الوطني من أمثال كريسج (Kresge) وكيلوغ (Kellogg) وفورد فاونديشنز (Ford foundations)، وسع التحالف عمليات المقاطعة لتشمل شركات أُخرى، وخلال السنوات القليلة اللاحقة حظي بدعم من ماكدونالدز وصب واي، وبرجر كنج، وهول فودز، إضافة إلى مزودي الخدمات الغذائية "بون آبيتي" (Bon Appétit)، و"كومباس" (Compass)، و"آرامارك" (Aramark)، و"سوديكسو" (Sodexo). وفي العام 2010، وافق أصحاب المزارع على رفع الأجور وتحسين ظروف العمل. ومنذ ذلك الوقت، تبنى أصحاب المزارع هذه الإصلاحات في مناطق تصل حتى نيوجيرسي، كما حظيت بموافقة من سلاسل مثل "وول مارت" (Walmart)، و"ستوب آند شوب" (Stop & Shop)، و"جيانت" (Giant)، و"تريدر جوز" (Trader Joe’s). واحتفى البيت الأبيض والأمم المتحدة بنجاح هذه الحركة.

يُدرك أفضل الممولين بأنّ فعالية المبادرة وإمكانية تطبيقها على نطاق واسع يجب أن تكونا متساويتين. فعوضاً عن التطوير المتدرج لاستراتيجية أو حل يطبق على نطاق ضيق، تحصل الجهة المانحة على عائد أكبر وأفضل من استثماراتها إذا ما تحلّت بالصبر ودعمت الحاصلين على منحها للقيام بأبحاث وأعمال تطوير واختبارات منهجية وصارمة حتى يكتشفوا مقاربة يمكن تطبيقها على نطاق واسع.

خلق الطلب (عوضاً عن افتراض وجوده)

حتّى لو خلقته، قد لا يأتون. لقد كانت الجهات الخيرية التي وقفت وراء نجاح الحالات التي درسناها تدرك هذا الأمر. لذلك استثمرت في الحلول التي كان المستخدمون والشركاء يريدها فعلياً. كما موّلت جهوداً قوية في مجالي المبيعات والتسويق من أجل دعم أهدافها الطموحة. ودعمت إصدار اشتراطات وأنظمة حكومية جديدة. وضمنت وجود شبكات توزيع قوية تساعد في زيادة الطلب من خلال تسهيل إمكانية الوصول إلى الخدمات.

يدرك أفضل المموّلين بأنّ فعالية المبادرة وإمكانية تطبيقها على نطاق واسع يجب أن تكونا متساويتين.

دعونا في هذا المضمار نأخذ تجربة فيتنام في التقليل من وفيات حوادث السير من خلال التشجيع على استعمال الخوذات أثناء ركوب الدراجات النارية، وهي حملة حظيت بتمويل كبير من مؤسسة "أتلانتيك فيلانثروبيز" الخيرية لصاحبها تشاك فيني. وذهبت واحدة من أوائل المنح التي قدمتها مؤسسة أتلانتيك إلى الحملة للمؤسسة الآسيوية للحماية من الإصابات في العام 2000. وعلى الرغم من أنّ الخوذات كانت متوفرة منذ زمن طويل، إلا أنّ مؤسس المؤسسة الآسيوية للحماية من الإصابات غريغ كرافت، كان يعتقد بأنّ تصميم الخوذات المتاحة والذي لا يتناسب مع المناخ المداري أسهم وإلى حد كبير في انخفاض معدلات استخدمها في فيتنام. وقدمت مؤسسة أتلانتيك 1.5 مليون دولار للمساعدة في إنشاء مصنع للخوذات خفيفة الوزن وذات التهوية الجيدة والمصممة خصيصاً لتناسب المناطق المدارية. ومع توفّر هذا الحل الجديد، ومع وجود هذا الفهم المشترك للمشكلة بفضل الأبحاث ومجموعات العمل التي تضم أفراداً من قطاعات مختلفة وهي مبادرات حصلت على التمويل الخيري، وضع البرلمان الفيتنامي مشروع قانون جديد يلزم سائقي الدراجات باستعمال الخوذة. وقبل أن يدخل القانون حيز التنفيذ، ساعدت المؤسسة الآسيوية للحماية من الإصابات في حشد جهود الجهات المانحة لدعم حملة إعلانية كبيرة عبر التلفزيون واللوحات الطرقية الكبيرة وجوانب الحافلات بهدف المساعدة في تثقيف عامة الناس وتغيير سلوكياتهم. وحققت هذه الحملة، التي كانت تستند إلى الممارسات الفضلى المطبقة في أنحاء أُخرى من العالم، خرقاً سريعاً نسبياً: فوفقاً لمنظمة الصحة العالمية، ارتفعت معدلات استعمال الخوذات مباشرة تقريباً بعد دخول قانون الخوذات حيز التنفيذ، في 2007، من 30% أو أقل إلى ما يقارب 95%، وبقيت ثابتة نسبياً منذ ذلك الوقت.

وأسهمت الاستثمارات الكبيرة في عملية توليد الطلب بتوسيع نطاق تطبيق تداخل بسيط وزهيد الثمن أنقد حياة الملايين من الناس في بنغلادش. فحتى ثمانينيات القرن العشرين، كان التجفاف الناجم عن أمراض الإسهال السبب وراء 20% من الوفيات المسجلة بين صفوف الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات، حيث كان يقتل مئات آلاف الأطفال سنوياً. وكان ذلك يحصل على الرغم من توفر محاليل فموية رخيصة وشديد الفعالية ضد التجفاف (لم تكن أكثر من مجرد مزيج دقيق من السكر والملح والماء)، وكان الباحثون طوروه في العاصمة دكّا قبل أكثر من عقد من الزمن. وكانت الحكومة وزعت كميات كبيرة من مظاريف هذا المحلول على عياداتها المنتشرة في أنحاء البلاد. لكن معظم هذه المظاريف كانت تُركن على الرفوف ولا يستعملها أحد. وكانت المشكلة من شقين: فالمحلول لم يكن متماشياً مع المعتقدات الثقافية السائدة منذ زمن بعيد بخصوص العلاج، كما أنّ الناس قلّما كانوا يزورون العيادات الحكومية في المناطق الريفية. فقد كانت 80% من الأمهات البنغلادشيات يعتمدن عوضاً عن ذلك على المعالجين التقليديين، والمتطوعين الصحيين في القرى، وغير ذلك من أشكال المعالجين غير الرسميين ليلبوا لهم احتياجاتهم الصحية.

وساعدت مبادرتان مموّلتان من الجهات المانحة في قلب الأمور رأساً على عقب. فاعتباراً من العام 1980، استثمرت عدة وكالات إغاثية ومؤسسات دولية غير حكومية أكثر من 22 مليون دولار (بحسب قيمة الدولار في العام 2016) في حملة تثقيفية تمتد على مدار 10 سنوات أدارتها (BRAC) وهي مؤسسة غير حكومية مقرها بنغلادش. ودربت الحملة آلاف النساء المحليات على مزج المحلول وأرسلتهن ليطرقن أبواب البيوت جميعها، وليعلمن 12 مليون أسرة على هذا العلاج الذي ينقذ حياة أطفالهم. وفي العام 1983، بدأت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية برنامجاً تمويلياً بعدة ملايين من الدولارات قدمتها إلى شركة التسويق الاجتماعي وهي عبارة عن مشروع محلي احتضنته مؤسسة الخدمات السكانية الدولية، من أجل إنتاج هذه المحاليل وتوزيعها وبيعها على نطاق واسع. وبغية التغلب على تحديات التوزيع وخلق المزيد من الطلب، بنت شركة التسويق الاجتماعي علاقات مع آلاف المعالجين الصحيين التقليديين وغير المرخصين والذين كانوا يخدمون معظم الأسر البنغلادشية. كما توصلت إلى شراكات مع بعض الموزعين من القطاع الخاص والذين كانوا بحلول العام 2007 وزعوا مظاريف المحاليل على 91% من صيدليات البلاد، و32% من متاجر البقالة. وتستعمل أكثر من 80% من الأسر البنغلادشية هذا المحلول اليوم، في حين سُجل هبوط في وفيات الأطفال من أمراض الإسهال بنسبة 90%.

يجب على المموّلين إيجاد مساحة للتعلم والتكيف بل وحتى الفشل.

أخيراً، دعونا نراجع برنامج "افتح يا سمسم". ففي أواخر ستينيات القرن الماضي، طلب نائب رئيس شركة كارنيغي (Carnegie Corporation) لويد موريسيت من المنتجة التلفزيونية جوان غانز كوني استكشاف مفهوم كان ثورياً في ذلك الوقت وهو مفهوم التعلم المبكر للأطفال عبر التلفزيون. وتعاون الطرفان وبموازنة طموحة خلال الموسم الأول بلغت 55 مليون دولار (بحسب قيمة الدولار في العام 2016). ودعت كوني إلى الاستثمار في تصميم قوي بما في ذلك توظيف منتج رائد في مجال البرامج الترفيهية للأطفال، ما يعزز احتمالات نجاح البرنامج في أوساط المستفيدين المستهدفين. ودفعت باتجاه الاستمرار في إجراء الأبحاث لاختبار مدى قدرة البرنامج على جذب انتباه الأطفال وتحسين قدرتهم على التعلم. وخُصصت نسبة مئوية كبيرة من موازنة البرنامج بلغت 8% للدعاية والإعلان.

ضمن موريسيت الحصول على إسهام بقيمة 7 ملايين دولار من كارنيغي، وجمع المبلغ المتبقي من متبرعين خيريين آخرين ومن الحكومة. ونجح برنامج "افتح يا سمسم" نجاحاً باهراً. ففي أسبوعه الأول، شاهده أكثر من 1.5 مليون طفل وهو ضعف عدد الأطفال الملتحقين بالتعليم ما قبل المدرسي. وفي غضون عام، كان البرنامج يصل إلى 36% من جميع الأطفال في عمر ما قبل المدرسة، وبحلول العام 1993، وصلت هذه النسبة إلى 77%. أما اليوم فإنّ أكثر من 156 مليون طفل يشاهدون "افتح يا سمسم" في أنحاء العالم، وأظهرت دراسات لا تعد ولا تحصى أنّه أسهم في تحقيق تقدم هائل في التعليم المبكر، وأدى إلى حصول تزايد في أعداد البرامج المشابهة التي تنتجها التلفزيونات الأُخرى.

تبني آليات لتصويب المسار

تصطدم كل عملية إصلاح بعيدة المدى بعوائق على الطريق. ولتحقيق الإنجازات المطلوبة على مدار عقود، يحتاج الممولون إلى دعم قدرة الجهات التي يقدمون المنح على إدخال التحسينات المتواصلة. إذ تدرك الجهات المانحة التي تتمتع بالخبرة أنّ التحديات تختلف من سياق إلى آخر (المدينة في مقابل الريف في مقابل الميل الأخير) ومن شريحة سكانية إلى أُخرى (المتبنون الأوائل في مقابل المتبنين المتأخرين)، كما تحتاج المؤسسات التي تريد ترك أثر اجتماعي إلى التجريب والقياس والتكيف مع حصول تغيّر في هذه العوامل. لكن حفنة فقط من الجهات الخيرية تستثمر اليوم بعمق في منح المساحة والبنية التحتية التي تسمح للحاصلين على المنح بأن يتعلموا، ويتكيفوا، لا بل أن يفشلوا في بعض الأحيان. فالصبر له حدود، كما أنّ الأموال الزهيدة المخصصة للقياس والتقويم، غالباً ما تعطي الأولوية للمساءلة ونسب الفضل إلى أهله عوضاً عن تخصيصها للتحسين المتواصل.

لقد كان تصويب المسار مهماً في جميع القصص الواردة أعلاه. ولنتذكر النكسات الكثيرة التي عانت منها بعض الحركات التي تطرقنا إليها، ولكن نظراً للصبر الذي تحلت به الجهات المانحة، فإنّها كانت قادرة على التعلم من هذه النكسات، وفي نهاية المطاف اكتشاف استراتيجية ناجحة. ولعب العمل الخيري دوراً أقل ولكنه يظل دوراً هاماً في تصويب المسار في حالة مبادرة أُخرى هي "برنامج الغداء في المدرسة الوطنية". لقد كان مفهوم توفير وجبات غداء لطلاب المدارس الفقراء موجوداً منذ مطلع القرن الماضي، كما وفرت الحكومة الفيدرالية الأميركية الدعم المالي لهذا البرنامج منذ أيام الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي. واعتبر عديدون بأنّ هذا المسعى كان ناجحاً. لكنّ مؤسسة "فيلد فاونديشن" في نيويورك استمرت في الاستثمار  بالأبحاث المخصصة لهذه القضية، وفي عام 1968 سلط صحفيان الضوء على مدى عمق انتشار ظاهرة الجوع التي كانت لا تزال قائمة، والفجوات الكبيرة في التغطية التي كان البرنامج يؤمنها، ما حثّ عامة الناس، والكونغرس والرئيس الأميركي على تجديد تركيزهم لخدمة هذه القضية. وخلال السنتين التاليتين، أدخلت الحكومة تعديلات على البرنامج. فبين جملة من الأشياء الأُخرى، وضعت مبادئ إرشادية فيدرالية تحدد معايير الاستحقاق والأهلية (عوضاً عن ترك تلك المسألة لإدارات المدارس على المستوى المحلي)، كما حولت تركيزها لينصب على مساعدة المحتاجين عوضاً عن دعم الوجبات الغذائية المخصصة لجميع الطلاب، وزادت حجم المخصصات المالية. وبحلول العام 2012، كان حوالي 31 مليون طفل يومياً (أي أكثر من نصف جميع طلاب المدارس الحكومية الأميركية) يحصلون على وجبات مجانية أو بأسعار مخفضة. وعلى الرغم من أن المشاكل المتعلقة بالحصول على هذه الوجبات لم تحل بالكامل، لكنّ التحسينات التي أدخلت كانت أكثر من هائلة، كما يواصل أنصار هذه القضية العمل على إلغاء الوصمة التي تطبع عملية تقديم الوجبات، ويزيدون من نسبة تبني الأطفال أنفسهم للأمر.

بالنسبة لأنماط التحديات الاجتماعية التي تستهدفها الجهات الخيرية الجريئة وغيرها من صنّاع التغيير، يُعتبر التكيف المبني على عملية قياس قويّة أمراً أساسياً للغاية. ولكي يُسهم المانحون في إحراز تقدم كبير، فيجب أن يضمنوا بأن تكون مواقفهم وتمويلاتهم على حد سواء انعكاساً للواقع الفعلي.

الماضي بوصفه خطوة ممهدة نحو المستقبل

ما الذي يمكن لأكثر الجهات الخيرية طموحاً هذه الأيام أن تتعلمه ممن ساعدوا في حل مشاكل كبيرة وهامة في الماضي؟ على أرفع المستويات، تُعتبر الاستراتيجيات الناجحة التي كشفنا النقاب عنها في هذه المقالة مخالفة للممارسات التمويلية السائدة حالياً. فهي شملت حالة من المثابرة استمرت لعقود، حتى عندما كانت وتيرة التغيير تبدو بطيئة، كما تضمنت توفير الدعم المالي للتعاون بين مختلف الجهات الأساسية، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن بعض التحكم، وتضمنت التفاعل مع الحكومة بهدف التأثير على التمويل والإجراءات، حتى في الأوقات المحفوفة بعدم اليقين، وهي انطوت أيضاً على رهانات خيرية كبيرة نقلت السلطة من الجهات المانحة إلى المنفذين والمستفيدين.

تختلف القضايا التي تستحق أكبر قدر من الاستثمارات اليوم عن تلك التي كانت قائمة في العقود الماضية، لكن الثابت هو الحاجة إلى وجود تعريف مشترك وديناميكي للمشكلة، وإلى إنجازات واضحة وقابلة للتحقق، وحلول مبنية بحيث يمكن تطبيقها على نطاق واسع، واستثمارات قوية بهدف توليد الطلب وخدمته، وقدرة على التكيف بين أوساط الجهات الخيرية والجهات المتلقية للمنح على حد سواء. ويمكن لفهم هذه العناصر واتخاذ الإجراءات المطلوبة أن يساعد المموّلين في تحقيق النجاح الجريء الذي يسعون إلى تحقيقه.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي