مع ظهور وباء فيروس "كوفيد-19"، هناك تهديد كامن لا يمكننا الاستمرار بتجاهله. ما الذي سيحدث إذا ما أخذت الدول تخزن الموارد الحيوية أو تؤممها بقصد محاربة المرض؟ في الثاني من مارس/ آذار، قالت صحيفة "نيويورك تايمز"، إن البيت الأبيض حاول إقناع شركة "كيورفاك" (CureVac) الألمانية التي تعمل على صنع لقاح ضد فيروس "كوفيد-19"، أن تنتقل إلى الولايات المتحدة. وادعت صحيفة ألمانية أن إدارة ترامب أرادت أن تتمكن الولايات المتحدة وحدها من الحصول على اللقاح، غير أن الأخيرة وشركة "كيورفاك" نفسها أنكرتا هذه الادعاءات. إلا أن هذه القضية قد هزت الحكومة الألمانية، وأعلن وزير خارجيتها، هايكو ماس، أنه: "لا يمكننا السماح بأن يستأثر الآخرون بنتائج أبحاث الشركة لأنفسهم". كما التقت المستشارة الألمانية، أنجلا ميركل، أهم المسؤولين الألمان من أجل مناقشة طرق منع هذه الصفقة. وبعد عدة أيام، نشرت صحيفة "ذا غلوبال تايمز" (the Global Times) التي يملكها الحزب الشيوعي الصيني مقالة افتتاحية تزعم أن "صنع اللقاح هو معركة لا يمكن للصين تحمل خسارتها"، قائلة أن الصين لا يمكنها الاعتماد على أوروبا ولا الولايات المتحدة لإعطائها اللقاح.
يبدو أننا قد نواجه مفهوماً خطيراً يدعى "القوانين الحمائية العكسية"، حيث تقيد الدول صادراتها بدلاً من وارداتها، ويحارب بعضها بعضاً من أجل السيطرة على الموارد الشحيحة اللازمة لحماية مواطنيها. وكما تسببت هذه القوانين الحمائية سابقاً بتعميق الكساد العظيم، يمكن أن تؤدي الآن إلى إطالة فترة انتشار وباء "كوفيد-19" عن طريق جعل محاربة الدول له أمراً صعباً، ما يزيد آثاره سوءاً. لكن حتى إذا لم يُعمل بهذا القانون، سيكون تنسيق استجابة الدول صعباً بسبب الشك الكبير المتبادل بينها والآخذ بالتصاعد حالياً، وسيتردد صدى انعدام الثقة عبر سلاسل التوريد.
لا تولي الشركات خارج قطاع الرعاية الصحية اهتماماً كبيراً بسياسات الصحة العالمية، لكن، أصبح حرياً بها الانتباه لهذا الأمر الآن. يبدو أن قادة بعض الشركات يدركون أن فيروس كورونا لن يؤدي فقط إلى ضرب العرض والطلب وإدخال العالم في حالة ركود، بل وسيعيد تشكيل العلاقات الأساسية بين الدول والأسواق. وفي ظل سعي الدول لحماية مواطنيها، نجد أنها تتبع سياسات تدخلية أكثر بكثير مما مضى، وقد يدوم كثير من هذه التدخلات أكثر من الوباء نفسه.
وهذا يعني أنه يجب على قطاع الأعمال الانتباه للطرق التي تبدأ بها الحكومات التدخل في الأسواق لمحاربة فيروس كورونا. يعتمد كل شيء على موقف الحكومات، فإما أن تدرك فائدة العمل المشترك فيما بينها، أو أن تدخل في حرب تقتتل فيها على الشركات وبضائعها، لتدخل عصراً جديداً من اكتناز الاقتصاد المغلق.
المنافع العامة
أدركت الدول فيما مضى أن لديها مصالح مشتركة في محاربة الأمراض المعدية. وتعمل منظمة الصحة العالمية والمنظمات غير الربحية مثل "بيل ومليندا غيتس فونديشن" على التنسيق بين الشبكات العالمية، حيث تعمل الدول والقطاعات الخاصة معاً لمنع انتشار مجموعة من الأمراض المعدية المختلفة أو معالجتها. يطلق خبراء الاقتصاد على التدابير الوقائية والعلاجات اسم "المنافع العامة"، ويعتبرون أن استخدام إحدى الدول دواء لإيقاف وباء ما، لن يسبب ضرراً للمواطنين في الدول الأخرى، بل سيساعدهم من خلال تخفيض احتمالات انتشار الوباء ووصوله إليهم. ومنذ بداية انتشار فيروس كورونا، لم يكن هناك تعاون بين الدول، فالصين على سبيل المثال، لم تقدم معلومات فورية عن الإصابات المحلية التي كانت ستسبب إحراجاً لكبار المسؤولين.
لكن على مدى الأسابيع القليلة الماضية، اتبعت بعض الحكومات أسلوباً مختلفاً تماماً، إذ أدركت وجود نقص في بعض اللوازم الأساسية، كالكمامات الواقية. فعندما ضرب فيروس كورونا إيطاليا، توسلت للحصول على مساعدة الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من انتماء ألمانيا وجمهورية التشيك إلى السوق الأوروبية الواحدة، إلا أنهما منعتا تصدير الكمامات وغيرها من المعدات الوقائية، وفرضت تركيا وروسيا قيوداً مماثلة، أما الحكومة الفرنسية فقد صادرت كل ما أمكنها من الكمامات لاستخدامها الخاص. لذا، كانت الصين، التي خرجت من أزمتها للتو، الأولى في إبداء النية لتقديم المساعدة.
والآن، توشك أجهزة التنفس التي يحتاج إليها ضحايا الفيروس الذين يعانون من وضع صحي حرج أن تصبح مصدراً جديداً للتوتر. ويبدو أن الدول التي تملك أعداداً كبيرة من أجهزة التنفس، مثل ألمانيا، لا تنوي مشاركتها حتى مع أقرب حلفائها، مثل فرنسا. أما الولايات المتحدة فقد استحضرت قانون الإنتاج الدفاعي الذي سيتيح لها فرض عقود إنتاج على الشركات المصنعة لأجهزة التنفس وتسخيرها على الأرجح لخدمة مواطنيها فقط. لكن ليس من الواضح كم سيكون هذا الإجراء فعالاً، بما أن العديد من الشركات المنتجة تقع خارج الولايات المتحدة، والشركات التي تقع ضمن الأراضي الأميركية تعتمد على مكونات مستوردة من الخارج وغير متوفرة أيضاً.
هذه الإجراءات ليست مستغربة، فمن الصعب على الحكومات التصرف بسخاء مع الآخرين عندما تكون شعوبها مذعورة ومواردها محدودة، ولكن قد يؤدي ذلك إلى دوامة من الخوف والإجراءات الانتقامية التي تضر بالشركات والمواطنين على حد سواء. كان الكساد العظيم أسوأ مما يجب بكثير لأن الحكومات فرضت رسوماً جمركية كبيرة على الواردات، وافترضت أنها ستتمكن من التصدير كالعادة، وكانت النتيجة انهيار قطاعات التصدير في جميع الدول واستمرار الأزمة إلى أجل غير مسمى.
التنسيق أو الموت
في الوقت الذي نكتب فيه هذه المقالة، يواجه العالم خطورة البقاء محتجزاً في حلقة مفرغة من انعدام الثقة والأنانية. إذا وسعت بعض الدول إجراءات منع تصدير الموارد الحيوية فقد تلجأ دول أخرى بدورها إلى منع تصدير مواردها من أجل حماية نفسها أو الانتقام، وإذا طالبت الحكومات الشركات بتصنيع منتجاتها وحصرها بالسوق المحلي، أو إذا صادرت الموارد ورفضت مشاركتها مع غيرها، فستزيد من الصعوبات التي ستواجهها الدول في مكافحة الوباء بمفردها. وسيصل الجميع إلى حال في غاية السوء، وستقتتل الدول فيما بينها على الموارد وستجبر الشركات على خدمة أسواقها المحلية فقط.
لكن، هناك احتمال كبير ألّا يحدث ذلك. إذ خففت ألمانيا القيود على صادراتها بالفعل، ولكن الصين قامت بأكثر من ذلك بكثير. فبعد أن تجاوزت أزمتها مع فيروس كورونا، حالياً على الأقل، أصبح بإمكانها تقديم الموارد اللازمة بسخاء لمحاربة الوباء في العالم. تسعى الصين بجد للاستيلاء على مكان الولايات المتحدة في قيادة العالم، عن طريق تقديم لوازم الاختبار الخاصة بالفيروس وملايين الكمامات الواقية للاتحاد الأوروبي على سبيل المثال. وإذا ازداد عدد الدول التي تتصرف على هذا النحو، ستتناقص احتمالات وقوع الدول الأخرى في فخ وطنية فيروس كورونا.
غير أن الولايات المتحدة ما زالت تسير في الاتجاه المعاكس. فقد أدلى وزير التجارة الأميركية ويلبور روس بتعليقه الشهير في يناير/ كانون الثاني قائلاً إن مشاكل الصين مع فيروس كورونا سوف "تسرع عودة الوظائف إلى أميركا الشمالية". ويستعد عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أركنساس، توم كوتون، لتقديم قانون يقضي "بإخراج سلاسل التوريد الأميركية الخاصة بالأدوية المنقذة للأرواح من الصين". أما المستشار التجاري للرئيس ترامب، بيتر نافارو، فيزعم أنه: "ليس لدينا حلفاء في أزمة كهذه"، وهو يحث على وضع سلسلة التوريد تحت سيطرة الولايات المتحدة كي تتمكن من تأمينها. إذا اتبع الموردون هذا النهج في دول أخرى، فقد يتولد فائض مفيد في النظام العالمي، ما يضمن أن تتمكن الولايات المتحدة من حماية مواطنيها في حالات الطوارئ دون إلحاق الضرر بالآخرين. أما إذا حاولت السيطرة على الموارد العالمية، فسوف يشعر الآخرون بالخوف من سعيها لحماية مصالحها على حساب الشعوب الأخرى.
وهذا الخوف هو ما أثار الجدل حول لقاح شركة "كيورفاك". من المؤكد أن كبار المسؤولين في الولايات المتحدة نفوا رغبتهم في احتكار اللقاح لصالح المواطنين الأميركيين وحدهم. في الحقيقة، تشتهر صحيفة "ذا غلوبال تايمز" بعدوانيتها، ولكنها تقول أيضاً أن الصين ستقدم أي لقاح تتوصل إليه للدول الأخرى. ومع ذلك، فإن وزير الخارجية الألماني صرح رسمياً أن ألمانيا لا تستطيع تحمل الخطورة المتمثلة باستئثار الولايات المتحدة على اللقاح لنفسها. إذا كانت الدول تخاف من نوايا أقرب حلفائها، فلا عجب أن الصين تخشى مما قد تفعله الولايات المتحدة وأوروبا إذا ما وضعت أيديها على اللقاح، في حين تخشى الولايات المتحدة من أن تتخذ الصين من الأهمية المركزية لقطاع الصناعات الصيدلانية الصيني سلاحاً تحاربها فيه. قد تبدو هذه المخاوف غير عقلانية، وقد يبدو رفض إحدى الدول حصول الدول الأخرى على اللقاح غير منطقي، ولكن كل ذلك حقيقي.
سيصبح تعامل شركات العالم فيما بينها صعباً إذا تفاقمت هذه الشكوك المتبادلة وترسخت بالفعل. على المدى القصير، قد تعيق هذه الشكوك التعاون العالمي في مكافحة فيروس كورونا، ما سيؤدي إلى وفيات إضافية وإطالة الزعزعة الاقتصادية الشديدة بسبب الوباء. لكن المخاطر طويلة الأجل مقلقة بصورة مساوية، إذ يمكن أن تؤدي البلاغة العدوانية إلى تقويض الدعم والثقة في شبكات سلسلة التوريد العالمية التي ترزح تحت الضغط بالفعل. وقد أدى الضغط من أجل زيادة ليونة سلاسل التوريد والإنتاج في الوقت المناسب إلى توليد معوقات ونقاط ضعف غير متوقعة، ويمكن أن يسارع المسؤولون الحكوميون لاستغلالها من أجل اكتساب منافع سياسية وهز ثقة الشركات في استثماراتها العالمية.
قد يتمثل عالم الأعمال الأفضل، بالنسبة للحكومات والمواطنين على حد سواء، بعالم تتوقف الحكومات فيه عن التنافس في سبيل السيطرة على الموارد وتلتفت عوضاً عن ذلك إلى التنافس في السخاء. تحاول الصين سرقة حلفاء الولايات المتحدة عن طريق بيعهم، أو منحهم، المستلزمات الأساسية لمكافحة فيروس كورونا. وقد نشرت رئيسة المفوضية الأوربية، أورسولا فون دير ليين، تسجيل فيديو تشيد فيه بالقيادة الصينية التي سارعت لمساعدة أوروبا. لو كانت الولايات المتحدة تعيش في حقبة سابقة، لكان من الممكن أن تعد نفسها لمواجهة هجوم الفيروس وتضع خططاً لمساعدة الحلفاء والتغلب على الخصوم السابقين عن طريق تقديم المساعدة السخية. وهذا تحديداً ما فعلته الحكومة الأميركية عقب أزمة عام 2008 المالية، إذ طبقت برامج إنقاذ ضخمة وصندوق إغاثة للمصارف الأميركية وقطاع الخدمات المالية العالمي. على كل حال، قدمت الولايات المتحدة في اجتماع القمة الافتراضي لمجموعة الدول السبع الشهر الماضي بعض الحلول السياسية الملموسة وأرغمت قادة العالم على كتابة بيان سياسي فوري حول مشاركة الدول للقاح الذي سيتم التوصل إليه.
السخاء العالمي ليس حكراً على الحكومات فقط، وإنما يمكن للشركات والمنظمات غير الربحية المشاركة فيه أيضاً، على الرغم من غياب السياسة الأميركية المنسجمة معه. وقد أثبتت مؤسسات مثل "مؤسسة غيتس" حضورها المذهل في المجالات الأساسية من سياسة الرعاية الصحية كتطوير اللقاحات، وأنشأت روابط وثيقة مع المؤسسات الدولية كمنظمة الصحة العالمية. لذلك، يجب أن يضغط القطاع الخاص على المسؤولين الحكوميين من أجل ضمان استجابة عالمية تحمي شعوبهم إضافة إلى النظام الصحي العالمي الذي تعتمد عليه حكوماتهم أيضاً. سيتمكن القطاع الخاص من المساعدة في تهدئة المخاوف والتوترات من خلال اتباع السلوك القيادي وبناء الشبكات والمساعدة على إثبات أنه لن يستثنى أحد من اللقاحات أو أي سلعة عالمية، ما سيؤدي إلى تقليص خطورة اتباع قوانين حمائية جديدة لن تصب في صالح أحد.