أحياناً يخلق النقاش المستمر حول مشكلة الإرهاق في قطاع الرعاية الصحية شكلاً آخر من الإرهاق، يتجسد في الشعور بالعجز عن التصدي لهذا الوباء. لكن هناك حلاً لمواجهة مشكلة الإرهاق هذه. إذ يمكن أن تستعين مؤسسات الرعاية الصحية بإطار عمل، من شأنه أن يحلل المصادر المختلفة للضغوط والمكافآت في حياة الأطباء، ومن ثم يرشدها إلى وضع استراتيجيات مناسبة لتحقيق التوازن. ولكن هذه المصادر المختلفة تستلزم استجابات مختلفة، ويمكن أن يؤدي وضعها في سلة واحدة إلى إحباط الأطباء، وزيادة تفاقم المشكلة.
ويقسِّم هذا الإطار مصادر الضغوط والمكافآت إلى نوعين: مصادر متأصلة في رعاية المرضى الذين يعانون، ومصادر خارجة عن هذا، وتنبع من البيئة التي يعمل الأطباء خلالها. ويتوافق هذا المنظور حول إرهاق الأطباء مع الإطار الخاص بتخفيف معاناة المرضى الذي استعرضناه في مقال سابق أنا وزملائي. ويفرِّق هذا الإطار بين المعاناة الناتجة بشكل مباشر عن المرض (على سبيل المثال: الأعراض والمخاوف المرتبطة بتشخيص مرض خطير)، والمعاناة الناتجة عن خلل في منظومة تقديم الرعاية الصحية (على سبيل المثال: القلق الناجم عن سوء التنسيق). ويتمثل هدف الأطباء والمؤسسات التي يعملون فيها في تخفيف المعاناة المتأصلة في حالات المرضى، ودرء المعاناة الناتجة عن خلل في منظومة الرعاية الخارجية.
مصادر الضغوط والمكافآت المتأصلة
يُعتبر دور مقدم الرعاية بالنسبة للأطباء مصدراً دائماً لكل من المكافآت والضغوط على السواء، فالاثنان متشابكان بشكل لا ينفصل، لدرجة أن التخلص من أحدهما قد يؤدي إلى تغيير طبيعة دور الطبيب بأكمله. إذ إن العناية بمرضى يعانون هو أمر مستنزِف معنوياً ومنهِك جسدياً وفكرياً، لكن لهذا السبب يحظى الأطباء بكثير من الاحترام من أسرهم وأصدقائهم ومجتمعهم. ناهيك عن تلك الضغوط الهائلة الناجمة عن اتخاذ الأطباء قرارات مصيرية اعتماداً على بيانات منقوصة. لكن على الجانب الآخر، هناك مشاعر مثل فرحة الأطباء باتخاذهم قراراً سليماً، أو نجاحهم في إجراء جراحة ما، أو حتى مجرد معرفتهم أن نتائج المرضى قد تحسنت. وهذه التجارب والمشاعر المُرضية للغاية يصعب فصلها عن تلك الضغوط.
ونظراً للتشابك بين هذه الضغوط والمكافآت المتأصلة، فإن محاولة التخلص من مسببات الضغوط تبدو ببساطة غير واقعية. ومع ذلك، يمكن أن تعمل القيادة المؤسسية على تخفيف أثر هذه الضغوط، وتضخيم أثر المكافأة. فهناك عدد من إجراءات الدعم المعنوي التي تساعد الأطباء في النظر إلى ضغوط أدوارهم من منظور مختلف، مثل التعليقات التي تتيح للأطباء معرفة مدى تقدير الآخرين لدورهم في تقديم الرعاية الطبية بروح من التعاطف، وتنسيق جهودهم مع الآخرين، والتواصل بفاعلية مع المرضى. وكذلك خلق بيئة تتسم بروح العمل الجماعي حول الأطباء يمكن أن تذكرهم بأنهم ليسوا وحدهم، وأن لهم زملاء يقدِّرون احترامهم بشدة، ولا يريدون تخييب أملهم.
مصادر الضغوط والمكافآت الخارجية
للأسف، تضيف بيئة الرعاية الصحية ضغوطاً ومكافآت خارجة عن رعاية المرضى، وتتطلب بدورها استجابة مختلفة من الناحية النوعية. ويرتبط العديد من هذه الضغوط بالإنفاق على قطاع الرعاية الصحية والرقابة على جودته (على سبيل المثال: لا بد من جمع البيانات بعناية للتعامل مع المدفوعات أو لقياس الأداء الطبي). وتُجمع غالبية هذه البيانات عن طريق السجلات الطبية الإلكترونية، التي تتسم بفاعليتها في جمع البيانات لكنها غير فعالة دائماً فيما يتعلق برعاية المرضى، مما يجعلها محط استياء. إلى جانب هذا العبء التوثيقي، تتطلب بيئة العمل الحديثة تفاعلاً مع أعداد متزايدة من الموظفين مقارنةً بجيل مضى، مما يضاعف فرص وجود سوء الإدارة، وتدني العمل الجماعي، وانتشار السلوكيات السلبية بين الزملاء، والمضايقات، وظهور ثقافة مسمومة في بيئة العمل. والمثير للمفارقة أنه على الرغم من احتمالية تفاعل المزيد من الأطباء لرعاية كل مريض، يظل وجود عدد كاف من الموظفين في كل دور مصدر قلق يساهم في إضافة المزيد من الضغوط إلى بيئة العمل.
على عكس الضغوط التي ينطوي عليها دور الطبيب، لا ترتبط سلبيات البيئة ارتباطاً مباشراً بالمكافآت ذات المعنى الأعمق. وبالتالي، حتى إذا كانت هذه الضغوط الخارجية جزءاً من العملية التي يجني منها الأطباء دخلهم، فإنهم يعتبرونها إحباطات وعوائق تقف حائلاً دون رعاية المرضى ومشاركة الأطباء. هذه هي المشكلات التي تجعل الأطباء يقولون: "لم أتطوع للقيام بهذا".
ويمكن أن تساعد أساليب تخفيف التوتر في مجابهة مصادر الضغوط الخارجية على المدى القصير. لكن ينبغي أن تتمثل الخطة طويلة المدى في تقليص الخلل المؤسسي والقضاء عليه، بدلاً من انتظار أن يكون الأطباء ببساطة أكثر مرونة. وكذلك، يجب التنبه إلى أن الإشارة إلى أن الإرهاق نتيجة الضغوط الخارجية الهائلة هو مجرد مشكلة فردية، ومحاولة التعامل معه عن طريق تدخلات تستهدف الأفراد فقط، لن تحقق شيئاً سوى مضاعفة سخط الأطباء.
قياس المهم
النبأ السار أنه من الممكن قياس هذه المصادر المختلفة للمكافآت والضغوط وفهمها. فلابد أن تكون القيادة المؤسسية على دراية بالمصادر المتأصلة والخارجية التي لا يمكنها التأثير عليها (مثل حدود الإمكانات الطبية)، مع التركيز في نفس الوقت على المصادر التي تستطيع التأثير عليها، مثل التأكد من شعور الأطباء بالتقدير وتوفير الموارد التي يحتاجون إليها. ويستعرض الجدول التالي أمثلة لمقاييس يمكن استخدامها لتقييم المكافآت المتأصلة والضغوط الخارجية.
ويضمن الفصل بين تأثير الضغوط المتأصلة والخارجية ألا تخلط القيادة المؤسسية بين مصادر هذه الضغوط المختلفة أو تتجاهلها. فرغم أن كليهما له تأثير على احتمالية الشعور بالإرهاق - أو التعافي منه - لكن يجب التعامل مع كل منهما بشكل مختلف. لذلك، تحتاج القيادة إلى استراتيجية شاملة ذات تدخلات مصمَّمة خصيصاً لتقليل الصراعات في بيئة العمل المتدنية، والمساعدة على التأقلم مع عمل هادف وإن كان مجهداً، وتعزيز الفائدة والغاية التي يختبرها الأطباء.
استراتيجية ذات محورين
في البداية، إذا أرادت القيادة مواجهة الإرهاق الذي يشعر به الأطباء بفعالية، يجب أن تميز، بشكل واعٍ، بين الضغوط والمكافآت المتأصلة والخارجية، لتدير كلاً منهما بالشكل المناسب.
بالنسبة للجانب المتأصل، من الضروري أن تعزز القيادة مشاركة الأطباء وتساعدهم على تحقيق التوازن في رعايتهم للمرضى. ويبدأ هذا بتضخيم المكافآت المتأصلة في دورهم المهم، عن طريق، مثلاً، التأكيد على الهدف المتمثل في تخفيف معاناة المرضى، والاعتراف بجهود الأطباء ونجاحاتهم في تحقيق هذه الغاية. في الوقت نفسه، من الضروري الحد من تأثير الضغوط المتأصلة في دور الطبيب، والاعتراف بمدى صعوبة العمل، وتقديم الدعم والموارد اللازمة لإدارة مسببات هذه الضغوط. على سبيل المثال: يساعد استجواب الأطباء عقب وفاة أحد المرضى وتقديم الدعم المستمر لهم للتعامل مع الخسارة في قبول الضريبة العاطفية لرعاية المرضى. كما أن المرونة التي تنتج من مساعدة الأطباء على التأقلم مع الضغوط المتأصلة يمكن أن تبدِّل حياتهم، وتعزِّز قدرتهم على الالتزام. إذ تتيح لهم هذه المرونة مواجهة الأعباء المتكالبة، وفي الوقت نفسه الحفاظ على حماسهم بدلاً من أن يشعروا بالإرهاق.
أما بالنسبة إلى التعامل مع الضغوط والمكافآت الخارجية، فإنه يتطلب بذل جهود حقيقية لتقليل الخلل في بيئة العمل وتعظيم الاستفادة من عملية تقديم الرعاية الصحية. ويتضمن ذلك تعزيز المرونة والصحة لمساعدة الأطباء على التأقلم مع أعباء عملهم وحجمها، ولكنه يستوجب أيضاً إحراز تقدم ملموس في الحد من سلبيات بيئة العمل التي تؤدي إلى إرهاق الأطباء. ومن بين أهم الجهود: أولاً، تشكيل فرق وعمليات عالية الأداء تتيح لكل عضو فيها العمل على أحسن ما يكون. ثانياً، زيادة فاعلية السجلات الطبية الإلكترونية واستخدامها كي يستطيع الأطباء قضاء مزيد من الوقت في التفاعل مع مرضاهم. فإذا أصبحت الضغوط الخارجية طاغية، فلن يتمكن أي قدر من المكافآت المتأصلة من موازنتها.
ويتطلب اتباع هذين المسارين معاً جهداً مضنياً، ومن المستبعد أن يكون اتباع أحدهما فقط فعالاً أو مقبولاً من جانب الأطباء. ويكمن النجاح، هنا، في الاعتراف بمسارات العمل المختلفة والمكملة بعضها لبعض، والتي ستهدم الحواجز المعرقلة في بيئة العمل من ناحية، وتعزز من المكافآت المتأصلة في عمل مقدم الرعاية الناجح من ناحية أخرى. وستستطيع المؤسسات التي تحقق التوازن بين الضغوط والمكافآت أن تتوقع شعور أطبائها بالفخر حيال عملهم داخل المؤسسة، والاستعداد التلقائي لترشيح مؤسستهم للآخرين، والنية لمواصلة العمل فيها لسنوات عديدة مقبلة.