تقنية البلوك تشين، بحد ذاتها، ثورة تعتمد على ثورة تقنية أخرى قديمة جداً لدرجة أن أصحاب الخبرة الواسعة بيننا فقط هم من يتذكرونها: اختراع قاعدة البيانات. التي كانت بدايتها في شركة "آي بي إم" عام 1970، ولا يمكن أبداً المغالاة في أهمية قواعد البيانات ذات الصلة في حياتنا اليومية الآن. فحرفياً، يعتمد كل جانب من جوانب حضارتنا اليوم على هذه الفكرة القائمة على تخزين البيانات واستردادها. ويوشك البلوك تشين حالياً أن يحدث ثورة في عالم قواعد البيانات هذه، والتي، بطبيعة الحال، ستحدث ثورة في كل جوانب حضارتنا، فماذا عن إنشاء عالم دون وساطة بشكل صحيح؟
ظل نموذج قاعدة البيانات التابع لشركة "آي بي إم" دون تغيير إلى ما قبل 10 سنوات تقريباً، حتى اقتحمت تقنية البلوك تشين هذا المجال المتحفظ بمقترح جذري جديد: ماذا لو عملت قاعدة البيانات الخاصة بك كشبكة - شبكة يتشاركها الجميع في كل أنحاء العالم، حيث يمكن لأي شخص وأي شيء أن يتصل بها؟
هذه الفكرة يدعوها خبراء البلوك تشين بـ "اللامركزية"، وهي تقدم وعداً بتحقيق تعاون، شبه خالٍ من الخلافات، بين الأعضاء في الشبكات المعقدة، إذ يمكنها تحقيق قيمة مضافة لكل منهم، وذلك من خلال تمكين التعاون بينهم دون الرجوع إلى سلطات مركزية أو وسطاء.
لنبدأ بدراسة الآثار المحتملة لهذا الأمر على إحدى الصناعات التي تمس حياتنا جميعاً، وهي المصارف. إن الصناعة المصرفية مليئة بالموارد المشتركة. ولنأخذ ماكينات الصراف الآلي (ATM) مثالاً. فنجد أن كل ماكينة منها تابعة لمؤسسة معينة، لكنها تقبل البطاقات من شبكة ضخمة من المؤسسات. وتتطلب هذه المشاركة، بدورها، وسيلة إدارة معقدة، تقدمها غالباً شركة "فيزا". ويمتلك هذا الكيان المركزي طبقة قاعدة البيانات ومعالجة العمليات التي تجعل أي شيء آخر ممكناً. ولو كانت عملية استخدام الصراف الآلي اُختُرِعت اليوم، وبوجود خيار البلوك تشين باعتباره آخر صيحات تقنية قواعد البيانات، فلن نحتاج على الأغلب كياناً إدارياً مثل شركة "فيزا" لإدارة العملية، وبدلاً من ذلك، ستقوم هذه التقنية نفسها برفع مستوى توحيد المصالح والعمليات التجارية للبنوك الأعضاء. إذ يمكنك أن تتخيل بسهولة شبكة بلوك تشين عالمية واحدة لإدارة قابلية التشغيل المتبادل للبطاقات البنكية. وبدلاً من إنشاء طرق محورية لتنظيم مواردنا المشتركة من أجل تحقيق المنفعة المتبادلة، ستقدم هذه التقنية الحديثة حلولاً دون وجود مراقبة مركزية. وفي عالم خالٍ من الوسطاء، ستصبح الأمور أكثر فعالية على نحو غير متوقع. قد لا تبدو رسوم المعاملات البالغة 1% كثيرة، لكن هذا المبلغ يتراكم إذا كانت سلسلة التوريد تتألف من 15 خطوة مثلاً. لذلك، يضيف هذا النوع من الاحتكاكات التجارية البسيطة عائقاً كافياً على الاقتصاد العالمي، يجعلنا مجبرين على الالتزام بالعمل ضمن سلاسل توريد قصيرة وإجراء الصفقات ضمن حدود معينة، لأنه، ببساطة، من غير المجدي أبداً أن يكون هناك المزيد من الروابط في سلسلة التوريد مما يزيد الأعباء، وكذلك العمل خلال معاملات صغيرة. وهنا سيأتي دور فكرة اللامركزية التي توفرها تقنية البلوك تشين، التي ستغير هذا الأمر، مما قد يحدث تأثيراً ضخماً على الاقتصاد في العالم النامي. إذ إن أي تحول يساعد الشركات الصغيرة على التنافس مع الشركات الكبرى سيحدث تأثيرات عالمية كبيرة.
كيف تعمل تقنية البلوك تشين؟ وماذا عن إنشاء عالم دون وساطة بشكل صحيح؟
إليك 5 مبادئ أساسية تتضمنها هذه التقنية:
1- قاعدة بيانات موزعة
يمتلك كل طرف في البلوك تشين إمكانية الوصول إلى كامل قاعدة البيانات وتاريخها بأكمله، وهو أمر غير موجود في البنوك. إذ لا يمكن لأي طرف وحده التحكم بالبيانات أو المعلومات. وإنما يمكن لكل طرف التحقق من سجلات معاملات شركائه مباشرة دون الحاجة إلى وسيط.
اقرأ أيضاً: نشطاء صينيون يستخدمون بلوك تشين لتوثيق قصص حملة #أنا أيضاً
2- التحويل من النظير لنظيره لإنشاء عالم دون وساطة
يحدث التواصل مباشرة بين النظراء (Peer-to-Peer) بدلاً من أن يتم عبر عقدة مركزية. إذ تخزن كل عقدة المعلومات، وتعيد توجيهها إلى كل العقد الأخرى.
3- الشفافية والتسمية المستعارة
تكون كل المعاملات والقيم المرتبطة بها مرئيةً لأي شخص لديه إمكانية الوصول إلى النظام. وتتميز كل عقدة أو مستخدم في تقنية البلوك تشين بعنوان فريد مؤلف من أكثر من 30 حرفاً. ويمكن للمستخدم اختيار إما البقاء مجهولاً للآخرين أو الإفصاح عن هويته. وتجري المعاملات في البلوك تشين بين هذه العناوين.
4- عدم قابلية التغيير في السجلات
بمجرد إدخال الصفقة إلى قاعدة البيانات وتحديث الحسابات، يصبح من غير الممكن تغيير السجلات، لأن كل سجل منها مربوط بكل سجلات العمليات السابقة (ومن هنا أتت التسمية بالسلسلة "chain"). وتُنشر خوارزميات ومناهج حسابية مختلفة لضمان أن التسجيل على قاعدة البيانات دائمٌ ومرتب زمنياً ومتوفر للجميع على الشبكة.
5- المنطق الحسابي
تعني الطبيعة الرقمية لدفتر الحسابات أن المعاملات في البلوك تشين يمكن ربطها بالمنطق الحسابي، وأنها أساساً مبرمجة، وبالتالي، يستطيع المستخدمون إعداد الخوارزميات والقواعد التي تؤدي، تلقائياً، المعاملات بين العقد.
وبدورها، تدعم تقنية البلوك تشين عملية تشكيل المزيد من شبكات القيمة المعقدة أكثر من أي طريقة أخرى. وبطبيعة الحال، فإن تكاليف المعاملات ومصادر الاحتكاك التجاري الأخرى المرتبطة بوجود المزيد من البائعين تُبقي عددَ الشركاء في شبكة القيمة صغيراً. لكن إذا أصبحت عملية تحديد الشركاء أسهل، فإن شبكات القيمة الأكثر شمولية ستصبح مربحة حتى في حالة العمليات التجارية الصغيرة.
لنأخذ، على سبيل المثال، حالة مشكلة المصنّعين الصغار الذين لديهم تعاملات مع شركات عملاقة مثل "وول مارت" (Wal-Mart). إذ تقوم، عادة، الشركات الكبرى فقط بالشراء من الشركات التي يمكنها أن تخدم نسبة كبيرة من زبائنها، بهدف خفض تكاليف المعاملات وتكاليف حمل كل خط إنتاج منخفضة. لكن في حال كانت تكاليف حمل منتج جديد صغيرة، فقد ينضم عدد أكبر من المصنعين الصغار إلى شبكة القيمة. وتتبع شركة "أمازون" هذا الأسلوب بنجاح، إذ تمتلك أعداداً هائلة من الباعة الصغار الذين يبيعون عبر نفس المنصة. وتنطبق الفكرة أيضاً على أعلى مستوى في منصتي "إيباي" (eBay) و"كريغزليست" (Craigslist)، اللتين نقلتا العمل إلى مستوى الفرد. وعلى الرغم من صعوبة تخيل شركة مثل "وول مارت" بتنوع منتجاتها يتم عرضها عبر منصة "أمازون" أو حتى "إيباي"، فإن هذا هو نمط المستقبل الذي نحن بصدده.
اقرأ أيضاً: هل سنحقق وعد تقنية بلوك تشين في تطبيق اللامركزية؟
"إنترنت الاتفاقات"
وكما جاء في ورقة عمل لنا بعنوان "إنترنت الاتفاقات"، التي قُدمت في "القمة العالمية للحكومات" بدبي: "قد ينخفض التعقيد العَرَضي في العمليات التجارية إلى حد كبير، لنتحول إلى مجال تبرز فيه بيئة عمل أكثر تعقيداً وتداخلاً. هذه البيئة قد تختلف عن بيئة العمل الحالية اختلافاً جوهرياً، مثل الاختلاف بين شحن البضائع في حاوية عن حزمها ونقلها يدوياً في القوارب". (إفصاح: أنا مؤسس صندوق "هيكسيورت كابيتال" (Hexayurt.Capital) الذي يُعنى بالاستثمار في إنشاء شبكة انترنت الاتفاقات).
وعلى سبيل المثال، تخيل النفقات العامة الموضوعة لاستئجار أثاث مؤقت لمنزل. إن مثل هذه الممارسة ليست أمراً مألوفاً جداً حالياً (خاصة للإقامة القصيرة)، نظراً لحجم النفقات العامة المتعلقة بالتأمين على كل سلعة مستأجرة، وعشرات الباعة، ونفقات التنسيق لإدخال وإخراج كل شيء، وأمور من هذا القبيل. لكن، إذا انخفضت تكاليف هذه الإجراءات بنسبة 90%، فعندها يمكن تخيل مواقع مثل "إير بي إن بي" (AirBnB)، وهي شركة عالمية تختص بخدمات متعلقة بالضيافة والسياحة وتأمين الإقامة، تقدم عروضاً لخيارات الأثاث في أماكن الإقامة التي يستأجرها العملاء. أضف إلى هذا المستقبل شاحنات النقل الروبوت، وحتى عروض تقديم أثاث متخصص في أماكن الإقامة قصيرة المدى. إن جعل التعقيدات اللوجستية مثل الإنتاج المسرحي أو صيانة الطائرات أمراً ميسراً في الأحداث الصغيرة مثل حفلات الزفاف يعتبر مثالاً بسيطاً عن أحد المجالات التي يمكن أن يتسبب تخفيض النفقات فيها إلى فتح أبواب عمل جديد، حيث تتكامل شبكات القيمة المعقدة لتقدم خدمات لا يمكن لشبكات القيمة البسيطة تقديمها.
وسنشهد احتمالية التحول لمسار من التغييرات الجذرية في كل الصناعات نحو عالم دون وساطة تحديداً. وكمجتمع، سنختبر فترة من التغييرات التكنولوجية غير المسبوقة. وسيبدو الأمر تحدياً لا يمكن تخطيه بالنسبة للقادة في سبيل البقاء على المسار في عالم سريع التغير. ومع ذلك، فنحن نكتسب مع تقدم الأجيال المزيد من المهارات والخبرات خلال مرورنا بمستوى عالٍ من التغييرات. وبهذه الخبرة، علينا أن ننظر إلى تقنية البلوك تشين بوصفها فضاءً يتكشف ويزدهر ويغير عالمنا.
اقرأ أيضاً: تاريخ موجز لتكنولوجيا البلوك تشين