وظائف الخدمات تليق أكثر بالطبقة الوسطى

4 دقائق

تتوق الولايات المتحدة إلى عودة الطبقة الوسطى، والتي كانت ذات يوم في أفضل أحوالها قبل أن تتداعى وتنهار الآن، إنما كيف السبيل إلى ذلك؟ ينادي البعض بأن الحل يكمن في العمل على إحياء وظائف التصنيع، في حين يقول آخرون إنه يتمثّل في إعادة توزيع الثروة الحالية، بينما تنادي فئة ثالثة بأن الحل يكمن في إنشاء دخل أساسي عام، في الوقت الذي يقوم به الباحثون بتأييد فكرة التعليم المستمر طوال الحياة لزيادة الكفاءة. وحتى كبار المدراء التنفيذيين في الولايات المتحدة يقولون إنهم في حاجة إلى خلق المزيد من الوظائف ذات الأجور المرتفعة.

إلا أن الأمر الذي ينساه الجميع تقريباً هو كيف يمكننا تحسين الوظائف ذات الأجور المنخفضة الموجودة بالفعل، والتي يقع معظمها ضمن قطاع الخدمات، إذ غالباً ما ينظر حتى قادة الأعمال ورواد الفكر إلى هذه الوظائف على أنها فقط منصة للقفز نحو وظائف أفضل، أو يفترضون ببساطة أنها ليست وظائف حقيقية تليق بعمل الطبقة الوسطى فيها. لكن، لا يمكننا بناء طبقة متوسطة كبيرة بما يكفي من دون تحسين هذه الوظائف.

ففي العام الماضي، كان ما يقرب من 42 مليون أميركي، أي حوالي 30% من تعداد القوى العاملة، يعملون بأجر وسطي للساعة يقل عن 15 دولاراً في كل من قطاعات تجارة التجزئة والخدمات الغذائية والرعاية الشخصية ودعم الرعاية الصحية والتنظيف والصيانة. وكان هذا العدد يزيد بكثير عن تعداد العاملين في مجال الإنتاج، البالغ عددهم 9.1 مليون شخص، وفي الوظائف التقنية، يقدر عددهم بـ 4.7 مليون شخص. وكان القطاع الأكبر في الولايات المتحدة الأميركية على مدار السنوات العشرة الماضية هو قطاع مبيعات التجزئة، إلا أن متوسط الأجر بالساعة للفرد في عام 2018 كان فقط 11.33 دولاراً. ويتوقع أن تنمو على مدار السنوات القادمة، أي حتى عام 2026، وظيفتا مساعد منزلي في مجال الصحة، ومساعد في مجال العناية الشخصية، ويبلغ أجر الساعة للوظيفة الأولى 11.63 دولاراً فقط، ويبلغ في الحالة الثانية 11.55 دولاراً.

ويكافح العاملون في تلك الوظائف من أجل تأمين ضرورياتهم الأساسية من قبيل الإيجار والرعاية الصحية، فضلاً عن أنهم نادراً ما يتمكنون من توفير ما يكفي لمرحلة التقاعد أو حتى للحالات الطارئة (في أبسط حالاتها كشراء بطارية سيارة جديدة). ولدى كثيرون منهم جداول زمنية غير مستقرة تؤثر على مداخيلهم وأيضاً على تعليم أطفالهم والرعاية الصحية لأسرهم. كما أن معظم أرباب عملهم يرونهم عمالة قابلة للاستبدال في أي لحظة، وأنهم "موجودون بالعشرات، ومجرد روبوتات بشرية" على حد تعبير أحد أرباب العمل هؤلاء.

لا تنتمي تلك الفئة إلى الطبقة الوسطى، كما أنها بعيدة كل البعد عنها، إلا أنها يجب أن تكون كذلك. ففي الإمكان تحويل تلك الوظائف السيئة مسدودة الأفق إلى وظائف جيّدة توفر حياة معيشية رغدة بميزات أفضل، وجداول زمنية أكثر استقراراً وفرصاً أفضل. لكن كيف يُمكن تحقيق ذلك؟ يمكننا رؤية الإجابة عبر ما قامت به بعض سلاسل البيع بالتجزئة الناجحة للغاية، بنماذج أعمال مختلفة، والتي قدمّت لنا إجابات عملية حيال كيفية القيام بذلك.

ففي "كويك تريب" (QuikTrip) على سبيل المثال، يبدأ أجر المساعد من 42 ألف دولاراً. وتقع هذه الشركة في توسلا بأوكلاهوما، وهي عبارة عن سلسلة متاجر أغذية. أما أجر الساعة في سلسلة متاجر "كوستكو" (Costco)، فيزيد قليلاً عن 23 دولاراً. ويتحدث أحد موظفي السلسلة عن الأمر قائلاً "ستمنحك "كوستكو" راتباً يمكنك من خلاله تربية أسرة، وخطة طبية تخفف من أعبائك المادية في حال كان لديك طفل مريض، ويؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى حفاظ الموظفين على تركيزهم وشعورهم بالسعادة وتكريس طاقتهم بالكامل لعملهم". وتصمّم كل من "كويك تريب" و"كوسكتو" عملياتهما بطريقة تحترم وقت موظفيهما ومعارفهم وقدراتهم وتعززها، فضلاً عن أنها تمنح أولئك الموظفين غاية أكبر ورضا أكثر في العمل، بدل النظر إليهم كروبوتات قابلة للاستبدال. صحيح أن ذلك استثمار كبير للمال والجهد في القوى العاملة، لكنه يعود بعوائد أكبر في الإنتاجية، وولاء العملاء، والقدرة على التكيف.

ويؤدي ذلك إلى إنشاء طريق أكثر فاعلية تجاه طبقة متوسطة أميركية أكبر وأكثر أماناً. وسيتوجب على "الطاولة المستديرة للأعمال"، المؤلفة من كبار المدراء التنفيذيين في البلاد، إعطاء الأولوية لرفع أجور الأعضاء العاملين في القطاعات ذات الأجور المنخفضة، ومعاملتهم بكرامة أكثر، وتقدير العمل الذي يقومون به بشكل أكبر، إذا كانت تلك الطاولة جادة فعلاً بشأن وجوب خدمة الشركات لموظفيها ومجتمعاتها وليس فقط مساهميها، وعلى مجالس إدارات تلك الشركات ومستثمريها منح هؤلاء المدراء التنفيذيين الوقت والدعم اللازمين لإجراء هذه التغييرات.

ولن يحدث أي تغيير بسهولة، وخصوصاً في حالة محاولة تقديم وظائف جيّدة. وتعاني الشركات بالفعل من هوامش ربح ضعيفة ومنافسة شديدة، وخصوصاً تلك التي يمكن أن يُحدث فيها مثل هذا التغيير أكبر أثر للشركة ولعمّالها ذوي الأجور المنخفضة. ولكن، كما أظهرت شركات مثل "ميركادونا" (Mercadona)، وهي أكبر سلسلة متاجر في إسبانيا، و"مد باي" (Mud Bay)، وهي سلسلة متخصصة بالحيوانات الأليفة في شمال غرب الولايات المتحدة، سيحدث ذلك فقط إذا أعطى المدراء التنفيذيون الأولوية لتلك المبادرات على حساب أخرى. فقد زادت "مد باي" من الأجور بحوالي 30% بين عامي 2014 و2017، فضلاً عن قيامها بتطبيق "خطط حيازة الموظفين للأسهم" (ESOP)، وزادت النسبة المئوية للموظفين الذين يعملون لأكثر من 30 ساعة في الأسبوع (وبالتالي يحصلون على مزايا وظيفية) من 65% إلى 82%، وأجرت العديد من التغييرات على بيئة العمل. وكانت النتائج رائعة، إذ انخفضت معدلات رحيل الموظفين عن الشركة إلى حدود 35%، وزاد حجم العمل، وعدد العمال، ومعدل دوران المخزون، فضلاً عن حدوث زيادة بنسبة 50% تقريباً في نمو مبيعات الشركة بشكل عام.

على مدى المائة عام الماضية، تم تحويل العديد من وظائف التصنيع – والتي كانت ذات أجور متدنية ومملة وخطيرة – إلى وظائف جيدة الأجر ومطلوبة. وما كان يُنظر إليه على أنه مستحيل الحدوث تحقق، وكان أيضاً مربحاً جداً للشركات التي قامت به. ومن الممكن الآن حدوث تحول مشابه، وهناك حاجة ماسة إليه في قطاع الخدمات. وإذا تم اغتنام الفرص، فسنرى طبقة وسطى أقوى، وأيضاً شركات أقوى لديها قوة عاملة مستعدة لمواجهة التحديات، والتي من المؤكد أن تُحدثها التقنيات الجديدة والمنافسون الجدد.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي