لقد عملتَ بجد واجتهاد طوال حياتك، وها أنت الآن توشك على التقاعد. تكمن المشكلة في أن الأشياء التي كنتَ تتطلع إليها طوال تلك السنوات، ما بين التريُّض صباحاً في ملاعب الغولف والتنزُّه عصراً في حديقة منزلك الغنَّاء والسفر حول العالم لزيارة الأماكن الخلابة، قد لا تبدو كافية لإرضاء طموحاتك خلال مدة تقاعدك. ومن هنا ظهرت فكرة المسار المهني الإضافي (Encore Career)، ويُقصد به عودة الشخص إلى الحياة المهنية خلال الشطر الثاني من حياته بوظيفة جديدة تمزج بين الاكتفاء المادي وتحقيق مغزى وهدف شخصيين، وتمثّل في الغالب نوعاً من رد الجميل للمجتمع، وسرعان ما أصبحت هذه الفكرة بديلاً شائعاً للتقاعد بدوام كامل. ولكن من أين تبدأ؟ كيف تضع خطة تقاعدية تلبي رغباتك؟
ما الذي يقوله الخبراء؟
وفقاً لمؤسسة إنكور دوت أورغ (Encore.org)، وهو مركز تفكير تنصبُّ اهتماماته على مواليد جيل الطفرة والعمل والأغراض الاجتماعية، فإن ما يقرب من 9 ملايين شخص تتراوح أعمارهم بين 44 و70 عاماً ينخرطون في مسارات مهنية إضافية. يقول الرئيس التنفيذي لمؤسسة إنكور دوت أورغ ومؤلف كتاب "التحول الكبير" (The Big Shift)، مارك فريدمان: "لقد ارتفع متوسط الأعمار، ما جعل الإنسان يعيش حياة أطول ينعم خلالها بوافر الصحة، وبالتالي فإنك إذا تقاعدت من العمل في منتصف الستينيات من عمرك، فإن هذا يعني أنك ستمضي ما بين 20 إلى 30 عاماً من حياتك دون عمل. وهذه مدة طويلة". ويرى أن ثمة سؤالاً يطرح نفسه هنا حول الجانب المالي وكيف ستكفل لنفسك حياة كريمة، ويضيف متسائلاً: "وبعد كل ذلك، ثمة سؤال وجودي يطرح نفسه أيضاً: مَنْ ستكون؟".
من الصعب أن يفكّر المرء في بدء مسار مهني جديد في هذه المرحلة من الحياة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فمن المريح أن "يتخلى المرء عن ماضيه" ويصوغ لنفسه هوية جديدة استناداً إلى "الأشياء التي يجدها مثيرة أو محفزة أو مثيرة للاهتمام"، على حد وصف الشريك الرئيسي في شركة شيفر كونسلتنغ (Schaffer Consulting) والمدير التنفيذي المقيم في كلية هاس للأعمال (Haas School of Business) بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، رون أشكيناس. ويضيف أشكيناس: "إنها فرصة للتفكير في الطريقة التي تريد أن تقدّم بها إسهامات إيجابية تفيد المجتمع ومحيطك الإنساني والأسري". وتتفق معه المؤلفة المشاركة لكتاب "كيف تقيس حياتك؟" (How Will You Measure Your Life?)، كارين ديلون، قائلة: "لن تغدو حياتك أبسط بالضرورة بعد التقاعد من وظيفة بدوام كامل، ولكنها يمكن أن تصبح ذات مغزى أكبر، شريطة أن تكون على استعداد لتحمُّل المسؤولية والعمل من أجل تحقيق الأهداف الجديدة التي حددتها بنفسك". وفيما يلي بعض الأشياء التي يجب مراعاتها في أثناء الاستعداد لهذه المرحلة الجديدة:
ضع الأُسس في وقت مبكر
إذا كنت واثقاً من أن وظيفتك لن تتعرّض للخطر، فأخبر زملاءك عن خططك للتقاعد رسمياً في أثناء عملك بوظيفتك التي تتقاضى عنها أجراً. يقول أشكيناس: "لن يكون الأمر مفاجئاً لهم آنذاك، كما أنك ستمنحهم الفرصة الكافية للتواصل مع معارفهم المهمين أو شبكات علاقاتهم التي يمكنك الاستفادة منها". من المهم أيضاً أن تغادر وأنت على وفاق مع شركتك وأن توضح لهم ما إذا كنت لا تمانع في قبول تنفيذ بعض المشروعات والمهمات من حين لآخر، وهذه طريقة جيدة لكيلا تقطع الصلة بمجال عملك. تضيف ديلون: "ليس من المنطقي أن تقطع صلتك بالعمل نهائياً وتتوقع اتصال الآخرين بك طلباً لخدماتك. اغرس البذور في وقت مبكر حتى تتاح لك الخبرات والفرص بمجرد رحيلك".
لا تتعجّل
بمجرد أن تترك وظيفتك، أمهِل نفسك فترة من الوقت، وحبذا لو كانت بضعة أشهر، للتفكير فيما تريد فعله في المرحلة التالية. يقول فريدمان: "أمهل نفسك بعض الوقت لنيل قسط من الراحة وتجديد طاقتك واستعادة حيويتك". سيستغرق اجتياز هذه المرحلة الانتقالية بعض الوقت. "لقد اعتدت العمل ورعاية شؤونك الأسرية لعقود من الزمن، ولم يكن لديك ما يكفي من الوقت للتفكير في المرحلة التالية من حياتك. وعليك أن تعلم أن العثور على عمل ذي مغزى ومُرضٍ قد يستغرق من عامين إلى 3 أعوام".
سل نفسك: ما الذي يهمني بحق؟
تنصح ديلون بأن تكتب قائمة بالأشياء كلها "التي تغذّي وجدانك" ثم تدرسها بعناية لكي تعرف بالضبط القاسم المشترك بين تلك الأشياء التي تلهمك وتخلق فيك الشعور بالسعادة. على سبيل المثال، قد تذكر ضمن قائمة الأشياء التي تغذّي وجدانك المرح مع أطفالك أو تحقيق إنجاز تكتنفه تحديات صعبة، ولكن "أكثر ما تستمتع به هو خوض تجارب جديدة مع أطفالك، مثل السفر. وما تحبه حقاً في العمل هو التعاون مع الآخرين وصناعة شيء يبعث فيك الشعور بالفخر"، على حد قول ديلون. ويضيف فريدمان: "حفّز نفسك لفعل الأشياء التي تمثّل لك أهمية خاصة وكُنْ على دراية بالخيارات التي تتخذها وكيف تمضي وقتك"؛ لأن هدفك هو "معرفة أولوياتك في هذه المرحلة من حياتك".
كن على استعداد للتجريب
ينصح فريدمان باتباع نهج "التجربة قبل الشراء"؛ إذ يقول: "ابحث عن طرائق للانخراط في الأشياء التي تثير شغفك". ابحث عن فرص للحصول على تدريب داخلي أو مِنَح دراسية أو وظائف بدوام جزئي، أو ابحث عن فرص لرد الجميل للمجتمع بالعمل في مجلس إدارة مؤسسة غير ربحية على سبيل التطوع، أو احرص على تولي أنواع مختلفة من المهمات الاحترافية، أو انضم إلى فصل دراسي في كلية مجتمعية. تقول ديلون: "إذا بدا لك أن الأمر سيكون ممتعاً ومثيراً لشغفك وأنك ستتعلم أشياء جديدة، فلا تتردد". ابحث أيضاً عن طرائق لتطبيق خبراتك التي اكتسبتها بشق الأنفس في مجالات جديدة، على حد قول أشكيناس، الذي يضيف: "لن تنسلخ من هويتك بصورة نهائية. ما زلت تحتفظ بهويتك، وما زلت تمتلك المهارات نفسها؛ كل ما هنالك أنك ستطبّقها في مواقف وبيئات جديدة".
حافظ على إنتاجيتك
بعد أن تمهل نفسك بعض الوقت للحصول على قسط من الراحة، من المهم أن تعود إلى بعض الأشياء التي قدمتها لك الحياة المكتبية، وعلى رأسها البنية التنظيمية ومنظومة العمل. يقول أشكيناس: "تماماً كما كنت تتطلع إلى الأحداث الرئيسية في عملك، فأنت بحاجة إلى أشياء تتطلع إليها وتتوقعها". فكِّر في الانضمام إلى مجموعة أو منظومة محدَّدة، مثل جمعيات الخريجين أو المؤسسات التطوعية أو الدينية أو اتحادات الموظفين المستقلين العاملين لحسابهم الخاص أو نوادي الكتاب أو حتى المجتمعات الافتراضية. وتضيف ديلون: "ستحتاج إلى الخبرات الجانبية التي تكتسبها من البيئة المكتبية غير الرسمية، كالقدرة على مجاراة زملائك في المزاح وتجاذب أطراف الحديث والضحك وتبادل المعلومات". من المفيد أيضاً أن تمضي بعض الوقت مع الآخرين الذين "يعانون التحديات نفسها التي تواجهها"، على حد قول فريدمان.
تحمل مسؤولية نفسك
في أثناء اجتياز هذه المرحلة الانتقالية، "عليك التفكير في غاياتك المنشودة"، على حد قول ديلون التي تنصح قائلة: "اطلب من الأشخاص الذين يهمهم أمرك، مثل زوجتك وأفراد أسرتك وأطفالك وأصدقائك، أن يمدّوك برأيهم حول مستوى أدائك. وكن صادقاً مع نفسك بشأن الطريقة التي تمضي بها وقتك. حاول إجراء اختبار للواقع من خلال سؤال نفسك: "هل أشعر بأن حالتي على ما يرام وبأن صحتي جيدة؟ وهل أشعر بالحافز؟ ولا تدع الأطراف الخارجية تملي عليك إجاباتك". وبمجرد أن تعرف المجال الذي تريد التركيز عليه، يقول أشكيناس: "عليك أن تسأل نفسك باستمرار: هل أضيف قيمة؟ وهل أقدم إسهامات إيجابية؟ وهل أتعلم شيئاً؟".
مبادئ يجب تذكرها
ما يجب عليك فعله
- البحث عن معنى لحياتك الجديدة من خلال تحديد الأشياء التي تستمتع بقضاء وقتك فيها.
- تجريب وظائف ومهمات مختلفة لتوسيع أفقك وتعلُّم أشياء جديدة.
- التعرُّف إلى وجهات نظر وأفكار جديدة من خلال الانضمام إلى منظومة عمل مختلفة.
ما يجب عليك تجنّبه
- التكتم بشأن نواياك بعد تقاعدك من العمل؛ شارك خططك مع زملائك وأخبرهم بأنك منفتح على أي فرص جديدة قد تلوح في الأفق.
- التسرُّع في قبول أول وظيفة جديدة تُعرَض عليك؛ أمهل نفسك بعض الوقت للاسترخاء واستعادة نشاطك وحيويتك.
- تبديد ساعات من وقتك لمجرد أنك تمتلك وقت فراغ؛ تحمّل مسؤولية الطريقة التي تمضي بها وقتك.
دراسة حالة رقم 1: اتخذ من شغفك الشخصي مصدراً للفرص الجديدة
شعرت غيل فيدريتشي بالذهول في اليوم الذي باعت فيه شركة جون فريدا (John Frieda) للعناية بالشعر التي شاركت في تأسيسها بالتعاون مع المصمم البريطاني. تقول غيل عن هذا الموقف: "لم نكن نخطط لبيع الشركة. وعلى الرغم من كل الاجتماعات التي عقدناها على مر السنين (مع المشترين المحتملين)، فقد كنا نريد مواصلة العمل في شركتنا".
وبمجرد توقيع عقود البيع، ذهبت في رحلة لمدة أسبوع إلى البندقية مع زميلتها في السكن الجامعي ثم عادت إلى أرض الوطن في لندن. كان هذا تحولاً صعباً في البداية. توضح غيل قائلة: "لقد ظللنا لمدة 12 عاماً متواصلة نبني هذه الشركة على أكتافنا. كان لديَّ روتين محدَّد، وكانت لديَّ خطط للمستقبل وغايات منشودة. وفجأة اختفى كل شيء". قررت غيل تكريس وقتها وطاقتها لشغفها الشخصي، ممثلاً في الموسيقى. كانت الموسيقى مساراً مهنياً إضافياً طبيعياً؛ فقد كان زوجها موسيقياً، ولطالما غنّت غيل ضمن فرقته في نيويورك. في ذلك الحين، كانت ابنتاهما التوأمتان مهتمتين بأن تصبحا فنانتين. تقول غيل: "لقد كان منحنى تعليمياً ضخماً بالنسبة لي؛ فقد كان عليّ أن أقرأ الجزء الخلفي من الأقراص المضغوطة لمعرفة أسماء المنتجين ومؤلفي الأغاني".
وعلى مدى السنوات الخمس التالية، عملت على ألبومات وعروض ترويجية مع الكثير من الموسيقيين والفرق الموسيقية، ومن بينهم المطرب ومؤلف الأغاني البريطاني ومنتج الألبومات الغنائية، تايو كروز. "كان إقدامي على تعلُّم العمل في قطاع جديد أمراً مثيراً ومليئاً بالتحديات في الوقت نفسه، لكنني ما زلت أفعل ما أجيد فعله وما أجده سهلاً، ألا وهو التسويق وحلّ المشكلات ووضع الاستراتيجيات". وبعد توقيع عقد بيع الشركة التي طورتها هي وفريقها إلى شركة إنترسكوب (Interscope)، قررت "العودة إلى ما تجيد فعله".
والآن بعد أن بلغت الستينيات من عمرها، تشغل غيل منصب رئيسة شركة فيدريتشي براندز (Federici Brands) ورئيستها التنفيذية، وهي شركة أخرى للعناية بالشعر. وفي حين أنها سعيدة بالعودة إلى مجال العناية بالشعر، فإنها تنظر إلى سنواتها في صناعة الموسيقى بكل فخر واعتزاز. "كنتُ خارج منطقة راحتي، ولكني أحببتها".
دراسة حالة رقم 2: استفد من خبراتك ومعارفك لرد الجميل للمجتمع
قضى بيل هاغت الشطر الأول من حياته المهنية في مجال بناء السفن، أولاً من واقع منصبه رئيساً لشركة باث أيرون ووركس (Bath Iron Works) ورئيسها التنفيذي في ولاية مين، ثم من منطلق دوره رئيساً لشركة إرفينغ شيب بيلدينغ (Irving Shipbuilding) لبناء السفن في مقاطعة نيو برونزويك بكندا. وبعد مغادرة شركة إرفينغ في أواخر تسعينيات القرن الماضي والعودة إلى ولاية مين، أراد بيل رد الجميل لمجتمعه.
كانت أهم أولوياته تنصبُّ على إنشاء جمعية خيرية في مسقط رأسه. ساعد بيل في جمع الأموال اللازمة لإنشاء الجمعية وساعد أيضاً في تصميم المبنى. يقول عن هذه الرغبة: "لقد نشأت في مدينة باث بولاية مين في الأربعينيات من القرن الماضي، وأنتمي إلى أسرة ذات إمكانيات مادية متواضعة. وكانت الجمعيات الخيرية متنفساً رائعاً لي ولأصدقائي".
اكتمل مشروع إنشاء الجمعية الخيرية في عام 2000، لكن بيل لم يكن مهتماً "بالانتقال إلى وضع التقاعد". وقد تواصل معه مسؤولو مؤسسة ليبرا فاونديشن (Libra Foundation)، إحدى كبرى المنظمات الخيرية في ولاية مين، وطلبوا منه شغل منصب فيها. "لقد أرادوا تنفيذ استثمار استراتيجي في شركة للبطاطس في شمال ولاية مين كانت على شفا الإفلاس. وسألوني: ’هل تمانع في شغل منصب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للشركة؟‘".
لم يكن بيل يعرف شيئاً عن تجارة البطاطس، ولم يكن مهتماً كثيراً بالانتقال إلى شمال ولاية مين، ولكن بعد التفكير ملياً فيما يريده من المرحلة التالية من حياته، أدرك أن الفرصة مغرية. يقول عن هذا الحدث: "كانت وسيلة لمساعدة الاقتصاد من خلال إضافة القيمة وخلق فرص العمل في هذا الجزء من الولاية". وقد كانت الوظيفة مُرضية على المستوى الشخصي أيضاً. "أردت خوض التحدي المتمثل في إنقاذ الشركة وإقالتها من عثرتها. لقد كانت طريقة لتعلُّم شيء جديد، لكنني اعتقدت أيضاً أن لديّ بعض الخبرة التي يمكنني أن أنفع بها المجتمع".
كانت السنوات الأولى صعبة، ولكن بعد فترة، تحسّن سير العمل في شركة ناتشورالي بوتيتوس (Naturally Potatoes)؛ فقد ارتفعت المبيعات بنسبة 40%، وعادت الشركة إلى تحقيق الربحية. وفي عام 2005، تم بيعها إلى شركة بيزك أميركا فودز (Basic America Foods) ومقرها كاليفورنيا. وفي هذه الأثناء، انتقل بيل إلى إدارة شركة لتصنيع اللحوم. لكن شركة ناتشورالي بوتيتوس لم ترق إلى مستوى توقعات شركة بيزك أميركا فودز، وعندما أعاد فريق بقيادة مؤسسة ليبرا شراء الشركة عام 2010، عاد بيل إلى منصب الرئيس التنفيذي للشركة.
وقد بلغ بيل سن الثمانين ويشغل حالياً منصب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركتيّ لاينواند فارمز ناتشورال ميتس (Pineland Farms Natural Meats) و باينلاند فارمز بوتيتوس (Pineland Farms Potatoes)، وليس لديه أي خطط للتقاعد عن العمل. يقول بيل عن تجاربه تلك: "أشعر بالنشاط والحيوية. وواحدة من أعظم الملذات لرجل في مثل سني أن كل مَنْ أعمل معهم أصغر مني سناً. لديهم أفكار ومهارات تقنية رائعة لا أملكها". ويضيف أن تعلم كيفية إدارة عمل تجاري جديد كل بضع سنوات كان "محفزاً. وأحب أن أكون مفيداً وأن أقدم إسهامات إيجابية".