يحمل قطاع النفط مفاجآت قليلة نسبياً لصانعي الاستراتيجيات. تتغير الظروف بحدة في بعض الأحيان، لكن بطرق يمكن التنبؤ بها نسبياً. على سبيل المثال، يعرف المخططون أن العرض العالمي سيرتفع أو سينخفض بتطور العوامل الجيوسياسية واكتشاف موارد جديدة واستغلالها، ويعلمون أن الطلب سيرتفع أو سينخفض تبعاً لعوامل مثل الدخل والناتج المحلي الإجمالي وظروف الطقس وما شابه. ونظراً لخروج هذه العوامل عن سيطرة الشركات ومنافسيها وصعوبة الحواجز التي تحول دون تدخّلها، فلا أحد في وضع يسمح له بتغيير قواعد اللعبة بدرجة مؤثرة، ولذا تعمل الشركات بعناية على تنظيم قدراتها ومواردها الفريدة للمنافسة والدفاع عن مركزها التنافسي في هذا المجال المستقر إلى حد ما.

وقد يشكل قطاع برمجيات الإنترنت كابوساً لصانعي الاستراتيجية في قطاع النفط، إذ تظهر ابتكارات وشركات جديدة بكثرة ومن حيث لا تدري، ويمكن للشركات أن تبني (أو تخسر) بها حجمها وحصتها في السوق بوتيرة شديدة السرعة. يمكن لأقطاب هذا القطاع مثل مايكروسوفت أو جوجل أو فيسبوك، ومن دون سابق إنذار، تقديم منصة أو معايير جديدة تُغيّر قواعد المنافسة جذرياً، وتنشأ الميزة التنافسية في هذه البيئة من قراءة المؤشرات والاستجابة لها بسرعة أكبر من استجابة منافسيك، أو التكيف بسرعة مع التغيير، أو الاستفادة من القيادة في مجال التكنولوجيا للتأثير في تطور الطلب والمنافسة.

من الواضح أن الاستراتيجيات التي تنجح في قطاع النفط ليس لها عملياً أمل في النجاح في مجال برمجيات الإنترنت الأقل استقراراً وتنخفض فيه إمكانية التنبؤ بمستقبله. وتختلف المهارات الضرورية لدى خبراء استراتيجيات النفط والبرمجيات اختلافاً كبيراً، لأنهم يعملون على نطاقات زمنية مختلفة، ويستخدمون أدوات مختلفة، ولديهم علاقات مختلفة جداً مع العاملين في الخطوط الأمامية الذين ينفذون خططهم. وعلى الشركات العاملة في هذه البيئات التنافسية المتباينة أن تخطط استراتيجياتها وتطورها وتوظّفها بطرق مختلفة بدرجة كبيرة، لكن أبحاثنا تظهر أنها لا تفعل ذلك غالباً.

وذلك ليس بسبب عدم الرغبة في المحاولة. إذ تظهر الإجابات عن أسئلة دراسة استقصائية حديثة أجرتها مجموعة بوسطن الاستشارية شملت 120 شركة حول العالم في 10 قطاعات رئيسية أن المسؤولين التنفيذيين يدركون جيداً الحاجة إلى مواءمة عمليات وضع الاستراتيجيات مع المتطلبات الخاصة لبيئاتهم التنافسية. ومع ذلك، توصلت الدراسة إلى أن الكثير منهم يعتمدون عملياً على الأساليب الأكثر ملاءمة للبيئات المستقرة التي يمكن التنبؤ بها حتى عندما تتميز بيئات عملهم بسرعة التقلب أو التغير.

ما الذي يمنع هؤلاء المسؤولين التنفيذيين من وضع الاستراتيجيات بطريقة تناسب وضعهم؟ نعتقد أنهم يفتقرون إلى طريقة منهجية لفعل ذلك، أي استراتيجية لوضع الاستراتيجية. نقدم لكم في هذه المقالة إطار عمل بسيط يقسم التخطيط الاستراتيجي إلى 4 أنماط وفقاً للقدرة على التنبؤ ببيئة عملك وتغييرها. يمكن لقادة الشركات باستخدام إطار العمل هذا مواءمة نمطهم في وضع الاستراتيجية مع الظروف الخاصة بقطاعاتهم أو طبيعة شركاتهم أو المساحات الجغرافية لأسواقهم.

تقيّد طريقتك في وضع الاستراتيجية نوع الاستراتيجية التي تعتمدها. ومن خلال الفهم الواضح للأنماط الاستراتيجية المتاحة والظروف التي تناسب كلاً منها، يمكن لعدد أكبر من الشركات أن تفعل ما تفعله أنجح الشركات، وهو توظيف قدراتها ومواردها الفريدة لاغتنام الفرص المتاحة بأفضل وجه.

معرفة النمط الاستراتيجي المناسب

تبدأ الاستراتيجية عادةً بتقييم القطاع الذي تعمل فيه، ويجب أن تبدأ عملية اختيار النمط الاستراتيجي من هذه النقطة أيضاً. ومع أن عوامل عدة تتعلق بقطاع عملك تؤدي دوراً في الاستراتيجية التي تصوغها، يمكنك تضييق نطاق خياراتك من خلال النظر في عاملين حاسمين فقط، وهما القدرة على التنبؤ (الفترة الزمنية التي تضع التنبؤات بشأنها ودقة التنبؤات التي تضعها بثقة حول الطلب وأداء الشركة والعوامل التنافسية وتوقعات السوق؟) والقدرة على التغيير (إلى أي مدى يمكنك أنت أو منافسيك التأثير في هذه العوامل؟).

ضع هذين المتغيرين في مصفوفة مع 4 أنماط استراتيجية عامة سنطلق عليها الكلاسيكية، والتكيفية، والتشكيل، والبعيدة النظر. (راجع الشكل التوضيحي “النمط الاستراتيجي المناسب لبيئتك”). يرتبط كل نمط بممارسات تخطيط مختلفة وهو الأنسب لبيئة واحدة. وفي كثير من الأحيان يخلط الاستراتيجيون بين القدرة على التنبؤ والقدرة على التغيير، معتقدين أن أي بيئة يمكن تغييرها لا يمكن التنبؤ بها، وبالتالي يقسمون عالم الاحتمالات الاستراتيجية إلى جزأين فقط (يمكن التنبؤ به وغير قابل للتغيير أو لا يمكن التنبؤ به وقابل للتغيير)، بينما يجب عليهم أخذ الأجزاء الأربعة جميعها في الحسبان. لذلك لم نفاجأ عندما وجدنا أن الشركات التي توائم نمطها الاستراتيجي مع بيئتها تحقق أداءً أفضل بكثير من التي لا تفعل ذلك، إذ توصلت تحليلاتنا إلى أن إجمالي عائد المساهمين لمدة ثلاث سنوات للشركات التي تناولتها دراستنا الاستقصائية والتي تستخدم النمط المناسب أعلى بنسبة 4% إلى 8% وسطياً من عائد الشركات التي لا تفعل ذلك.

لنلقي نظرة على كل نمط على حدة.

النمط الكلاسيكي

يحظى النمط الاستراتيجي الكلاسيكي بأفضل فرص النجاح عندما تعمل في قطاع يمكن التنبؤ ببيئته ولكن يصعب على شركتك تغييره. وهو نمط مألوف لدى معظم المدراء وخريجي كليات إدارة الأعمال، والقوى التنافسية الخمسة، واستراتيجية المحيط الأزرق، وتحليلات مصفوفة حصة النمو كلها تجسد هذا النمط. تضع الشركة هدفاً، وتستهدف المكانة السوقية الأفضل التي يمكنها تحقيقها من خلال الاستفادة من قدراتها ومواردها الخاصة، ثم تحاول بناء هذا الموقف ودعمه من خلال جولات منتظمة ومتتالية من التخطيط باستخدام الأساليب التنبؤية الكمية التي تسمح لها بالتخطيط للمستقبل، وعندما توضع هذه الخطط تستمر سنوات عدة. يمكن أن ينجح التخطيط الاستراتيجي الكلاسيكي بوصفه مهمة مستقلة لأنه يتطلب مهارات تحليلية وكمية خاصة، والأحداث تتحرك ببطء بما يكفي للسماح للمعلومات بالمرور بين الإدارات.

يستخدم استراتيجيو شركات النفط النمط الكلاسيكي بفعالية، مثل زملائهم في العديد من القطاعات الناضجة الأخرى (التي تجاوزت مرحلتي النشوء والنمو). في شركات نفط كبرى مثل إكسون موبيل (ExxonMobil) أو شل (Shell)، يقضي المحللون المدَربون تدريباً عالياً أيامهم في مكتب التخطيط الاستراتيجي للشركة منكبين على تطوير تصورات مفصلة حول العوامل الاقتصادية الطويلة الأجل المتعلقة بالطلب والعوامل التكنولوجية المتعلقة بالعرض. تتيح لهم هذه التحليلات وضع خطط المرحلة الأولى المتمثلة في استخراج النفط على مدى فترة قد تصل إلى 10 أعوام، وخطط القدرة الإنتاجية النهائية التي تمتد 5 أعوام. ومن الصعب أن تكون العملية بخلاف ذلك، نظراً إلى الوقت اللازم للعثور على مصادر جديدة للنفط واستغلالها، وبناء منشآت إنتاج، والحفاظ على عملها بأقصى طاقتها. توفر هذه الخطط التوقعات المالية المتعددة السنوات التي تحدد الأهداف السنوية وتركز على صقل المهارات المطلوبة للحفاظ على مكانة الشركة السوقية وأدائها وتعزيزهما. فقط في الظروف الاستثنائية يُعاد النظر بجدية في الخطط أكثر من مرة في السنة، كما في حرب الخليج الطويلة مع سلسلة من تعطل مصافي النفط الكبرى عن العمل.

النمط التكيفي

ينجح النهج الكلاسيكي مع شركات النفط لأن صانعي الاستراتيجيات فيها يعملون في بيئة حيث لا تتغير الأوضاع الأكثر جاذبية والقدرات الأجدى بين اليوم والغد في جميع الاحتمالات. لكن ذلك لا ينطبق إطلاقاً على بعض القطاعات، وكما أشرنا من قبل في مقالة بعنوان “التكيف: الميزة التنافسية الجديدة” (Adaptability: The New Competitive Advantage) لمارتن ريفز ومايك ديملر، هارفارد بزنس ريفيو، المنشور في عام 2011، تضعف احتمالية استمرار ذلك الوضع حيث تتضافر عوامل المنافسة العالمية والابتكار التكنولوجي وحلقات الملاحظات الاجتماعية وعدم اليقين الاقتصادي لتجعل البيئة غير قابلة للتنبؤ كلياً وباستمرار. فقد تصبح الاستراتيجية الكلاسيكية المصممة بعناية في هذه البيئة قديمة في غضون أشهر أو حتى أسابيع.

تحتاج الشركات في هذه الحالة إلى نهج يمتاز بقدرته على التكيّف يمكّنها باستمرار من تعديل الأهداف وأساليب العمل وتحويل الموارد أو الحصول عليها أو تصفيتها بسلاسة وسرعة. في هذه البيئة السريعة التغير والتفاعل تكون التنبؤات غالباً خاطئة والخطط الطويلة الأجل غير مجدية مطلقاً، وحينها يجب ألا يكون الهدف تحسين الكفاءة بل هندسة المرونة. وبالتالي تتقلص دورات التخطيط إلى أقل من عام ويمكن أن تصبح عملية مستمرة. ولا تأخذ الخطط شكل مخططات محددة بعناية بل فرضيات تقريبية تستند إلى أفضل البيانات المتاحة. ولا بد من أن تكون الاستراتيجية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعمليات أو مضمنة في العمليات عند اختبارها، وذلك للحصول على أفضل مؤشرات التغيير وتقليل فقد المعلومات والتأخير الزمني.

يشكل قطاع التجزئة للأزياء الخاصة خير مثال على ذلك. إذ تتغير الأذواق بسرعة، وتصبح العلامات التجارية رائجة (أو غير رائجة) بين عشية وضحاها. ولن يمنح أي قدر من البيانات أو التخطيط المسؤولين التنفيذيين في قطاع الأزياء مجالاً لمعرفة خطواتهم القادمة مسبقاً. لذا فإن أفضل خيار لهم تجهيز مؤسساتهم لتستمر بإنتاج مجموعة متنوعة من المنتجات وطرحها واختبارها بأسرع ما يمكن، مع تكييف الإنتاج باستمرار في ضوء ما يتعلمونه.

تستخدم شركة زارا (Zara) الإسبانية التي تبيع بالتجزئة النهج التكيفي. إذ لا تعتمد شركة زارا بدرجة كبيرة على عملية التخطيط الأساسية؛ بل يرتبط نمطها الاستراتيجي بسلسلة التوريد المرنة لديها. وتحافظ على علاقات قوية مع 1,400 مورد خارجي يعمل من كثب مع المصممين وخبراء التسويق. نتيجة لذلك، يمكن لزارا تصميم الملابس وتصنيعها وشحنها إلى متاجرها بمدة لا تتجاوز أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، مع العلم أن متوسط مدة هذه العملية في قطاع الأزياء من أربعة إلى ستة أشهر. يسمح ذلك للشركة بتجربة مجموعة متنوعة من التصاميم وتنفيذ مشاريع صغيرة مع مجموعات صغيرة من الطرز التي يمكن أن تحظى بشعبية؛ وإن حظيت بشعبية كبيرة يمكن لزارا زيادة الإنتاج بسرعة، وإن لم تحظ بالشعبية فستكون الخسائر محدودة عبر تخفيض الأسعار. (تُخفض زارا 15% فقط من أسعار مخزونها وسطياً، في حين يمكن أن تصل هذه النسبة عند المنافسين إلى 50%). لذلك لا داعي للتنبؤ أو المراهنة على الموضة التي ستأسر خيال عملائها وتدفعهم للشراء من شهر لآخر. ويمكنها بدلاً من ذلك الاستجابة بسرعة للمعلومات التي تأتي من متاجر البيع بالتجزئة الخاصة بها، وتجربة العروض المختلفة باستمرار، والتكيف بسلاسة مع الأحداث عند وقوعها.

يتطلب نمط زارا الاستراتيجي علاقات بين المخططين والمصممين والمصنعين والموزعين تختلف تماماً عن العلاقات التي تحتاج إليها شركة مثل إكسون موبيل، ومع ذلك، يشترك الاستراتيجيون في إكسون موبيل والمصممين في زارا بشيء أساسي واحد، وهو أنهم يعدّون بيئتهم التنافسية أمراً واقعاً ويهدفون إلى الحصول على أفضل مكانة ممكنة فيها.

نمط التشكيل

لا يمكن اعتبار بعض بيئات العمل أمراً واقعاً، وهذا ما يعلمه موردو برمجيات الإنترنت جيداً. على سبيل المثال، في القطاعات الجديدة أو الفتية ذات النمو المرتفع حيث تكون حواجز الدخول إلى الأسواق منخفضة، ومعدلات الابتكار مرتفعة، والتنبؤ بالطلب صعباً للغاية، ومكانة المنافسين السوقية في حالة تغير مستمر، يمكن للشركة في كثير من الأحيان تغيير مسار تطور القطاع جذرياً باتخاذها بعض الخطوات المبتكرة. ومن المحتمل أن تكون القطاعات الناضجة قابلة للتغيير أيضاً، وبخاصة المجزأة منها التي لا تسيطر عليها قلة من الشركات المهيمنة أو الراكدة والقابلة للزعزعة.

في مثل هذه البيئة، تتعرض الشركات التي تستخدم استراتيجية كلاسيكية أو حتى تكيفية للعثور على أفضل مكانة سوقية لخطر التقليل من شأنها، إذ تعجز عن مواكبة الأحداث والفرص التي تسمح لها بالسيطرة على مصيرها، وسيكون من الأفضل لها استخدام استراتيجية تهدف إلى تشكيل البيئة التي لا يمكن التنبؤ بها لمصلحتها الخاصة قبل أن تشكلها شركة أخرى، بحيث تحقق لها الفوائد بغض النظر عن مسار تطور الأحداث.

وعلى غرار الاستراتيجية التكيفية، تتضمن استراتيجية التشكيل دورات تخطيط قصيرة أو مستمرة. والمرونة بالغة الأهمية، والاعتماد على آليات التنبؤ المدروسة قليل، وتنفيذ الاستراتيجية عبر مجموعة من التجارب شائع جداً. وعلى عكس الاستراتيجية التكيفية، ينصب تركيز خبراء الاستراتيجية الذين يتبعون نمط التشكيل خارج حدود شركاتهم، وغالباً عن طريق حشد منظومة هائلة من العملاء والموردين و(أو) الشركات المكملة لدعم مساعيهم من خلال تحديد أسواق ومعايير ونظم تكنولوجية وممارسات تجارية جديدة وجذابة يروجونها من خلال التسويق وحشد التأييد والشراكات الذكية. ففي المراحل الأولى للثورة الرقمية، تكرر استخدام شركات برمجيات الإنترنت لاستراتيجيات التشكيل من أجل إنشاء منظومات ومعايير ونظم جديدة أصبحت أسساً لأسواق وأعمال جديدة.

بهذه الطريقة تفوقت فيسبوك على هيمنة منصة ماي سبيس (MySpace) في بضع سنوات فقط، وتمثلت إحدى حركات فيسبوك الاستراتيجية الأكثر دهاء في فتح منصة الشبكات الاجتماعية لمطوري البرمجيات الخارجيين في عام 2007، وبالتالي جذبت جميع أنواع التطبيقات إلى موقعها. لم يكن بإمكان فيسبوك توقع مدى نجاح أي منها لأنها لم تكن بحاجة إلى ذلك. فبحلول عام 2008، جذبت فيسبوك 33,000 تطبيق؛ وارتفع هذا العدد إلى أكثر من 550,000 بحلول عام 2010. لذا، مع تطور القطاع واتضاح أن أكثر من ثلثي تطبيقات الشبكات الاجتماعية الناجحة كانت ألعاباً، لم يكن مفاجئاً أن أكثر التطبيقات انتشاراً على غرار تلك التي صممتها شركات زينغا (Zynga) وبلايدوم (Playdom) وبلايفيش (Playfish)، كانت تُشّغل من موقع فيسبوك وتثريه. أضف إلى ذلك أنه في حال تغيرت ملامح الشبكات الاجتماعية بدرجة كبيرة مع مرور الوقت، فمن المحتمل أن تظل التطبيقات الأكثر انتشاراً موجودة على فيسبوك. ويرجع ذلك إلى أنه من خلال إنشاء منصة مرنة وذات شعبية، شكلت فيسبوك بفعالية بيئة عمل تصب في مصلحتها بدلاً من الاكتفاء بالسعي لاكتساب مكانة سوقية في السوق القائمة أو الاستجابة للتغييرات بعد حدوثها مهما كانت هذه الاستجابة سريعة.

واحد فقط من كل أربعة مسؤولين تنفيذيين شملتهم الدراسة الاستقصائية كان مستعداً للتكيف مع الأحداث غير المتوقعة.

نمط الاستراتيجية البعيدة النظر

تمتلك الشركة أحياناً القدرة على تشكيل المستقبل والقدرة على معرفة ذلك المستقبل والتنبؤ بطرق تحقيقه في آن معاً؛ تتطلب هذه الحالة استراتيجيات جريئة، وهي الاستراتيجيات التي يستخدمها رواد الأعمال لإنشاء أسواق جديدة كلياً (كما فعل إديسون لسوق الكهرباء ومارتين روثبلات لسوق الراديو عبر الأقمار الصناعية إكس إم)، أو التي يستخدمها قادة الشركات لإحياء الشركة عبر رؤية جديدة كلياً كما يحاول راتان تاتا فعله مع سيارة نانو المعقولة الثمن للغاية. هذه هي المشاريع الكبيرة، مع استراتيجيات “ابدأ البناء وستنجح”.

وعلى غرار أصحاب استراتيجية التشكيل، لا يعدّ أصحاب الاستراتيجية البعيدة النظر البيئة أمراً واقعاً بل شيئاً يمكن تشكيله للاستفادة منه. ومع ذلك، لدى النمط البعيد النظر قواسم مشتركة مع النمط الكلاسيكي أكثر مما لديه مع النمط التكيفي، فنظراً لوضوح الهدف يمكن للاستراتيجيين اتخاذ خطوات مدروسة لتحقيقه دون الحاجة إلى إبقاء العديد من الخيارات مفتوحة. والأهم من ذلك بالنسبة إليهم أن يأخذوا الوقت والاهتمام اللازمَين لحشد الموارد والتخطيط الشامل والتنفيذ الصحيح حتى لا تقع الرؤية ضحية لسوء التنفيذ. كما يجب أن يكون لدى أصحاب الاستراتيجية البعيدة النظر الشجاعة للبقاء في المسار والعزم على تخصيص الموارد اللازمة.

فعلى سبيل المثال في عام 1994 كان من الواضح لشركة يو بي إس (UPS) أن صعود التجارة عبر الإنترنت سيمثل طفرة مكاسب لشركات التوصيل، لأن أول شيء سيحتاج إليه تجار التجزئة عبر الإنترنت هو دائماً وسيلة لإخراج منتجاتهم من الفضاء الإلكتروني وإيصالها إلى عتبات أبواب عملائهم. وربما كان هذا المستقبل واضحاً بجلاء لشركة فيديكس (FedEx) الأصغر والأحدث عهداً بكثير، ولكن كان لدى يو بي إس الوسائل والإرادة لتنفيذ الاستثمارات اللازمة. إذ أنشأت ذلك العام لجنة متعددة التخصصات تضم خبراء من أقسام تكنولوجيا المعلومات والمبيعات والتسويق والشؤون المالية لرسم مسار الشركة لتصبح ما أطلقت عليها لاحقاً لجنة “عناصر تمكين التجارة الإلكترونية العالمية”. حددت اللجنة المبادرات الطموحة التي ستحتاج شركة يو بي إس إليها لتحقيق هذه الرؤية، وتضمنت استثمار نحو مليار دولار سنوياً لدمج عملياتها الأساسية لتتبع الطرود الأساسية مع عمليات التتبع التي يجريها تجار الإنترنت وإجراء عمليات استحواذ لتوسيع قدرتها العالمية على التسليم. وبحلول عام 2000، بدأ مشروع يو بي إس الذي يقدر بمليارات الدولارات يؤتي ثماره، إذ استحوذت الشركة على 60% من سوق تسليم طلبات التجارة الإلكترونية.

تفادي المزالق

في الدراسة الاستقصائية التي أجريناها، أدرك ثلاثة من كل أربعة مسؤولين تنفيذيين أنهم بحاجة إلى استخدام أنماط استراتيجية مختلفة في الظروف المختلفة. لكن بناءً على الممارسات التي اعتمدوها بالفعل، نقدّر أن النسبة ذاتها كانت تستخدم فقط النمطين الاستراتيجيين الكلاسيكي والبعيد النظر المناسبين للبيئات التي يمكن التنبؤ بها (انظر الشكل التوضيحي “ما هو النمط الاستراتيجي الأكثر استخداماً؟”)، وهذا يعني أن واحداً فقط من كل أربعة كان مستعداً في الواقع العملي للتكيف مع الأحداث غير المتوقعة أو لاغتنام الفرصة لتشكيل القطاع لصالح شركته، هذا الرقم ضئيل جداً بالنظر إلى تحليلنا لمدى عدم القدرة على التنبؤ ببيئات أعمالهم واقعياً. يمكن لفهم الاختلافات بين الأنماط المتنوعة والبيئة التي يمكن تطبيق كل منها فيها على أفضل وجه أن يعالج عدم التلاؤم بين النمط الاستراتيجي وبيئة الأعمال بدرجة كبيرة. وكما يفكر الاستراتيجيون في تداعيات إطار العمل عليهم تجنب ثلاثة مزالق لاحظنا وجودها على نحو متكرر.

ثقة بغير محلها

لا يمكنك اختيار النمط الاستراتيجي المناسب إلا إذا قيمت بدقة القدرة على التنبؤ ببيئتك وتغييرها، ولكن عندما قارنا تصورات المسؤولين التنفيذيين بالمقاييس الموضوعية لبيئاتهم الفعلية، وجدنا ميلاً قوياً للمبالغة في تقدير العاملَين كليهما؛ يعتقد ما يقرب من نصف المسؤولين التنفيذيين أن إجراءاتهم ستمكنهم من السيطرة على حالات عدم اليقين في بيئات شركاتهم، وقال أكثر من 80% منهم أن تحقيق الأهداف يعتمد على إجراءاتهم أكثر من اعتماده على المجريات التي لا يمكنهم السيطرة عليها.

عادات غير مختبرة

أدرك العديد من المسؤولين التنفيذيين أهمية تعزيز القدرات التكيفية المطلوبة للتعامل مع البيئات التي لا يمكن التنبؤ بها، لكن أقل من واحد من كل خمسة لمس وجود الكفاءة الكافية في هذه البيئات، وأحد أسباب ذلك هو أن العديد من المسؤولين التنفيذيين تعلم الأسلوب الكلاسيكي فقط، من خلال الخبرة أو في كلية إدارة الأعمال. وبناء على ذلك لم نتفاجأ عندما قال نحو 80% منهم إنهم في الواقع العملي يبدؤون التخطيط الاستراتيجي بتحديد الهدف ثم تحليل أفضل السبل للوصول إليه. كما قال نحو 70% منهم إنهم في الواقع العملي يولون الأهمية للدقة أكثر من سرعة اتخاذ القرارات حتى عندما يدركون جيداً أن بيئتهم سريعة التغير ولا يمكن التنبؤ بها. نتيجة لذلك يُهدَر الكثير من الوقت في وضع تنبؤات واهية عندما تكون الفعالية للنهج الأسرع والأكثر تجربة وتكراراً. والمسؤولون التنفيذيون على دراية واسعة بالتقارير المالية الربع السنوية والسنوية التي تؤثر بدرجة كبيرة على دورات التخطيط الاستراتيجي الخاصة بهم، ومع ذلك قال نحو 90% إنهم يضعون خططاً استراتيجية على أساس سنوي، بغض النظر عن الوتيرة الفعلية للتغيير في بيئات أعمالهم، أو الوتيرة التي يتصورونها.

التعارض مع ثقافة الشركة

على الرغم من إدراك مسؤولين تنفيذيين عدة لأهمية القدرات التكيفية، فقد يتضارب تنفيذها مع ثقافة الشركة. تؤسس الاستراتيجيات الكلاسيكية التي تهدف إلى تحقيق وفورات الحجم والنطاق ثقافة شركة تقدر الكفاءة والقضاء على التفاوت، وذلك قد يقوض فرص التجربة والتعلم الأساسية لاستراتيجية التكيف. فالإخفاق نتيجة طبيعية للتجربة، لذا فاستراتيجيات التكيف والتشكيل لا تحقق نتائج جيدة في الثقافات التي تعارضها.

يجنب فهم المتطلبات المختلفة للأنماط الاستراتيجية الأربعة بعضاً من هذه المزالق، فمثلاً يؤدي فهم عدم ضرورة ارتباط آفاق التخطيط التكيفي بإيقاعات الأسواق المالية إلى تسهيل التخلص من عادات التخطيط الراسخة. وبالمثل، قد يكون ما يلزم لتجنب البدء بالنهج الخاطئ هو فقط إدراك أن الهدف من استراتيجيات التشكيل والاستراتيجيات البعيدة النظر هو تغيير قواعد اللعبة وليس تحسين المكانة.

من المفيد زيادة الاهتمام بالمقاييس. فعلى الرغم من أن الشركات تبذل جهداً كبيراً في وضع التنبؤات عاماً بعد عام، من المدهش ندرة جهود التحقق منها لمعرفة إذا ما كانت التنبؤات التي وضعوها في العام السابق قد تحققت بالفعل أم لا. ننصحك بمراجعة دقة تنبؤاتك بانتظام وكذلك قياس القدرة على التنبؤ بموضوعية من خلال تتبع عدد مرات تغيير الشركات في قطاعك موقفها النسبي ومداه من حيث الإيرادات والربحية ومقاييس الأداء الأخرى. للحصول على فكرة أفضل عن قدرة الأطراف الفاعلة في قطاعك على تغيير بيئتهم، نوصي بقياس درجة حداثة عهد القطاع، والتركيز السوقي فيه، ومعدل نموه، ومعدل الابتكار فيه، ومعدل التغير التكنولوجي، فكل ذلك يزيد من القدرة على التغيير.

العمل في أوضاع متعددة

من شأن اختيار نمط الشركة الاستراتيجي المناسب للقدرة على التنبؤ والتغيير في قطاعك أن يوائم الاستراتيجية العامة للشركة مع الظروف الاقتصادية الشاملة التي تعمل فيها. لكن قد تعمل وحدات عمل الشركة المتنوعة بنجاح في أسواق فرعية أو في أسواق في مناطق جغرافية قابلة للتنبؤ والتغيير بدرجة أقل أو أعلى من القطاع بأكمله. يمكن للاستراتيجيين في هذه الوحدات والأسواق استخدام العملية نفسها لاختيار النمط الأجدى لظروفهم الخاصة بطرح الأسئلة الأساسية نفسها على أنفسهم: ما مدى القدرة على التنبؤ في البيئة التي تعمل فيها وحدتنا؟ وما مدى قدرتنا على تغيير تلك البيئة؟ قد تختلف الإجابات بدرجة كبيرة. على سبيل المثال، تشير تقديراتنا إلى أن بيئة الأعمال الصينية متغيرة وغير قابلة للتنبؤ أكثر من مثيلتها في الولايات المتحدة بنحو الضعفين، ما يجعل استراتيجيات التشكيل أكثر ملاءمة في الصين غالباً.

وبالمثل، من المرجح جداً أن تعمل الأقسام داخل شركتك في بيئات تتطلب مناهج تخطيط مختلفة. فمثلاً من السهل أن نتصور نجاح النمط الكلاسيكي في تحسين الإنتاج في قطاع صناعة السيارات ولكنه لن يكون مناسباً لقسم التسويق الرقمي الذي يمتلك قدرة أكبر بكثير لتشكيل بيئته (وتلك مهمة التسويق أساساً) ولن يستفيد من التخطيط لحملات قبل عدة سنوات.

وفي حال استفادت الوحدات أو الأقسام ضمن شركتك من العمل بنمط استراتيجي مختلف عن النمط الأنسب لقطاعك بأكمله، فعليك إدارة أكثر من نمط استراتيجي في آن واحد. يدرك المسؤولون التنفيذيون في دراستنا الاستقصائية ذلك جيداً، إذ يطمح 90% منهم إلى تحسين قدرتهم على إدارة أنماط متعددة في آن معاً. وتتمثل الطريقة الأبسط والأقل مرونة لتحقيق ذلك في هيكلة كل قسم أو فرع إقليمي أو وحدة عمل تتطلب نمطاً استراتيجياً مختلفاً وتشغيلها على حدة. يمنحك السماح للفرق داخل الوحدات بتحديد أنماطها الخاصة مزيداً من المرونة في البيئات المتنوعة أو السريعة التغير، ولكن من الصعب تحقيقها عموماً (للاطلاع على مثال على شركة وجدت طريقة منهجية للتحقيق ذلك، راجع الشريط الجانبي “أقصى درجات المرونة الاستراتيجية”.)

وأخيراً، قد تتطلب الشركة التي تنتقل إلى مرحلة مختلفة من دورة حياتها تغيير نمطها الاستراتيجي؛ فبيئات الشركات الناشئة قابلة للتغيير وتتطلب استراتيجيات التشكيل أو البعيدة النظر، أما في مراحل نمو الشركة ونضجها، وعندما تكون قابلية تغيير البيئة ضعيفة، تكون الأنماط الكلاسيكية والتكيفية الأفضل غالباً، وبالنسبة إلى الشركات التي تمر بمراحل تدهور، تصبح البيئة أكثر قابلية للتغيير من جديد، ما يوفر فرصة لزعزعتها وتجديدها من خلال استراتيجية التشكيل أو الاستراتيجية البعيدة النظر.

وبعد تحليل بيئتك على النحو الصحيح، ليس بالنسبة إلى الشركات برمتها فحسب، بل إلى مجالات التخصص والأقسام والأسواق الجغرافية لشركتك أيضاً، وتحديد الأنماط الاستراتيجية التي يجب استخدامها، وتصحيح تحيزاتك، واتخاذ الخطوات اللازمة لتهيئة ثقافة شركتك بحيث يمكن تطبيق الأنماط المناسبة بنجاح، عليك مراقبة بيئتك والاستعداد للتكيف مع تغير الظروف بمرور الوقت. من الواضح أنها ليست بالمهمة السهلة، لكننا نعتقد أن الشركات التي تحرص على ملاءمة أنماطها الاستراتيجية مع وضعها القائم ستتفوق على الشركات التي لا تفعل ذلك.