ملخص: يتكرر ظهور التحريض على "كسر" أو "تحطيم" وحدات العمل المنعزلة ضمن المؤسسات في المجلات المهنية والعلمية، وعلى الرغم من أن وحدات العمل المنعزلة ذات المجالات التخصصية تمنع العمل التعاوني أو قد تؤدي إلى إشعال المنافسة بين المؤسسات، فهي قائمة لأسباب وجيهة تتمثل في تجميع الخبرات وتكليف المسؤوليات ومنح الإحساس بالهوية. يقول المؤلفان إن على الشركات اتخاذ إجراءين من أجل الحفاظ على مكامن قوة وحدات العمل المنعزلة وتقليل آثارها السلبية، وهما 1) بناء الجسور و2) إنشاء الضوابط والتوازنات، ويقترحان عدداً من الطرق العملية للقيام بذلك.
وحدات العمل المنعزلة هي سمة مميزة للمؤسسات على اختلاف أحجامها، وحتى في الشركات التي تعمل بطبيعتها كشبكات مرنة. مثلاً، تشتهر شركات الاستشارات الإدارية بأن تنظيمها قائم على فرق المشاريع المؤقتة، ولكن لديها أيضاً وحدات عمل منعزلة رسمية للخبرات (تسمى غالباً "ممارسات") وبنى تنظيمية إقليمية ثابتة.
وبالطبع، نسمع كثيراً عن الآثار الجانبية السلبية لوحدات العمل المنعزلة؛ إذ قد تؤدي الحدود إلى عقليات معزولة تمنع المشاركة أو العمل التعاوني بين المجالات التخصصية، والأسوأ هو أنها قد تؤدي إلى توجيه الاتهامات وإشعال المنافسة فيما بينها. يتكرر ظهور التحريض على "كسر" أو "تحطيم" وحدات العمل المنعزلة ضمن المؤسسات في المجلات المهنية والعلمية.
لكن إذا كانت وحدات العمل المنعزلة أمراً سيئاً إلى هذه الدرجة، فلماذا تستمر؟ إن وحدات العمل المنعزلة، أو المجالات التخصصية الرأسية، قائمة لثلاثة أسباب:
- تجميع الخبرات. فهي توفر التركيز والكتلة الحرجة المطلوبة لتطوير الخبرة بصورة مستمرة.
- تكليف المسؤوليات. فهي توفر الحدود والتسلسل الهرمي الذي يتيح تكليف المسؤوليات؛ إذ يتم تحديد المسؤوليات والأهداف بوضوح وتخصيص الموارد بحزم واتخاذ القرارات وإبلاغها بسرعة.
- منح الإحساس بالهوية. فوحدات العمل المنعزلة تخلق الاستقرار في العمل وتسمح بتطوير المعايير السلوكية الجماعية وطرق العمل، وبالتالي يتولد إحساس بالهوية والأمان والسلامة النفسية والقدرة على التنبؤ لدى الموظفين الذين ينتمون إليها.
وبما أن المجالات التخصصية الرأسية تخدم غرضاً واضحاً، لا سيما في بيئة اليوم المضطربة، تتولد لدينا رغبة في بناء نظام دفاعي. نعم، للمجالات التخصصية الرأسية آثار جانبية غير مرغوب فيها، ولكن الحل لا يتمثل في تفكيكها. للحفاظ على مكامن القوة في المجالات التخصصية الرأسية التي لا مفر من وجودها وتقليل آثارها الجانبية في نفس الوقت، يجب على المؤسسات اتخاذ إجراءين يتمثلان في بناء الجسور بين المجالات التخصصية الرأسية وإنشاء الضوابط والتوازنات.
بناء الجسور
تحدثت مؤلفات أخرى بما يكفي عن موضوع بناء الجسور بين المجالات التخصصية الرأسية. وحدد الباحثون أندريه دي فال ومايكل ويفر وتامي داي وبياتريس فان دير هايدن 4 أمثلة للطرق التي تتبعها الشركات لبناء الجسور:
- القيم. يصنّف بيان القيم المؤسسية للشركة السلوك المتوقع من الموظفين ويمكن أن يكون بمثابة بوصلة فعالة للجميع. وعن طريق تضمين سلوك "الشركة الواحدة" في القيم المؤسسية تشير الشركة لموظفيها إلى ضرورة التفكير والتصرف خارج حدود مجالاتهم التخصصية الرأسية. كما أنه ليس من المفاجئ أن يبرز "العمل التعاوني" بوضوح في الدراسات التي أجريت على القيم المؤسسية التي يتم الاستشهاد بها مراراً وتكراراً.
- نموذج التشغيل. يعتاد الموظفون ضمن المجال التخصصي الرأسي على الطرق المتبعة للقيام بالأعمال اليومية بصورة روتينية، لكن من الممكن أن يشعروا بمستوى أقلّ من الأمان في تعاملهم مع موظفي المجالات التخصصية الرأسية الأخرى ويترددوا في التعاون معهم. يمكن تسهيل هذا العمل التعاوني عن طريق توصيل الواجهات البينية بين المجالات التخصصية الرأسية من خلال: بتحديد إجراءات واضحة (لمنح الموافقات والتشاور والتواصل بين وحدات العمل مثلاً) وتوفير بنية تحتية تمكينية (منصة مشتركة لتكنولوجيا المعلومات مثلاً)، كما يمكن أن تساعد نماذج المسؤولية في ذلك، مثل نموذجي مصفوفة توزيع المسؤوليات "آر أيه سي آي" (RACI) و"بي أيه سي إس آي" (PACSI) وغيرهما.
- المجتمع والموظفون. إن بناء الروابط الشخصية لا يقل أهمية عن بناء روابط العمل عند إقامة الجسور، لذلك يجب على الشركات خلق فرص تتيح للموظفين من مختلف المجالات التخصصية الرأسية التعرف على قدرات الموظفين الآخرين واهتماماتهم عن طريق برامج التدريب المشتركة مثلاً ومبادرات الابتكار التي تشمل وظائف متعددة وشبكات الخبراء الممتدة على مستوى الشركة. ما أن تتولد الألفة بين الموظفين يصبح بإمكانهم التواصل بسهولة أكبر عندما تنشأ لديهم حاجة ملموسة إلى العمل التعاوني. وبالمثل، يجب على الشركات الانتباه إلى مهارات التواصل لدى الموظفين عند تعيينهم وتصميم برامج التدريب والنظر في التحركات المهنية الأفقية وقياس الأداء ومكافأته.
- القيادة. تعتمد فعالية بناء الروابط الشخصية وروابط العمل على قادة الشركة، إذ يجب أن يملكوا المهارات والحوافز للتعاون عن طريق استخدام مؤشرات الأداء التي تقيس السلوكيات المرغوبة مثلاً. ويجب أن يتبعوا سلوكاً تعاونياً بأنفسهم، على سبيل المثال، من خلال إظهار الولاء للقرارات المشتركة التي يتخذها فريق الإدارة.
كما هو مبين في القائمة أعلاه، تستدعي الجسور درجة كبيرة من حسن النية المستنير لدى الموظفين في مختلف المجالات التخصصية، وذلك قد ينجح أو لا ينجح؛ في حين قد يعترف المدراء بصدق بفوائد العمل التعاوني فهم مستمرون في التنافس فيما بينهم للحصول على الموارد واهتمام الإدارة العليا والسلطة.
وهنا يأتي دور الضوابط والتوازنات؛ فهي أقوى من بناء الجسور في منح الشركات القدرة على الحدّ من الآثار الجانبية للمجالات التخصصية الرأسية.
الضوابط والتوازنات
دعونا أولاً نشرح ما نعنيه بالضوابط والتوازنات. تعكس أهداف الشركة ومؤشرات الأداء الرئيسية توقعات الإدارة العليا وأصحاب المصلحة فيما يتعلق بالإيرادات والأرباح وتوليد السيولة النقدية وأهداف الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات وما إلى ذلك، ثم تترجم إلى أهداف ومؤشرات أداء خاصة بالمجال التخصصي الرأسي، مع مراعاة ضرورة أن تكون واضحة وتحفيزية وقابلة للتنفيذ. ومع ذلك فإن هذه العملية معقدة بسبب ظاهرتين:
- المعرفة المنقوصة. يتعين على مدراء المجال التخصصي الرأسي "أ" صناعة قرارات على أساس المعرفة التي تتعلق بمسائل في المجال التخصصي الرأسي "ب"، ولكن بما أن معرفتهم بالمجال التخصصي "ب" منقوصة فهم مقيدون لأنهم سيغفلون عن بعض الأمور وسيرتكبون بعض الأخطاء. مثلاً، في إحدى شركات الطاقة التي عملنا معها، كان على فريق تطوير الأعمال وضع افتراضات حول تطور تكاليف الصيانة على مدى دورة حياة المصنع، في حين أن قسم الصيانة هو الذي يضم أفضل المعارف حول هذه التكاليف بالتأكيد، لاحظنا أن فريق تطوير الأعمال لم يطلب المعلومات على نحو منهجي من قسم الصيانة بدافع الجهل أو ضيق الوقت أو أسباب أخرى.
- التحسين الجزئي. يتخذ مدراء المجال التخصصي الرأسي "أ" خيارات لتحسين أداء مجالهم. لكن لسوء الحظ، قد تؤدي اختياراتهم إلى الإضرار بأداء الشركة العام بصورة مباشرة (لأن مؤشرات الأداء الرئيسية للشركة لا تتماشى تماماً مع مؤشرات الأداء الرئيسية للمجال التخصصي الرأسي) أو بصورة غير مباشرة (بالتأثير سلباً على أداء المجال التخصصي الرأسي "ب"). مثلاً، في شركة الطاقة، قرر فريق تطوير الأعمال تعيين موظفين فنيين داخل مجاله التخصصي الرأسي بدلاً من العمل مع فريق الشركة الهندسي، فتسبب بتقليص نطاق الفريق الهندسي وأدائه العام. أو كان فريق تطوير الأعمال يستعين في بعض الأحيان بموظفين بعقود يتمتعون بخبرة أقلّ، فأدى ذلك إلى تكاليف خفية ناجمة عن أعمال الإشراف عليهم.
يمكن أن تحدّ الضوابط والتوازنات من هذه الآثار، إذ تحدد الضوابط من حالات الإغفال والأخطاء الحرجة وغيرها من الهفوات التي قد يرتكبها مسؤولو المجال التخصصي الرأسي نتيجة لمعرفتهم المنقوصة بالمسألة المعنية، في حين تعمل التوازنات كقواطع الدارات عندما يهدد التحسين الجزئي بإلحاق ضرر بالنظام كله. فيما يلي أمثلة على الطرق العملية لفرض الضوابط والتوازنات:
- وظائف منفصلة. يتسبب نقل وظيفة من مجال تخصصي رأسي إلى آخر بتغيير خط التسلسل الإداري ومؤشرات الأداء الرئيسية كي لا يخضع الموظف لكثير من القيود التي تعيقه عن القيام بعمل موضوعي بالكامل. مثلاً، تم إنشاء وظيفة تجارية قانونية في شركة الطاقة وعُين فيها موظف من قسم تطوير الأعمال التجارية، وتم ربطه بقسم الشؤون القانونية في الشركة لضمان احتساب جميع الجوانب القانونية للمناقصة كما يجب.
- أدوار مترابطة شبكياً. تساعد المصفوفة المستخدمة بحكمة في تحقيق التوازن كي تتمكن الشركات من تغيير البنية التنظيمية لتراتبية أدوار معينة. مثلاً، يمكنك تحويل دور المدير المسؤول عن قسم ضمن المجال التخصصي الرأسي "أ" إلى دور مترابط شبكياً، أي جعل هذا المدير تابعاً لمشرف ضمن المجال التخصصي الرأسي "ب" أيضاً. يمكن لوظائف الدعم التقليدية في الشركات (مثل الموارد البشرية والشؤون المالية والقانونية) أن تقوم بدور مهم في تحديد المعايير والسياسات والأساليب المتبعة في جميع المجالات التخصصية الرأسية وإنشائها ودعم الامتثال لها، لا سيما عندما يكون المدراء المسؤولون عن هذه الوظائف مترابطين شبكياً مع المجالات التخصصية الرأسية ومعوظائفهم المؤسسية. مثلاً، قامت شركة الطاقة التي عملنا معها بتعيين مدير تجاري فني لمجالي تطوير الأعمال وهندسة الشركات معاً.
- الحوكمة. كلّف هيئة تشمل عدة مجالات تخصصية رأسية سواء كانت قائمة فعلاً أو جديدة باتخاذ القرارات الحاسمة التي تتطلب مجالات تخصصية رأسية مختلفة، خذ مثلاً لجنة الاستثمار الجديدة التي أنشأتها شركة الطاقة لمراجعة المناقصات التجارية. ثم قدم حدوداً قصوى لتصعيد الموافقات على القرارات إلى هيئة حالية ذات مستوى أعلى وفقاً لتأثير العمل التجاري ومخاطره، وإذا لزم الأمر أنشئ تدابير احتياطية إضافية مثل حقوق النقض أو التصويت الذهبي.
- نموذج الخطوط الثلاثة. من منظور التحكم، فإن مدراء المجالات التخصصية الرأسية يشكلون ما يسمى الخط الأول؛ فهم يتحملون المسؤولية الأساسية عن تحقيق الأهداف التي يُكلف بها مجالهم التخصصي الرأسي وإدارة المخاطر المرافقة. لكن وظائف الخط الثاني المحددة (مثل الرقابة الداخلية والامتثال والأمن السيبراني والاستدامة والمخاطر) تساعد في إدارة المخاطر التي تشمل خطر امتلاك منظور لا يتسع بما يكفي ليشمل المؤسسة بأكملها، أما وظائف الخط الثالث (التدقيق الداخلي) فهي تقدم المزيد من الضوابط والتوازنات بين المجالات التخصصية الرأسية.
- أدوات التدخل. أنشئ تدخلات ظرفية باستخدام أدوات محددة. مثلاً، يستخدم قطاع المشاريع الرأسمالية ما يسمى كتاب الافتراضات لضمان الترقب والصراحة والشفافية بين المجالات التخصصية الرأسية. ومن الأمثلة الأخرى مراجعات الأقران التي يقوم بها موظفون من مجالات تخصصية رأسية أخرى، وجلسات التحدث عن "الدروس المستفادة" المشتركة أو عمليات التدقيق التي يقوم بها الطرف الثالث.
المؤسسة التي لا حدود لها هي مجرد وهم، فالمجالات التخصصية الرأسية قائمة لأسباب وجيهة تتمثل في تجميع الخبرات وتكليف المسؤوليات ومنح الإحساس بالهوية. لتهدئة العقليات والسلوكيات المعزولة المصاحبة، يجب على الشركات بناء الجسور بين المجالات التخصصية الرأسية وإنشاء الضوابط والتوازنات بعناية.