هيكل تنظيمي لا يصيب أفراده بالاختناق

23 دقيقة

يعلم القادة حاجتهم إلى إفساح المجال أمام العاملين لديهم ليقدموا أفضل ما عندهم، وليسعوا وراء ابتكار وتحقيق أفكار غير تقليدية، وليتخذوا قرارات ذكية دون إبطاء وقت الحاجة إليها. لقد درج هذا القول كثيراً إلى أن أصبح مفروغ منه. بيد أنه هناك مشكلة في الأمر: يواجه المدراء التنفيذيون مشكلة في فض تلك المعضلة بين تمكين الموظفين وبين الانضباط في العمل. وقد بلغ هذا الأمر من الصعوبة درجة تربك الشركات وتزيد الأمور تعقيداً على تعقيد. ففي الواقع، استغرقت هذه المسألة من التجارب الإدارية ما يعادل عقوداً كثيرة، بداية من الهياكل المصفوفية إلى الفرق المدارة ذاتياً. ومع ذلك لم تنجح أي من هذه التجارب في تقديم إجابة شافية واضحة.

لعل هذا يعود إلى أن القادة يتمسكون بفكرة أن الحرية والرقابة لا ينسجمان، وغالباً ما يكون هناك تأرجح وكأنهما طرفا نقيض. ومع ذلك، عند دراستي لأكثر من عشر مؤسسات في مجموعة مختلفة من الصناعات وقطاعات الأعمال المتنوعة، تراوحت ما بين شركة ترفيهية، وشركة طيران، وشركة ناشئة في مجال التجزئة الإلكترونية، تعلمتُ أن التعليمات لا تعني الحكم على الحرية بالإعدام طالما أن هذه التعليمات صممت تصميماً جيداً ونفذت تنفيذاً جيداً. فهذه المؤسسات تقوم بدعم الحرية وتغذيتها من خلال إعطاء العاملين لديها معنى واضحاً وإيجابياً ودافعاً لما يحاولون الوصول إليه وتحقيقه.

فالقادة الذين توصلوا إلى هذا الاكتشاف الأساسي على الرغم من كونه غير متوقع قاموا في الأساس بغرس الحرية في إطار عمل محدد، حيث أدمجوا غرض المؤسسة وأولوياتها ومبادئها في مجموعة من المبادئ التوجيهية. وما أن انتهوا من وضع ذلك الإطار، قاموا بتخصيص موارد كبيرة لمساعدة الموظفين في فهم هذا الإطار والازدهار والنجاح من خلاله.

المبادئ التوجيهية لا تعني الحكم على الحرية بالإعدام طالما أن هذه المبادئ التوجيهية صُممت تصميماً جيداً ونُفذت تنفيذاً جيداً. فهي تمنح العاملين معنى إيجابياً ودافعاً لما تحاول المؤسسة الوصول إليه وتحقيقه.

وهذا الاصطلاح "الحرية في إطار" ليس من ابتكاري. فالقادة الذين قمتُ على دراستهم هم الذين يستخدمونه لوصف طريقة تفكيرهم في عملية صنع القرار من قبل موظفيهم، على سبيل المثال، أو طريقة رؤيتهم لعلاقة المؤسسة المركزية مع وحدات الأعمال، أو مع العلامات التجارية الفردية. يقدم هذا المقال تعريفاً أوسع وأشمل يمكن تطبيقه واستخدامه في سياقات متنوعة.

فكرة المقالة بإيجاز

المشكلة

ينظر معظم القادة إلى حرية الموظفين والتحكم التشغيلي على أنهما متناقضان في صراع عنيف (وكأنهما في لعبة شد الحبل) والتي لا يمكن أن يكون بها سوى فائز واحد فقط. ولذلك، فإنهم يميلون إلى تركيز مواردهم باتجاه ضبط وتنظيم سلوك الموظفين ـ وهم بهذا يقومون دون علم منهم بالحد من الالتزام والابتكار والأداء.

الحل

من خلال منح الأشخاص فهماً أكثر وضوحاً لغاية المؤسسة وأولوياتها ومبادئها ـ بمعنى، إطار دافع ومحفز ـ يستطيع القادة تجهيزهم لاتخاذ قرارات مستقلة ذاتياً تصب في مصلحة الشركة. يجب مشاركة الموظفين في تحديد تلك المبادئ التوجيهية وتفصيلها.

الفوائد

يساعد إطار العمل المتماسك الموظفين في تطوير فهم أكثر عمقاً للعمل، والذي من شأنه أن يعزز الأداء على مستويات كثيرة، بما فيها المشاركة، والجودة، والإبداع، وخدمة العملاء.

"الحرية"يمكن أن تعني أشياء كثيرة، ولكن هنا، كنقطة أساس وانطلاق لنا، تعني الثقة في الموظفين وفي قدرتهم على التفكير والتصرف بشكل مستقل نيابة عن المؤسسة. كما يمكن أن يشمل هذا التعريف السماح لهم بالبحث عما يحقق ذواتهم والتعبير عن أنفسهم.

تختلف، بالطبع، رغبات الموظفين وأمانيهم. ولكننا نعرف من خلال مجموعة كبيرة من البحوث حول السلوك المؤسسي أن معظم الأشخاص يريدون بشكل أو بآخر أن يكون لهم اختيار ورأي فيما يفعلونه في العمل، كما نعرف أن هذا يمكن أن يستحث المزيد من الالتزام لديهم، ويحسّن من أداءهم. لقد توصل المفكرون في مجال العلاقات البشرية إلى هذا الارتباط منذ قرابة قرن مضى، ومنذ ذلك الحين، راح خبراء الإدارة من أمثال بيتر دراكر، وجيفري فيفر (جيف فيفر)، وريتشارد هاكمان، ومايكل بير يطورون هذا الفكر. وقد أظهر روبرت بورجلمان وجوزيف باور وجود علاقة بين الاستقلال الذاتي (لكل من الأفراد والوحدات) ونمو الأفكار الابتكارية والمشروعات الإبداعية داخل الشركات. وقد أكد كينيث توماس وآخرون على ما يمكن أن يحدثه الاختيار الحر من أثر على التمكين والتحفيز.

إن أي عامل من العوامل التي ذكرناها آنفاًK الالتزام، والأداء، والابتكار ـ من شأنه أن يكون سبباً قوياً في زيادة نطاق حرية الموظفين. ولكن، عند التفكير في أن النمو الكبير للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أتاح للأشخاص بالتمتع بقنوات لا حصر لها لمشاركة ما يساورهم من مخاوف ومشكلات وما لديهم من أفكار في حياتهم اليومية. عند مقارنة مكان العمل بهذه المنصات الواسعة والمفتوحة للتعبير عن الذات، يبدو مكان العمل مكاناً خانقاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إن حرية العالم الخارجي تقرع بقوة على أبواب الشركات، طالبة السماح لها بالدخول. ولكن معظم القادة ما مازالوا خائفين من فتح الباب للحرية، لأنهم ما يزالون ينظرون إلى الحرية وإلى أطر العمل وكأنهما خصمان في صراع عنيف (كأنهما في لعبة شد الحبل يلعبونها بعنف) وحيث أن لعبة شد الحبل لا يمكن أن يكون فيها سوى فائز واحد، فإن هؤلاء القادة يصبون مواردهم باتجاه ضبط سلوك الموظفين وتنظيمه.

منذ عقدين من الزمان، قام كل من كريستوفر بارتليت، عالم نظريات المؤسسات في كلية هارفارد للأعمال، وأستاذ الإدارة في كلية لندن للأعمال، سومانترا غوشال، بالنظر في ميل الشركات نحو السيطرة، حيث زعم الاثنان أن القادة قد جانبهم الصواب في شكاواهم من القصور من جانب الموظفين فيما يتصل بالمشاركة، وروح المبادرة والتركيز، وغير ذلك. ويرى كل من بارتليت وغوشال أن المشكلة الحقيقية تكمن في الإصرار على استخدام نموذج تنظيمي عتيق ومبسط إلى حد يجعله يبعد عن الواقعية، يضع فيه القادة الاستراتيجية في أحلامهم وخيالاتهم، ويضعون هياكل تنظيمية مؤسسية لدعم هذه الاستراتيجية التي يحلمون بها، ويضعون الأنظمة التي تضمن انصياع الموظفين لذلك وعدم تجاوزهم للحدود الموضوعة. ويواصل الاثنان القول بأن النتيجة كانت في الغالب خلق بيئة عمل تسبب الوهن والضعف للموظفين.

وللأسف، فإن التغيير كان ضئيلاً للغاية. فكوني رئيس برنامج الإدارة المتقدمة المكثف في كلية هارفارد للأعمال، فقد سمعتُ حكايات كثيرة من مصادرها مباشرة تؤكد على العادات والموروثات المترسخة لدى المؤسسات فيما يتعلق بالتحكم والسيطرة. في حوار لا يُنسى، ذكر مدير تنفيذي للموارد البشرية في شركة أميركية كبرى متعددة الجنسيات في أسى وحزن أن الحرية في السياق المؤسسي هي في النهاية "حلم مستحيل".

في شركة نتفليكس، يفترض القادة أن الموظفين يبذلون قصارى جهدهم عندما لا يضطرون للحصول على موافقة على كل كبيرة وصغيرة "فنحن نريد منح الأشخاص متنفساً لارتكاب الأخطاء للتعلم منها".

في هذا المقال، سوف أعرض عدة نماذج لشركات جاءت مخالفة ومغايرة لهذا التقييم. تُظهر هذه الحالات كيف تبدو الحرية في إطار، وكيف تعمل في بيئات وسياقات متعددة ومختلفة، بما في ذلك قطاع الطيران، وهو أحد قطاعات الأعمال الأكثر تنظيماً والأكثر تحميلاً بالقواعد والقيود. سوف أناقش أيضاً في مقالتي هشاشة الإطار، وكونه عرضة للانهيار، ونزوعه ـ مع غياب جرعات الطاقة المستمرة الدافعة ـ للعودة إلى البيروقراطية.
نظرة أكثر عمقاً لمفهوم الحرية: حالتان

كانت شركة "نتفليكس" (Netflix) من أوائل الشركات التي رأيتها تدفع بقوة فيما وراء الفهم التقليدي المحدود لحرية الموظفين. فشركة نتفليكس، وهي شركة مقرها الولايات المتحدة الأميركية، تعمل في مجال الترفيه الإعلامي، حصلت على تغطيات صحفية كبيرة لنهجها في الإدارة القائم على عدم التدخل. فقادة الشركة يفترضون أن الأشخاص يبذلون قصارى جهدهم عندما لا يضطرون للحصول على موافقة واعتماد على كل كبيرة وصغيرة. قال لي أحد كبار المسؤولين التنفيذيين العالميين في الشركة، أنه هو شخصياً يكره أن يُدار، ويبحث عن نفس التوجه لدى من يتقدمون لشغل الوظائف لديه.

في عرض تقديمي للشركة انتشر انتشاراً منقطع النظير منذ عدة أعوام، وصفت الشركة ثقافتها على أنها مزيج من "الحرية والمسؤولية" يعني هذا أن الموظفين لديهم مطلق الحرية لاستخدام ما لديهم من حسن تمييز وفطنة في نطاق الأولويات الاستراتيجية الموضوعة تفصيلاً في الوثائق "التأسيسية" للشركة، والتي تشمل أموراً من قبيل الأسئلة المتكررة حول فلسفة الشركة وأولوياتها، والتعليمات حول الحد من القواعد وتقدير المرونة وتقديمها على الكفاءة.

وبالتالي، لم يكن لدى نتفليكس أي نقص في المبادرات التي تنطلق من الموظفين، والتي تتراوح من تقديم المحتوى الجديد للأفلام والأعمال التلفزيونية، وصولاً إلى الحملات الدعائية الإبداعية على وسائل التواصل الاجتماعي. كما تدع الشركة الموظفين يختارون بأنفسهم أوقات عطلاتهم وإجازاتهم، وإجازة الأمومة، وتكاليف السفر، بدلاً من الرجوع إلى قسم الموارد البشرية لفرض القيود والحدود. كما أن هناك تشجيع للموظفين على التواصل بانفتاح وصراحة، وللدفاع عن وجهات نظرهم وآرائهم.

ولكن هنا تكمن المعضلة، فهذه الحرية ليست موجودة تحت أمر الآمر يأخذها من يريدها. إذ يُتوقع من الموظفين ممارسة هذه الحرية، كجزء من مسؤوليتهم تجاه المؤسسة. على سبيل المثال، يقع على عاتق هؤلاء الموظفين مسؤولية قراءة وفهم ومناقشة الأفكار الموجودة في الوثائق التأسيسية للشركة. وقد أشار المسؤول التنفيذي العالمي في نتفليكس الذي ذكرتُه آنفاً أن هذا "يتطلب قدراً كبيراً من المشاركة في أوجه العمل الرئيسية وجوانبه". بمجرد أن يتفهم الموظفون احتياجات الشركة عند ذلك المستوى، يمكن الوثوق بهم، وبقدرتهم على وضع مصالح الشركة في المقام الأول، وبتصرفهم وفقاً لذلك. وقد قال لي المسؤول التنفيذي "من النادر أن يسيء الأشخاص استخدام الثقة الموضوعة فيهم". وأشار الباحثون إلى قيام الشركات في الغالب بتحديد "مناطق حرية التصرف" أو "مناطق النفوذ والتأثير" والتي يحصل فيها الموظفون على استقلال ذاتي محدود. بيد أن نتفليكس تعتبر الشركة كلها منطقة لحرية التصرف.

أخبرني مسؤول تنفيذي في قطاع الموارد البشرية "ليس من الضروري بالنسبة لنا أن ننفذ آليات التحكم. فنحن نريد مساعدة الأشخاص في التعلم، ومنحهم متنفساً لارتكاب الأخطاء للتعلم منها". على سبيل المثال، فهو يسمح للمدراء بتوظيف أشخاص بعد أن يكون قد رفض تعيينهم. "يستطيع المدراء اتخاذ القرارات بشأن الاختيارات التي يرونها صحيحة وفي مصلحة العمل. يمكنني الاختلاف بشأن أحد المرشحين لشغل وظيفة ما، ولكن، إذا استمع أحد المدراء إلى رأيي، ومع ذلك نزع إلى المراهنة على هذا المرشح، فإنني أدعمه في رأيه وفي اختياره".

وقد نجح هذا المزيج من الحرية والمسؤولية في أن يؤتي ثماره في شركة نتفليكس، فمنذ تأسيس الشركة، منذ عقدين من الزمان، كشركة صغيرة لتأجير الفيديو حسب الطلب عبر البريد، توسعت الشركة إلى مجال البث عبر الإنترنت، حيث تجاوز عدد المشتركين فيها 100 مليون مشترك حول العالم، ممثلة جميع دول العالم تقريباً. كما أنها اتجهت بعد ذلك إلى صناعة الأفلام والأعمال التلفزيونية الحائزة على جوائز، وحققت مركزاً بارزاً بشكل متزايد. تعزي الشركة هذه النجاحات إلى العاملين فيها بما منحتهم من تمكين، وما لديهم من التزام وإبداع وابتكار.

وربما تتساءل عن إمكانية تطبيق هذا النهج على نطاق واسع. وقد سألتُ نفسي السؤال ذاته. حيث تستخدم نتفليكس قوى عاملة استثنائية تتميز بكونها صغيرة، حيث يبلغ عددها قرابة 3,500 موظفاً ـ وهي لا تعتبر من القوى العاملة الضخمة وشديدة التنوع، والتي تتطلب بدورها وضع قواعد فعالة. حسب قول المسؤول التنفيذي العالمي في نتفليكس. كما أن عملية التوظيف في الشركة انتقائية إلى أبعد الحدود، إضافة إلى دفع الشركة لمرتبات مرتفعة. على الرغم من أن بعض الشركات لديها تلك الأدوات فيما يتصل بالتوظيف والرواتب والأجور تحت تصرفها ـ إلا أن شركات أخرى قائمة على التقنية، على سبيل المثال، وشركات الخدمات المهنية ـ الأعمال منخفضة الهامش، لا تمتلك تلك الأدوات في العادة. بالإضافة إلى ذلك، فإن نتفليكس تعمل في مجال الترفيه، حيث يمكن أن تكلفها الأخطاء من المال الكثير، بيد أن تلك الأخطاء لا تعرض صحة الناس أو حياتهم للخطر في العادة. إن درجة الحرية التي تعتبر ملائمة في شركة ترفيهية، أو في شركة للإنترنت أكبر بكثير من الدرجة المسموح بها في الكثير من الأعمال ـ وعلى وجه الخصوص، تلك الأعمال التي تخضع للنظم والنقابات العمالية ـ ولذلك فقد قمت بكل دقة بفحص مؤسسات ممن تتقيد بتلك القيود. وهنا أيضاً تمكنتُ من العثور على شركات ما يزال باستطاعة موظفيها التفكير بشكل بناء، ومبدع، واتخاذ قرارات ملائمة ومواتية للعملاء من جانبهم ومن تلقاء أنفسهم، وممارسة المزيد من حرية الاختيار والتعبير عن الذات في عملهم اليومي، وذلك من خلال قبول المبادئ التوجيهية التي تكمل نظم التحكم التي تتسم بكونها أكثر تقليدية.

ولننظر الآن إلى خطوط ألاسكا الجوية، التي تعمل في قطاع شديد التنظيم والانضباط، ويركز بشدة على السلامة، وذي هامش منخفض للأخطاء، ويعمل بها عاملون متنوعون، وخاضعون لاتحاد ونقابات عمالية. (إذا تمكنت شركة طيران من إنشاء إطار متماسك لحرية موظفيها، على الرغم من تلك القيود، فستتمكن أي شركة من فعل الشيء ذاته)  وكشركة نتفليكس، تعلمت شركة ألاسكا أن المبادئ التوجيهية المصممة والمنفذة بدقة وعناية يمكن أن تدعم وتُثري الحرية. ولكن الوصول إلى تلك النقطة استغرق وقتاً طويلاً من شركة الطيران، لأن محاولاتها المبكرة لم تكن متجذرة بالشكل الكافي في احتياجات المؤسسة.

في وقت سابق، أعطى تركيز خطوط ألاسكا الجوية الشديد على العملاء بعض الموظفين انطباعاً زائفاً أنه لم تكن هناك حدود لما يمكنهم أن يفعلوه من أجل المسافرين.

في التسعينيات، كانت شركة ألاسكا صغيرة نسبياً، بيد أنها كانت ذات هوية قوية ومتميزة ـ كان العاملون في الشركة يتسمون بطابع الود والصداقة والأسلوب غير الرسمي، كما كانوا تواقين للمساعدة. كان هناك تشجيع لموظفي الخطوط الأمامية لاتخاذ قرارات فورية من أجل تقديم خدمة أفضل للعملاء، واكتساب ميزة تنافسية. قالت لي ستيسي بيكر، مديرة التدريب والقيادة في المطار في شركة ألاسكا "أتذكر أن أحدهم أخبرني، (عندما وصلتُ إلى هنا عام 1997) ثقي بحدسك، وافعلي ما هو صواب". "إنني أتذكر إعطاء ذلك التوجيه للآخرين أيضاً عندما أصبحتُ مشرفة".

أطلق أحد كبار المسؤولين التنفيذيين على فلسفة الخدمة هذه عبارة (افعل الصواب مهما كلف الأمر)، وقد تبنت الشركة الناشئة هذه الفلسفة شعاراً لها. وقد دُفع الموظفون بقوة إلى بذل كل ما في وسعهم لمساعدة المسافرين، واسترضائهم، بل وحتى تعويضهم، للحصول على قاعدة عملاء سعيدة وراضية وتتسم بالولاء للشركة. وقد افترض القادة ـ أو أملوا ـ أن الموظفين سيصقلون تلك الجهود الاستثنائية ويدمجونها بما يخدم مصالح الشركة.

بيد أن الموظفين لم يحصلوا مطلقاً على رؤية واضحة عن مصالح الشركة. (افعل الصواب مهما كلف الأمر) كان شعاراً تركز تركيزاً تاماً على العميل، وقد كانت فلسفة واسعة النطاق. يقول آندي شنايدر، والذي كان نائب الرئيس لعمليات الطيران عندما كانت تلك الفلسفة منتشرة انتشارا واسعاً "لم يكن لها أي سور أو حاجز يحيط بها أو يحدها". وقد أعطى هذا بعض الموظفين انطباعاً زائفاً أنه لم تكن هناك حدود لما يمكنهم أن يفعلوه من أجل المسافرين.

ولكن قيمة الاستقلالية في صنع القرار كان لها فوائدها خلال أزمة مرت بها الشركة، ففي يناير/كانون الثاني من عام 2000، عندما سقطت الرحلة رقم 261 في المحيط الهادي، وراح ضحية الحادث 88 شخصاً كانوا على متن الطائرة، انبرى موظفو خدمة العملاء للتصدي للموقف واتخاذ ما يلزم من إجراءات لمساعدة العائلات وغيرهم ممن كانت لهم صلة بالضحايا. فأرسلت الشركة فريقاً مكوناً من 600 موظف وزودتهم ببطاقات الائتمان الخاصة بالشركة، وخولتهم صلاحية ترتيب ما يلزم من إجراءات بشأن حجوزات الغرف الفندقية، وتوفير الرعاية والحاضنات للأطفال، وأي شيء آخر مهما يكن مما يمكن أن يحتاجه أولئك الذين تضرروا من حادث الطائرة. قال جيف بتلر، أحد المسؤولين التنفيذيين في خطوط ألاسكا الجوية وقتها "سنفعل كل ما يلزم فعله، مهما كان الأمر".

ومع ذلك، فإن الحادث قد أطلق تحولاً ثقافياً في ألاسكا. فقامت الشركة بتقليص خطة نموها، وزادت من تركيزها على السلامة، وعينت نائباً للرئيس لشؤون السلامة، كما عينت 200 عامل إضافي في مجال الصيانة.

بعد ذلك، وبعد أقل من عامين من ذلك الوقت، بعد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر/أيلول ـ انهار الطلب على السفر الجوي انهياراً تاماً، وزادت التكاليف الأمنية. وفي عام 2001، خسرت خطوط ألاسكا الجوية 43 مليون دولار. وفي ذلك العام، تحولت شركات الطيران الأميركية من الربحية الكبيرة، إلى مجموع خسارة صافية قاربت 8 مليارات دولار، على الرغم من إمدادات الطوارئ التي قاربت 4 مليارات دولار من الدعم الحكومي. وفي نفس الوقت، أصبح أداء الشركة سيئاً من ناحية التوقيت والمواعيد، مما شكل تهديداً على رضا العملاء.

في سبيل التعامل مع الضغط الحاد بخصوص السلامة والتكاليف وتحسينات الأداء، بدأت ألاسكا باستبدال الحرية بالتحكم. قالت لي ستيسي بيكر عندما تحدثنا سوياً "عندما أصبح العالم في وضع ملتبس، صرنا أكثر انضباطاً". وهذا بمنزلة استجابة طبيعية للأزمات وللانخفاض في النشاط التجاري. لسوء الحظ، مع هبوط الطائرة وسقوطها، فإنها جرفت في طريقها استقلالية اتخاذ القرار. على سبيل المثال، بعد بضع سنوات، لتحسين السلامة وتعزيز النتائج فيما يتصل بحسن التوقيت، قامت الشركة بوضع خطة صارمة للمغادرة والوصول في صورة" دليل تفصيلي" وبالتالي زادت الكفاءة، وزادت معها الأرباح الصافية ـ من 138 مليون دولار عام 2006 إلى 571 مليون دولار عام 2014. ولكن حرس البوابات والمضيفين والمضيفات وغيرهم من العاملين في الخطوط الأمامية أصبحوا يفتقرون لمساحة الحرية للتصرف لحل المشكلات. فعلى الرغم من المحاولات غير الرسمية من جانب قدامى العاملين لتمرير تقاليد الشركة التي كان محورها ومركزها العميل، فإن القادمين الجدد كانوا يشعرون بعدم الراحة وهم يجرون مكالمات هاتفية طلباً للرأي في مواقف ملتبسة، وكانوا يميلون لأن يكونوا أكثر صرامة بشأن الحفاظ على سجل توقيتات الطائرة. أخبرني بن مينيكوتشي، رئيس خطوط ألاسكا الجوية ورئيس العمليات، قائلاً: "لقد كانوا خائفين في حال عدم اتباعهم للسياسات بكل دقة وانضباط، فربما يقعون في مشاكل". بدأت أرقام خدمة العملاء تنخفض، وراحت الشركات المنافسة تلحق بها ويسطع نجمها. وأوضحت ستيسي بيكر الأمر قائلة، أن شركات الطيران الأخرى "راحت تمسك بخيوط اللعبة وتتقدم، بينما ظللنا نحن في وضعنا الراهن دون حراك أو تقدم".

عندما طلب القادة التعليقات والملاحظات من موظفي الخطوط الأمامية، علموا أن البيروقراطية تكف أيدي الموظفين وتخلق الإحباط لديهم. ولذلك، ففي عامي 2014 و2015، أملاً في تحقيق الكسب مجدداً في خدمة العملاء الفائقة، عادت ألاسكا إلى ثقافتها المتسمة بالاستقلال الذاتي لدى موظفي الخطوط الأمامية. ولكن، في هذه المرة، انتهجت الشركة نهجاً جاداً فيما يتعلق بحدود اتخاذ القرار. كيف ينبغي رسم هذه الحدود؟ فلو كان مسموحاً ـ على سبيل المثال ـ بتأخير الإقلاع بينما يعود أحد الركاب إلى صالة المغادرة لجلب شيء قد يكون نسيه، فهل يُسمح أيضاً بمنح هدايا للركاب بسخاء تعويضاً لهم عن التأخير؟ سوف تأتي الإجابة بالنفي. فقد رأت الشركة أن تزويد خدمة متميزة بشكل متناغم ومتناسق مع الالتزام باللوائح والنظم، والحفاظ على المكاسب المحققة بكفاءة يتطلب استقلالية في عملية صنع القرار ـ على أن يكون ذلك في حدود مفهومة فهماً جيداً.

من خلال استقاء الإلهام من "المفاتيح الأربعة" لمعهد ديزني باتجاه تحقيق تجربة عظيمة للعملاء، قام فريق القيادة في ألاسكا بتحديد أربعة معايير للخدمة: السلامة، والرعاية، والتنفيذ، وحسن العرض والتقديم. في نطاق كل معيار من هذه المعايير، وفرت الشركة مبادئ توجيهية مستفيضة لأوضاع الموظفين وسلوكياتهم.

اكتشفت ألاسكا أن موظف الخطوط الأمامية ـ العامل الذي يتصرف "في التو والحال" ـ حسب اصطلاح عالم الاقتصاد فريدريك حايك ـ ينبغي منحه ما يكفي من المعرفة التي تمكنه من مواءمة قراراته مع احتياجات الشركة وخططها. ولذلك، قامت الشركة بتطوير برنامج تدريبي شامل ينطوي على هدف واضح وصريح يتمثل في مساعدة موظفي الخطوط الأمامية في فهم معايير الخدمات الموضوعة من جانب الشركة والانصياع لها وتطبيقها. وقد حضر كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركة التدريب للتشديد على أهميته وإبرازها. في مكان صمم وكأنه متحف لتوفير تجربة غامرة للمتدربين، حيث راحوا يتحدثون عن المعتقدات الرئيسية والجوهرية لدى ألاسكا وعن تاريخ الشركة، وعُرض على الموظفين بعض الأدوات والمعدات القديمة، مثل الزي الموحد الذي كان يرتديه موظفو الشركة في الأربعينيات، وذلك لنقل جزء من قصة الشركة، وللتشديد على فكرة أن النجاح في المستقبل ينبع من القيم الراسخة المتمركزة على العملاء وخدمتهم. كما تعرفوا على الوضع المالي للشركة، بالإضافة إلى خطتها الخاصة بالاستدامة. وقد أوضح التدريب أن العاملين في الخطوط الأمامية ضروريين للتغلب على شركات النقل منخفضة التكلفة، والمنافسين ذوي التاريخ العريق، بما في ذلك شركة دلتا للطيران، التي راحت تغزو ألاسكا في عقر دارها، وتسحب البساط من تحتها في سياتل. كما تعلموا كيفية تقييم الشركة من جانب مؤسسة جيه دي باور (مؤسسة مرموقة في مجال المسوح التقييمية والاستطلاعات الاختبارية) وغيرها من مؤسسات التصنيف والتقييم، والمكان الذي تشغله ألاسكا بالنسبة لمنافسيها.

بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك دورات تدريبية أخرى، تم تعزيزها بمقاطع الفيديو. وقد ساعدت هذه الدورات التدريبية الموظفين في فهم قدرتهم على صنع القرار، وكيفية الربط بين صناعتهم للقرار وبين أهداف الشركة ومعايير الخدمة الموضوعة من جانبها. جاء أحد مقاطع الفيديو، الذي ظهر فيه أحد وكلاء الشركة وهو يتنازل عن الرسوم لصالح أحد الركاب الذي توجب حدوث تغيير في خطط السفر الخاصة به جراء إصابة جسدية، ليوضح أنه يُتوقع من الموظفين التوصل إلى اختيارات مدروسة من تلقاء ذواتهم.

انتاب بعض العاملين الشك والريبة، حيث كان يساورهم الخوف بأن الحيود عن النهج القائم على القواعد المحضة من شأنه أن يُضر بحسن الأداء الفوري. وقد أكدت الشركة للموظفين أنها تريد منهم التجربة بأنفسهم، وأنها ستدعمهم فيما يتخذون من قرارات. كما كان من اللازم أيضاً إعادة تدريب المدراء؛ فقد كان الكثيرون منهم لا يشعرون بالارتياح في التنازل عن صلاحية اتخاذ القرار لمرؤوسيهم المباشرين. كما كانوا بحاجة إلى التوجيه والإرشاد حول إجراء حوارات بناءة مع مرؤوسيهم الذين تجاوزوا الحدود بعض الشيء فيما يتعلق بالعملاء. تمثل الهدف في مساعدة الموظفين في تحقيق التقدم اعتماداً على تجاربهم، بدلاً من معاقبتهم على اتخاذ خيارات سليمة حسنة النية، أو زرع الخوف فيهم تجاه تقديرهم للأمور وحرية التصرف في المستقبل.

كانت النتائج إيجابية حتى الآن، ففي عام 2017، تربعت ألاسكا على رأس قائمة دراسة جيه دي باور من حيث رضا العملاء بين شركات الطيران التقليدية. كما أن استمرار الشركة في شغلها لموضع الريادة في انخفاض التكلفة، حيث جاءت من بين أكبر 15 شركة طيران أميركية من حيث الكفاءة في استخدام الوقود، على سبيل المثال، يدل على أن ألاسكا تحقق أهدافاً أخرى متعلقة بالأداء. وقد أدرج موقع "فلايت ستاتس" (Flightstats) شركة ألاسكا على أنها شركة الطيران الأكثر التزاماً وانضباطاً من حيث المواعيد في أميركا الشمالية على مدار سبع سنوات على التوالي. وطبقاً لتصنيفات مجلة "ذا وول ستريت جورنال" (The Wall  Street Journal) الأميركية لشركات الطيران المحلية، شغلت شركة ألاسكا مرتبة أفضل شركة من حيث حسن الأداء الفوري لمدة أربع سنوات على التوالي، بالإضافة إلى تسجيلها لأقل تأخيرات على مدرج الإقلاع في المطار وأقل معدل للشكاوى.

بالإضافة إلى ذلك، كان للتدريب تأثير غير متوقع تمثل في تحسين العلاقات بين الموظفين. وشرح آندي شنايدر هذا الأمر لي قائلاً "إذ كنت قد عملت قبل هذا في بيئة اتحادية أو نقابية، فسوف تجد الكثير من الشكوك والظنون، والكثير من المعلومات الخاطئة. لقد كان أمراً مفيداً بالنسبة للموظفين أن يسمعوا من يقول لهم: نحن لا نقوم بالتصرف الصحيح على الدوام، ولكننا ملتزمون بهذا الأمر ونسعى إليه. إننا ملتزمون تجاهك. ونحن بحاجة إليك حتى نحقق الكسب والفوز".

تحديد الإطار

في سلسلة المقالات الرائدة التي نشرتها هارفارد بزنس ريفيو في التسعينيات (من بينها "تغيير دور الإدارة العليا: ما وراء الأنظمة إلى الأشخاص"، مايو ـ يونيو 1995)، قدم كل من بارتليت وغوشال حلاً ناجعاً ونافعاً للتفكير القائم على العلاقة بين استراتيجية وهيكل النظم والتي تؤدي مراراً وتكراراً إلى خلق ضوابط تتسم بالاضطهاد والقمعية في مكان العمل. يجب على الشركات ـ حسب بارتليت وغوشال ـ التحول إلى نموذج مبني على غاية جذابة للشركة، وعمليات وإجراءات إدارية فعالة، تشجع على اتخاذ المبادرات الفردية، وسياسة مرتبطة بالأشخاص تتمحور حول تطوير قدرات الموظفين وإمكانياتهم، بدلاً من مراقبة سلوكياتهم وتصرفاتهم. وقد اقترح الاثنان أن تحفيز الموظف سينمو ويزداد انطلاقاً من "إطار عمل مركزي قوي" يجسد رؤية الشركة.

وجود مجموعة بسيطة من المبادئ، تنبع من غاية المؤسسة وأولوياتها، تساعد الموظفين في الاختيار من بين خيارات معقولة في عملهم اليومي.

هذه النصيحة مبنية على أساس صحيح، بيد أنه ثبت صعوبة تنفيذها، لأنها تخلف وراءها أسئلة كبيرة بحاجة إلى أجوبة: كيف تقوم الشركات بترجمة الغاية إلى أفعال؟ كيف تستطيع الشركات تشجيع روح المبادرة، وترك التركيز على مراقبة الموظفين دون أن يتسبب ذلك في إحداث فوضى؟ ما هو على وجه التحديد إطار العمل، وكيف يعمل ويقوم بوظيفته؟ ولذلك، فإنني أقترح بعض التنقيحات على نموذج بارتليت وغوشال، لجعله أكثر ملاءمة للمستخدم. كما حددتُ ثلاثة عناصر جوهرية.

أولاً: وحسب قول بارتليت وغوشال، فإن أي شركة تحتاج إلى تحديد غايتها ـ وهو هدف مشترك مفرد يلخص السبب وراء إنشاء وعمل الشركة. وينقل هذا كيفية فهم الشركة للعالم من حولها، كما يجمع أصحاب المصلحة معاً حول قضية مشتركة. تمنح الغاية التوجيه والمعنى لكل شيء يتم القيام به، سواء من جانب الشركة أو من جانب موظفيها. فالموظفون في الغالب يتبنون هذه الغاية جاعلين إياها السبب الخاص بهم للعمل في المؤسسة.

ولتحديد غاية الشركة، وصياغتها بطريقة من شأنها أن تجد لها صدى وقبولاً لدى العاملين، كونت ألاسكا فريقاً من أكثر من عشرين موظفاً من الخطوط الأمامية ممن يتصفون بالأداء الرفيع والاحترام الكبير، مع ثمانية من المدراء. وفي نهاية المطاف قاموا بتوصيف غاية شركة ألاسكا على أنها الوصول إلى أبعد الحدود وبذل أقصى الجهود لبناء "روابط شخصية ورحلات استثنائية".

إن عبارة كهذه تعد غاية في الطموح. إذ لا بد من ربطها بالواقع من خلال أولويات راسخة ـ وهي القواعد السلوكية التي تعكس أهداف المؤسسة. إن تفصيل مصالح الشركة من شأنه أن يمكّن الموظفين من العمل والتصرف على نحو يحقق تلك المصالح، مع استخدام وقت الشركة وغيره من موارد الشركة استخداماً حكيماً. قامت خطوط ألاسكا الجوية بترتيب معايير الخدمة الأربعة الخاصة بها بشكل واضح حسب الأولوية، حيث سبقت السلامة الرعاية في الترتيب، والتي سبقت بدورها التنفيذ، والذي سبق بدوره حسن العرض والتقديم. تقول ستيسي بيكر إن عبارة "الوصول إلى أبعد الحدود وبذل أقصى الجهود" تترجم إلى "الخطوة الإضافية "بالنسبة للعملاء بدون التضحية بالسلامة أو الكفاءة" إذا قمنا جميعاً بأخذ تلك الخطوة الإضافية، فسوف تجتمع تلك الخطوات لتصبح ميلاً".

في النهاية، هناك مجموعة بسيطة من المبادئ، تنمو من غرض المؤسسة وأولوياتها، تساعد الموظفين في الاختيار من بين خيارات معقولة في عملهم اليومي. يمكن أن ينطبق أحد المبادئ على أكثر من موقف ـ فينبغي أن ييسر القرارات في مجموعة مختلفة من السياقات. وعليه، لا ينبغي أن يكون هذا المبدأ فضفاضاً أكثر من اللازم بحيث لا يمكن الحصول منه على أي توجيه حقيقي. لنأخذ عبارة "يجب معاملة جميع الموظفين باحترام". على الرغم من أن هذا هدف يستحق الثناء، فكيف يبدو في الحياة العملية؟ من الأفضل وصف السلوكيات التي تظهر الاحترام، مثل تشجيع الأشخاص على التعبير عن آرائهم بحرية، أو حتى مكافأتهم على ذلك. يمكن أيضاً وضع الأهداف وبنائها من اختيارات العمل، مثل غرس الجهود الإبداعية والابتكارية مع التفكير التصميمي، أو التركيز على احتياجات العملاء الدوليين، أو عملاء السوق المتوسطة.

إذن، بإمكان المبادئ أن تشمل المبادئ التوجيهية الإيجابية اللازمة للعمل والتصرف تماماً مثلما تشمل الحدود التي تخص السلوكيات. وبشكل مثالي، فإن المبادئ، بالإضافة إلى الغاية والأولويات، تخضع بشكل متكرر للتعريف والتطويع والتعديل بفضل الملاحظات والتعليقات التي تأتي من الأشخاص من جميع المستويات في المؤسسة. وبدون هذا، فلن يكون لإطار العمل أي معنى من الناحية العملية، ولن يعكس مصالح الشركة، أو سيفتقر إلى الاتساق والتناغم. احتوت حملة ألاسكا بشأن (افعل الصواب مهما كلف الأمر) كل تلك المشكلات الثلاث.

على النقيض من ذلك، فإن حملة الشركة التي دشنتها عام 2014 اعتمدت على تجربة وخبرة كل من القادة والعاملين في الخطوط الأمامية على السواء، واستفادت بشكل كبير منها. راح فريق الموظفين والمدراء الذين وضعوا بتفصيل غاية ألاسكا وأولوياتها ومعايير الخدمة الأربع الخاصة بها يجتمعون كل بضعة أسابيع على مدار عدة شهور لتحديد المبادئ الخاصة بقطاع الطيران. وأصبح المسؤولون التنفيذيون يتلقون بين الفينة والفينة البيانات والتقارير الموجزة عن ذلك ويقدمون ملاحظاتهم وتعليقاتهم عليها. فعلى سبيل المثال، اعترض أحدهم على فكرة تضمين "أنا ألتزم بالزي الموحد للشركة" كمبدأ داخل معيار "حسن العرض والتقديم"، لأنه من غير الضروري تحديده. ولكن الفريق أصر على أهمية هذا المبدأ التوجيهي، ولذلك ظل ضمن قائمة المعايير.

من الأهمية بمكان الإنصات إلى العاملين في الخطوط الأمامية، حتى عندما تتضارب آراؤهم مع آراء الإدارة العليا. فهذا ما يخلق الرابط بين إطار العمل والممارسة، ويساعد في منحه الشرعية في أعين الموظفين. على الرغم من أنني تصادف واتفقت مع ذلك المسؤول التنفيذي الذي رأى أن ذلك المعيار الخاص بالزي الموحد كان متسماً بقدر من التفصيل أكثر من اللازم، فإن الأمر سيعود للمدراء وللموظفين للتوصل إلى حل هذا الأمر في المحادثات والحوارات المستقبلية حول إطار العمل ـ بعد أن يكونوا قد عاشوا مع الإطار وقاموا بتطبيقه.

عندما أتقابل مع قادة الأعمال، يساعدني أحياناً تزويدهم بأمثلة لتفسير كيفية تمكين الغرض والأولويات والمبادئ للحرية. إنني أشير إلى مجموعة من الممثلين الارتجالين الجسورين المعروفين باسم "شركة شكسبير الارتجالية" (Improvised Shakespeare Company)، تأخذ شركة شكسبير الارتجالية اقتراحات المتفرجين بشأن العناوين (وعادة ما تكون أفكاراً ساخرة، مثل "بنطال المتسول" (Knave's Pantaloons) أثناء العرض)، وهذا يخلق دراما شكسبيرية مصغرة بالنسبة لهم. من الواضح أن الممثلين جميعهم يمتلكون معرفة متعمقة بموضوعات شكسبير وشخصياته ولغته، بالإضافة إلى فهمهم لما يتطلبه الأمر لاجتذاب الجمهور وضمان عودتهم إليهم لمشاهدة عروضهم على الدوام. لقد قاموا بفهم غرض المجموعة وطبقوه بشكل تام إلى أبعد الحدود، وهو (إمتاع الجمهور)، وأولوياتها (أن يتسموا بالمرح والتفاعل)، ومبادئها (يجب أن تظهر المواقف والحوار بنمط وأسلوب شكسبير) لدرجة أنه يمكنهم الارتجال بطريقة مبدعة ومبتكرة إلى حد يصيب المتفرج بالذهول دون التضحية بتماسك الموضوع ووحدته. وبالمثل، في بيئة العمل، يوفر الغرض الحافز، بينما توفر الأولويات والمبادئ المعرفة، وهذه العناصر الثلاثة مجتمعة تدعم حسن اتخاذ القرار بشكل فائق في التو واللحظة.

تنفيذ الإطار

الثقة في الموظفين في تنفيذ إطار العمل ينجح نجاحاً جيداً على وجه العموم. ولكن من المفيد والنافع أن نضع بعض القيود والتوازنات في محلها، تماماً مثلما فعلت شركة النظارات الأميركية "واربي باركر" (Warby Parker) في حقبة الإنترنت.

قبل أن ننظر في النهج الذي انتهجته واربي باركر لعمل ذلك، دعنا ننظر قليلاً إلى خلفية الشركة. شركة واربي باركر شركة تجزئة صغيرة نسبياً، وهي شركة ناشئة ـ في وقت كتابتنا لهذا الموضوع، كانت واربي باركر متواجدة في السوق لمدة سبع سنوات، وهي ما تزال تعمل برأس مال المخاطرة. وعلى الرغم من أنها فتحت أكثر من 60 متجراً لها على الأرض، فهي بطريقة أخرى تشبه شركة نيتفلكس. فهي شركة قائمة على الإنترنت، ولديها برنامج لـ"التجربة والقياس في المنزل"، وقد استخدمت عملية شديدة الانتقائية في توظيف العاملين لديها لزيادة قوة العمل فيها (حيث يعمل فيها حالياً قرابة 1,300 موظف). ويتمتع موظفي الشركة بقدر كبير من الحرية في التعبير عن أفكارهم ومخاوفهم، سواء كان هذا من خلال المشاركة في حوارات صريحة، أو المشاركة في عمليات مراجعة تقييمية من كافة الأطراف (360 درجة)، أو اقتراح مبادرات جديدة.

تماماً كما هو الحال في الشركات الأخرى التي ذكرتُها، توجد حرية الموظفين في نطاق إطار محدد بشكل واضح. يتمثل غرض الشركة في "فعل الخير". على سبيل المثال، من خلال شراكات مع مؤسسات غير ربحية، تضمن واربي باركر أن يتم توزيع نظارة على شخص محتاج مقابل كل نظارة تبيعها. أما فيما يتصل بالأولويات، فقد قامت الشركة بتطوير نظام يقوم فيه أكثر من 30 من كبار المدراء بالتصويت من خلال نظام التغريدات (وهي الأصوات المرجحة على مشروع مقترح من جانب موظف من الموظفين فيما يتصل بالهندسة). كلما زاد عدد الأصوات التي يحصل عليها المقترح الذي يتم التصويت عليه، دل ذلك على حصوله على الأولوية. ولكن من الناحية العملية، تعمل التصنيفات بمنزلة تفضيلات، وليست كأوامر مباشرة. يمكن للمهندسين إغفال الأولويات القائمة على التصويت، وبدلاً من ذلك القيام بالعمل في مشروعات تناسب بشكل أفضل مهاراتهم واهتماماتهم ورؤاهم فيما يتعلق بتحقيق مصالح الشركة على أفضل وجه.

إنه نظام ديمقراطي، ولكنه نظام يتمتع من ينجزون العمل فيه بدرجة من الصلاحية والقدرة على صنع القرار ـ في نطاق حدود واضحة ومحددة. كما أن النظام يخدم الأغراض الوظيفية والفلسفية الأكثر شمولاً واتساعاً، ففي إطار تشجيع أصحاب المقترحات على البحث عن الدعم لأفكارهم، يعزز النظام الحوارات واسعة الانتشار، ويشدد على أهمية مبدأ الشركة فيما يتعلق بتقدير كل من الإجماع على الرأي والاستقلال الذاتي.

بالطبع، يتمثل الجزء الكبير والمهم من عملية التنفيذ في التعلم من الأخطاء. ومع إزاحة الستار عن مشروعات هندسية كبيرة، تعقد شركة واربي باركر حوارات دورية "لتقييم الخطوات التي تم أخذها"مع أصحاب المصلحة ـ بمن في ذلك المدراء ممن يعملون خارج القطاع الهندسي ـ وذلك للوقوف على النقاط التي يمكن تعلمها حول ما هو صواب وما هو خطأ. على سبيل المثال، خلال عملية تجارية للشركة في كندا، ناقش المشاركون السبب وراء عدم إدراكهم إلا مؤخراً، أن إحدى البطاقات البنكية المحلية لم تكن متوافقة مع نظام الدفع الخاص بالشركة. تتم صياغة وهيكلة محادثات وحوارات حول تلك الأخطاء لتغطية ما كان يمكن أن يتم إنجازه بشكل أفضل. وليس هذا فحسب، بل وكذلك التطرق إلى أسئلة مثل "ما هي المسألة التي ما تزال قيد العمل؟ وما الذي ما يزال يربكنا أو يسبب لنا مشكلة؟"ـ حسب رؤية أندرو جايكو، أحد مدراء الإنتاج الفني في شركة واربي باركر.

هشاشة الإطار

في شركات عديدة فإن أطر الحرية (أو الأطر النمطية البدائية ـ بمعنى، الأطر الأقل تطوراً) قد سقطت وتداعت. فما السبب وراء هذا؟

الإجابة المختصرة على هذا السؤال هي أن الإطار، مثله مثل الحرية ذاتها، هش بطبيعته. فهو يحتاج إلى صيانة. لا يمكنك أن تتوقع ديمومة الإطار ما لم تزوده باستمرار بالطاقة. ولذلك، فإن أحد المخاطر الكبرى التي تهدد الإطار هي الإهمال. يجب أن يتوافر لدى الأشخاص إدراك ووعي واضح بغرض الشركة وأولوياتها ومبادئها. في حالة تلاشي أو ضعف هذه العناصر في وعي المدراء أو الموظفين ـ فإن الإطار يكون في خطر. وسوف يحصل ذات الشيء إذا ما قامت الشركة بجلب مجموعة من الموظفين الجدد ـ مثلاً، من خلال عملية دمج أو استحواذ ـ ولم تغرس فيهم المبادئ التوجيهية الخاصة بالشركة وتجعلهم ينخرطون فيها.

هناك مكمن آخر من مكامن الخطر، وهو أن القادة الجدد سيخفقون في دعم الإطار لأنهم لا يدركون قيمته. أو ـ ربما يكون ذلك هو الأكثر شيوعاً ـ قد يتحايل القادة الذين أنشأوا الإطار أنفسهم على الأمر ويقومون عن عمد بنزع بعض الحريات من الموظفين لسبب من الأسباب الآتية:

رد الفعل على الأزمة.

بعد صدمة كبرى، يميل القادة إلى إجراء تغييرات كبيرة، في حين قد يكون الأسلوب الأفضل هو الثبات على الموقف في مسار العمل، مع زيادة تعلم المؤسسة واستفادتها من الدرس. لعل ما قامت به خطوط ألاسكا الجوية من كبت لحرية موظفيها عندما انخفضت العائدات وتدهور الأداء هو مثالاً على ما يسمى تأثير البندول.

رد الفعل على النجاح.

يتبع أحياناً الأداء النابع من الحرية فترة من عدم المرونة. كما حدث في حالة شركة نوكيا. في السبعينيات، قام الرئيس التنفيذي للشركة كاري كايرامو بالتقليل من قيمة الإجراءات الشكلية والعمليات التقليدية لدى الشركة لصالح السرعة والرشاقة في الإدارة، وبهذا دفع الشركة إلى أسواق الإلكترونيات والاتصالات مما ساهم في النهاية في تحقيق مكاسب عظيمة. ولكن، بعد أقل من عقد من الزمان بقليل، بعد أن وصلت الشركة إلى ذروة مجدها، في أواخر التسعينيات، تعرضت نوكيا لتحول نحو البيروقراطية. في بحث أجراه زميلاي في كلية هارفارد للأعمال ـ خوان الكاسر وتارون خانا، وجد الباحثان أنه مع نمو الشركة السريع، لم تتمكن من التكيف مع كافة التحديات في أسواق عالمية مختلفة. وفي حالات كثيرة، تجاهل المركز الرئيسي طلبات كانت ترد إليه من الشركات التابعة، أو جاء رده على تلك الطلبات بطيئاً أكثر من اللازم. وتخلت نوكيا عن حصتها السوقية لصالح كل المنتجات المنافسة المتطورة وغير المتطورة على حد سواء.

الإطار، مثله مثل الحرية ذاتها، هش بطبيعته. فهو يحتاج إلى صيانة. لا يمكنك أن تتوقع ديمومة الإطار ما لم تزوده باستمرار بالطاقة.

أهمية العمليات والإجراءات.

في بعض المؤسسات، تحتل القواعد المتعلقة بكيفية إنجاز العمل قدراً كبيراً من الأهمية، ويكد الأشخاص ويشقون كثيراً دون استقلالية ذاتية أو دون أي فهم لسبب ذلك. حتى في مجالات وقطاعات مثل الرعاية الصحية والصناعات الدوائية، حيث يكون الموظفون في الغالب متشاركين إحساسهم بغاية شركاتهم، فإن الإجراءات يمكن أن تغلب المعنى والمغزى. قال لي نائب الرئيس في واحدة من شركات الأدوية العالمية أن الموظفين الذين يتعاملون مع العملاء مباشرة يحبون ما يفعلونه. "قيمنا تنبض بالحياة"ـ ولكن "المركز الرئيسي للشركة يفرض الكثير من القيود فيما يتصل بالامتثال، والتدريب وقواعد العمل، لتغطية المخاطر لدرجة تجعل عملية التصرف بحرية شبه مستحيلة بالنسبة للموظفين".

بالنظر إلى مصادر الهشاشة هذه، تحتاج الشركات إلى مراقبة آراء وأصوات الموظفين باستمرار، والبحث عن أي علامات تدل على تدهور هذه القوة. هل هناك تنوع حقيقي بين وجهات النظر التي يعبر العاملون عنها؟ هل هناك اختلاف ملحوظ في نوعيات المشروعات التي يضطلع الأشخاص بها؟ حتى أطر الحرية التي تتمتع بأفضل التصاميم يجب تعزيزها من خلال التثقيف، والنماذج التنفيذية، والنقاشات المكثفة التي تجري عقب اتخاذ الإجراءات.

خاتمة

عقب استحواذ خطوط ألاسكا الجوية على شركة طيران "فيرجن أميركا" (Virgin America)، أصبحت الشركة التي كانت في وقت من الأوقات صغيرة وإقليمية خامس أكبر شركة طيران في الولايات المتحدة من حيث عدد الرحلات التي تقوم بها، والركاب الذين تنقلهم. جلبت عملية الدمج 3,000 موظف إضافي، كانوا جميعاً بحاجة إلى تدريب على أسلوب ألاسكا في خدمة العملاء. زاد الاستحواذ من التحدي فيما يتصل بحرية الموظفين. وبحسب رئيس العمليات بن مينيكوتشي: "كيف يمكنني أن أتأكد من أن 20,000 شخص يشعرون بالترابط والتواصل مع الإدارة، وأنهم يتبنون الغرض الخاص بنا؟". ولزيادة الأمور تعقيداً، كان لدى شركة فيرجين إطار الحرية الخاص بها، وكان إطاراً أقل التزاماً بالرسميات. حيث كان لديها عدد أقل من المبادئ التوجيهية الواضحة والصريحة، وكانت قد تجاوزت ألاسكا في مجال تشجيعها للموظفين للتعبير عن شخصياتهم واهتماماتهم في العمل. لقد دفع الاستحواذ شركة ألاسكا إلى إجراء عمليات تنقيح لتبني وتضمين عناصر من غاية شركة فيرجين وقيمها.

يتم حدوث اختبارات الإجهاد، مثل حالة الاندماج بالنسبة لشركة فيرجين، والتوسع السريع في شركة نتفليكس نحو الأسواق الجديدة، والهدف طويل المدى لشركة واربي باركر المتمثل في أن تصبح مؤسسة عالمية. كل هذا حدث على خلفية الحرية الموسعة في الحياة الشخصية للموظفين. إن مفاهيم الحرية تتسم بكونها شديدة الديناميكية. ويجب إعادة تحديدها وتعريفها بشكل مستمر، ويجب أن تتنفس، وتنمو، وتتطور في نطاق احتياجات الشركات التي تتغير بشكل متزامن.

وجميعها تسلط الضوء على أهمية بناء أطر متماسكة وقوية، يمكن الاعتماد عليها لدعم وتعزيز الحرية ودفعها نحو التقدم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي