أعلنت "أمازون" (Amazon) مؤخراً عن إتمامها صفقة شراء شركة "هوول فودز" (Whole Foods) بقيمة 13.7 مليار دولار. ومنذ ذلك الحين، تتواصل التخمينات حول تداعيات تلك الصفقة. هل اشترت "أمازون" شركة "هوول فودز" الرائدة في صناعة وبقالة الأغذية العضوية حتى تتمكن من الوصول الفوري إلى متاجر الأخيرة ومحالها في الأحياء الجذابة؟ هل يرغب جيف بيزوس وفريقه في استغلال فرص البيع المتقاطع الهائلة بسبب أوجه التشابه المفترضة بين زبائن "أمازون برايم" - وهي خدمة اشتراك مدفوعة - وزبائن "هوول فودز"؟ هل هي مناورة حول شركة "وول مارت" (Walmart)، التي كانت تبدو حتى إتمام الصفقة المذكورة مهيئة للسيطرة على سوق تجارة البقالة عبر الإنترنت؟ هل تحاول "أمازون" الاستفادة من الاتجاه المتنامي نحو طلب الوجبات المعدة للطبخ عبر البريد الإلكتروني؟ وماذا عن نهج التسعير في "أمازون" تحديداً؟
الإجابة عن كل هذه الأسئلة على الأرجح هي "نعم". لكن أهم تداعيات عملية الاستحواذ هذه تختبئ وراء مجموعة من العناوين البارزة والمتناثرة في ممرات متاجر "هوول فودز" مثل "الأفوكادو الأرخص"، وأكوام مكبرات الصوت من ماركة "أمازون إيكو Amazon Echo".
في الحقيقة، لقد اشترت "أمازون" في الشهر الماضي مختبراً.
بتعبير أدق، اشترت شبكة تضم 456 مرفقاً ملائماً لاختبار الزبائن (وهو عدد متاجر هوول فودز) يستقبل حوالي ثمانية ملايين "متطوع" كل أسبوع (وهو عدد زبائن متاجر هوول فودز). إذ يرسخ اختبار الأسعار المتواصل الذي تجريه "أمازون" على الإنترنت ميزتها التنافسية. فتتيح لها قاعدة معرفتها التي لا تضاهى استخدام السعر كأداة تواصل وكأداة توظيف وكسلاح نفسي وأيضاً كموجِّه للقيمة بطرق تتجاوز آليات العرض والطلب التقليدية ومنطق الربح والخسارة. والآن، بعد عملية الاستحواذ هذه، ستتمكن "أمازون" من استكمال تلك المعرفة برؤى ثاقبة مباشِرة ومملوكة للشركة حول عالم البيع بالتجزئة خارج عالم بالإنترنت.
إذ تمتد أهمية السعر في استراتيجية "أمازون" داخل "هوول فودز" إلى أبعد من تلك العناوين البارزة البسيطة التي تبشر الزبائن بالحصول على أرخص الأسعار. وإنما سيغيّر ما ستدرُسه "أمازون" الآن في العالم الواقعي بعيداً عن العالم الافتراضي - والأهم من ذلك، ما ستتعلمه منه وكيف ستطبق عليه الأفكار - من نمط البيع بالتجزئة للمستهلكين في الولايات المتحدة. فمن خلال شراء "هوول فودز"، تحصل "أمازون" عملياً على إمكانات لا حدود لها لاختبار المنتجات والخدمات، واختبار نقاط الأسعار والتفاعلات المتنوعة، وإعادة تحديد تصور سعر الأطعمة العضوية والصحية، ودمج تجارب التسوق عبر الإنترنت والتسوق دون إنترنت، وربما تجريب خدمة التوصيل إلى المنازل أو خدمة الشراء بالالتقاط عبر المتاجر على زبائن مثاليين من أوائل المقبلين على هذه الخدمات.
أساسيات نهج التسعير في "أمازون"
وأرى أن استراتيجية أسعار "أمازون" مع "هوول فودز"، المدعومة بالاختبار والتجريب المستمرين، تتطور عبر ثلاث خطوات: تغيير تصور الأسعار، وتنمية سوق الأطعمة الصحية، ثم تطبيق رؤى ثاقبة على قطاعات وخدمات أخرى من البيع بالتجزئة خارج الإنترنت.
تغيير تصور السعر
في الأسبوع الأول وحده، أظهرت الطريقة التي أعلنت بها "أمازون" تغيير أسعارها حجم التطور الذي تستقطبه لمثل هذه التحديات. فقد شاهد المتسوقون ملصقات كبيرة ذات علامة تجارية مشتركة تعلن عن تغيير سعر الكثير من المواد القيِّمة. وتضمنت الملصقات/ بشكل بارز اسم المنتج والسعر (الأعلى) السابق إلى جانب السعر (الأدنى ) الجديد، ومعهم رسالة أسفل الملصق تقول "المزيد آت". إن إدراج السعرين معاً كطريقة مخالفة لنهج "خصم س%" عزز حقيقة أن العديد من التغييرات تجاوزت العتبات الأساسية لنهج سعر "الدولار الكامل". فانتقل سعر الأفوكادو على سبيل المثال من دولارين ونصف إلى دولار و99 سنتاً. وانخفض سعر حليب اللوز من ثلاثة دولارات و99 سنتاً إلى دولارين و99 سنتاً. وتم تخفيض سعر الطماطم الناضجة من دولارين و99 سنتاً إلى دولار و99 سنتاً. وعلى الرغم من أن الأبحاث حول موضوع الأسعار ليست واضحة عالمياً فيما يخص هذه المسألة، إلا أن القوة المفترضة لتقليص هذه العتبات النفسية عالية.
هذه خطوة أولية وأساسية في تغيير تصور نهج التسعير في "أمازون". كما أن عبارة "المزيد آت" هي دعوة ذكية للزبائن للبقاء مستعدين إما لمزيد من التخفيضات في الأسعار، أو لتخفيضات على سلع أخرى. وتتماشى هذه الخطوة مع اهتمام وسائل الإعلام الذي أثارته هذه التغييرات في الأسعار. إن هذا الإعلان ليس مجرد نتيجة ثانوية اعتباطية لجهود "أمازون".
وإنما، في الحقيقة، تحب "أمازون" التحدث عن السعر، بل إنها لا تفوت فرصة لإطلاق نقاش حوله أو المشاركة فيه. وتعكس بيانات الشركة وتقاريرها هذا الأمر، ومن ضمنها هذا البيان الذي يلخصه بإيجاز شديد: "نعتقد أن تقديم أسعار منخفضة لزبائننا أمر أساسي لنجاحنا في المستقبل". لقد شددت شركة "أمازون" في آخر تقاريرها المالية على أهمية الأسعار المنخفضة لديها كمصدر للميزة التنافسية، ونادراً ما تشير إليها كعامل مخاطرة. بل، تشير نصف تلك المراجع الحديثة في الواقع إلى أن المخاطر، كالقيود التنظيمية، قد تؤثر على قدرة أمازون على الاستمرار في تقديم أسعار منخفضة. أما شركة "هوول فودز" فهي العكس تماماً. إذ تحيل أحدث تقاريرها المالية إحالات أقل بكثير إلى السعر، وتشير إلى الأسعار المخفضة ليست فقط كعامل مخاطرة واضح، ولكن أيضاً كأحد العوامل التي ساهمت في تراجعها مؤخراً على مستوى الدخل التشغيلي والدخل الصافي.
لهذا، سيتعيّن على "أمازون" أن تغيّر تصور السعر في المتاجر وفي وسائل الإعلام وكذا على المستوى الداخلي للشركة. وبعبارة أوضح، عندما يبحث الناس مستقبلاً عبر الإنترنت عن كلمتي "هوول فودز" و"السعر" فلا يجب أن يروا أي آثار بعد الآن لسمعة "هوول فودز" المرتبطة بالأسعار المرتفعة، ولا يروا مثل تلك المقالات السلبية الموجودة حول بيعها ماء الهليون مقابل 6 دولارات. وهل توجد طريقة للقيام بذلك أفضل من مواجهة تلك الأخبار السيئة بعناوين مثيرة حول خفض الأسعار ووعود بالمزيد في المستقبل؟
وعلى الرغم من ذلك فإن عمل نهج التسعير في "أمازون" واختباراتها هي مجرد بداية. لقد نجحت أمازون، في عالم الإنترنت، في بناء سمعة قوية لها في الأسعار المنخفضة، وأصبحت وِجهةَ بحث تلقائية عن آلاف المنتجات، دون تقديم أدنى الأسعار بالفعل. وهذا ما كشفته دراسة أخيرة، إذ اختبر زملائي في مكتب "سايمون كوشر وشركاه" (Simon-Kucher Partners) في لندن تلك الفرضية قبل بضع سنوات من خلال دراسة أسعار الكتب. ووجدوا نتائج مثيرة جداً للاهتمام. فبالنسبة إلى قائمة أكثر 100 منتج مبيعاً، قدمت أمازون على مستوى ما يسمى السلع ذات القيمة الرئيسية (KVI) أدنى الأسعار مقارنة بتجار التجزئة الآخرين. لكن بالنسبة لبقية السلع، عرضت "أمازون" أسعاراً أعلى فعلياً في غالبية الحالات.
فإلى أي حد يتعين على "أمازون" تخفيض الأسعار في "هوول فودز"؟ ويكمن التحدي في الفهم الدقيق لحدود التخفيض، وعدد المواد التي سيخفض سعرها، وفي أي المتاجر سيحدث ذلك، من أجل تغيير تصور السعر بشكل إيجابي وتحقيق هدفي أمازون المتمثلين في زيادة الرواج (على سبيل المثال، المزيد من العمليات التجارية) وبيع كميات أكبر من السلع. إن امتلاك أمازون لـ "مختبرات" هوول فودز يحوّل هذا السؤال من سؤال نظري مثير إلى مشكلة قابلة للحل بإجابة مربحة.
لكن، يظهر هنا تحذير مهم، وهو التكلفة. إذ يجب أن نفترض أن التكاليف المنخفضة - سواء في الشراء أو في العمليات - ليست أكبر نقاط قوة شركة "هوول فودز". وقد تطبق "أمازون" جانباًَ من خبرتها العملية واللوجستية البارزة بنجاح، لكن جانب التكلفة لا يزال مهيئاً ليحد من حرية العمل والاختيار في التسعير. وحتى إذا لم تكن "أمازون بحاجة إلى كسب المال من محلات البقالة" كما كتبت صحيفة وول ستريت جورنال (وهو مبدأ لا أقبله)، فإنها لن تستطيع الاستمرار في خسارة المال في محلات البقالة بشكل دائم.
تنمية السوق للأطعمة الصحية
ترتبط رغبة "أمازون" في تغيير تصور أسعار "هوول فودز" ارتباطاً وثيقاً بما يجب أن يكون هدفها الأكبر وهو تنمية السوق لمنتجات "هوول فودز". فهناك فرق بين أن تكون أكبر متجر للأغذية الطبيعية والعضوية في الولايات المتحدة (وهذه بالفعل هي مكانة شركة هوول فودز)، وبين أن تتولى مهمة تحديد مفهوم هذه النوعية من التجارة وتُنميها وتتحكم فيها على المدى الطويل. وإذا أرادت "أمازون" الوصول إلى هذه المكانة وأداء هذا الدور، لن يتعيّن عليها فقط تغيير تصور السعر في "هوول فودز"، ولكن تغيير تصور هذه النوعية من التجارة بأكملها.
إن الشركات ذات الرسالة الهادفة مثل "هوول فودز" غالباً ما تعمل انطلاقاً من اعتقادها بأن جمهورها الأساسي محدود، وأن قدرتها على توسيع قاعدة هذا الجمهور من خلال الدعوة والتبشير تواجه قيوداً عملية. فأين تكمن إذاً حدود جمهور المنتجات الطازجة الطبيعية والعضوية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال أمر أساسي لنجاح "أمازون" التي أصبحت لديها اليوم القدرة على الاختبار وإعادة المعايرة ثم الاختبار مرة أخرى.
ويلعب تصور السعر دوراً رئيسياً هنا. حيث إن هناك تصوراً عاماً بأن الأطعمة العضوية تميل إلى أن تكون أغلى سعراً بكثير من الأطعمة الأخرى. وفي الواقع، تُظهر الزيادة في الأسعار في الحقيقة تنوعاً كبيراً بوجود أغذية عضوية أرخص في بعض الحالات. إذ أظهرت دراسة أجرتها منظمة حماية المستهلكين كونسيومر ريبورتس في 2015، أن فوارق أسعار الأغذية العضوية تتراوح ما بين -13% إلى +303%. كما كشفت دراسة أجرتها وزارة الزراعة الأميركية، في عام 2010، أن النسبة الزائدة في الأسعار تتراوح بين 7% و82% للأغذية العضوية.
فما هي التغييرات اللازمة لتغيير النظرة العامة لهذا النوع من السلع، وما حجمها؟
يبدو أن "أمازون" قد أطلقت تجربة معقدة تتطلب وقتاً طويلاً. وسيتيح الحصول على المعايرة الصحيحة لـ "أمازون" الحفاظ على وفاء الزبائن الحاليين لشركة "هوول فودز"، وتحويل زبائن المناسبات أيضاً إلى زبائن أوفياء. كما يمكن أن تغري أيضاً الزبائن الذين لم يختبروا هذا النوع بسبب فارق الأسعار مقارنة مع محلات البقالة والأغذية المعتادة.
إن ما ينبغي التنبه له هنا هو ما أسميه الطبيعة "الجشطلتية" (ذات التصميم المترابط الأجزاء) لشركة "هوول فودز". فهي تجربة تسوق شاملة وليست مجرد لعبة تسعير. إن فكرة الطعام العضوي - أي الطريقة التي يتم بها إنتاج الأغذية والفواكه وتقديمها - تجد صداها لدى مجموعة معينة من المتسوقين ذوي الوعي والعادات الصحية. فهل سيتأثر هذا الوضع الشامل بتسعير أكثر جرأة؟ هناك حالة دالة - تسير في الواقع في الاتجاه المعاكس - وهي حالة سلسلة متاجر "جيه سي بيني" (JCPenny). فعندما تم تنصيب رون جونسون رئيساً تنفيذياً جديداً للشركة، ارتفع سعر سهم "جيه سي بيني" بنسبة 50%. حيث كان جونسون العقل المدبر وراء تشغيل متاجر آبل (Apple) التي حققت نجاحاً كبيراً. ولقد طبّق استراتيجية رفع سعر البيع ذاتها على متاجر "جيه سي بيني"، التي كان نصف مبيعاتها عادة من عروض التخفيضات. وتوقف جونسون عن هذه الممارسة، وبدأ يعرض منتجات فخمة. ونتيجة لذلك، بلغ سعر السهم 3.99 دولاراً، بعدما كان، في عام 2012، أي عند توليه المنصب، 42.44 دولاراً كحد أقصى. فتمت إقالة جونسون من منصبه. إن الدرس المستفاد من هذه الحالة هو أن إعادة تموقع المتجر بشكل جذري هو مشروع محفوف بالمخاطر. وينطبق هذا سواء على تخفيض أسعار البيع أو رفعها.
وهناك خطر آخر على إستراتيجية "أمازون" الواضحة مع "هوول فودز". ويتمثل هذا الخطر في متاجر التخفيضات الألمانية "ألدي" (Aldi) و"ليدل" (Lidl). فكلاهما يكثفان الاستثمارات في الولايات المتحدة. ويعرف المتسوقون في أوروبا فعلياً التأثير التحويلي الذي يمكن أن يحدثه نمو أعمال هذين المتجرين. ويعد القول إن نجاح هذين المتجرين المختصين في البيع بالتجزئة يرجع إلى أسعارهما المنخفضة تقليلاً من قدراتهما. إذ تمثل شركتا "ألدي" و"ليدل" نظامين رفيعين ومتكاملين. وتمنحهما قوتهما الشرائية وخبراتهما اللوجستية وتكاليف اليد العاملة وتكاليف التشغيل الأخرى مزايا لا يستطيع إلا قلة من تجار التجزئة التقليديين أن يأملوا في منافستها لفترة زمنية محدودة. وليست "أمازون" بالطبع من تجار التجزئة التقليديين.
قد يغرينا ختاماً أن نقول إن أمازون قد بدأت تجربة جريئة. لكن نعت "جريئة" ليس دقيقاً. فاستحواذ "أمازون" على "هوول فودز" يعد خطوة عقلانية ومحسوبة تتيح للشركة التحكم الكامل في بيئة اختبار البيع بالتجزئة المركزة والزاخرة بالزبائن المتحمسين والمتفانين، والواسعة بما يكفي في الوقت نفسه لتزويد "أمازون" بالأفكار التي يمكنها الاستفادة منها الآن حول نهج التسعير في "أمازون" وعلى المدى الطويل في قطاعات أخرى من البيع بالتجزئة. إن القيمة الحقيقية لصفقة شركة "أمازون" لا تكمن في زيادة قاعدة زبائن "هوول فودز"، ولا حتى في الهيمنة لفترة معينة على قطاع البقالة، وإنما تتمثل في ما ستتعلمه الشركة أثناء إنجازها هذين الهدفين.
اقرأ أيضاً: