يسعى العديد من المدراء التنفيذيين والموظفين جاهدين إلى تحقيق التوازن بين متطلبات الفصل بين العمل والحياة الشخصية، ويصارعون لتحقيقه. ويبدو أن إيجاد ما يكفي من الوقت خلال أيام الأسبوع لعيش حياة ذات معنى في المنزل، وفي الوقت نفسه إنجاز المهام الوظيفية التي تحظى بأولوية كبيرة، يجعلك في نهاية المطاف تشعر بالتقصير في الجانبين، فضلاً عن شعورك غالباً بحالة من الصراع والتوتر. وبغية محاولة السيطرة على حالة التوتر هذه، يسعى كثيرون منا إلى تحسين الحدود التي يفرضونها على أنفسهم، حيث نضع قواعد صارمة لتحديد الوقت المناسب لتفقد البريد الإلكتروني والوقت غير المناسب، ومتى يجب أن نأخذ هواتفنا المحمولة معنا ومتى يجب عدم اصطحابها معنا، ومتى يجوز لنا إنجاز بعض المهام الوظيفية في المنزل ومتى لا يكون ذلك جائزاً.
أهمية الفصل بين العمل والحياة الشخصية
صحيح أن أفضل نصيحة لتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية ومنذ زمن بعيد كانت تقول بوجوب إيجاد حدود أكثر صرامة بينهما، لكنّ هناك بحثاً جديداً يشير إلى أن الفصل الصارم من أجل خلق التوازن بين الحياة الوظيفية والشخصية هو ربما يسبب بالفعل مشاعر التوتر لدينا. وبالتالي عوضاً عن ترك العمل في المكتب وترك المنزل عند عتبة البيت، قد يكون الجمع بين الاثنين هو أفضل استراتيجية لتعزيز الصحة والأداء.
لفهم السبب، يجب علينا أن نستوعب مفهوماً يطلق عليه علماء النفس اسم "الانتقال في الدور الإدراكي" (Cognitive Role Transition). فعندما تنخرط بفعالية في أداء دور معين، ولكن تراودك في الوقت ذاته أفكار ومشاعر ذات صلة بأدوار أخرى، فأنت في هذه الحالة تمر بما يسمى "الانتقال في الدور الإدراكي". وغالباً ما تكون هذه الانتقالات سهلة وعابرة (مثل تذكر عيد ميلاد أحد والديك في أثناء وجودك في سهرة مع أصدقائك)، ولكن كلما كان الفصل بين الأدوار أكبر، زاد الانتقال.
كيف تحقق توازن أفضل بين العمل والحياة الشخصية
في أثناء وجودك في مكان العمل، يمكن أن تكون هذه الانتقالات في الدور الإدراكي سبباً لتوترك. عندما تخطر على بالك فكرة على صلة بالمنزل خلال وجودك في المكتب، فأنت تمر بحالة من الانتقال الإدراكي من دور العمل إلى دور المنزل. وحتى لو كان هذا الانتقال عابراً، إلا أنه يمكن أن يستنزف طاقتك وتركيزك المطلوبين لأداء العمل. والأمر ذاته يصح على المنزل: فربما تكونين على مائدة العشاء مع زوجك، وفجأة تلمع في ذهنك فكرة متعلقة بالعمل. وهذا يتطلب منك بذل جهد لكي تطردينها من ذهنك.
بما أن هذه الانتقالات في الدور الإدراكي تتطلب جهداً، فإن معظم النصائح السابقة بخصوص التعامل معها أشارت إلى ضرورة تقليلها إلى الحد الأدنى من خلال فرض حدود صارمة ومنضبطة بين هذه الأدوار. لكنّ باحثين من جامعتي "بول ستيت" و"سانت لويس" خلصوا الآن إلى أن العكس قد يكون صحيحاً – أي أن تمييع الحدود الفاصلة بين الحياة الشخصية والعمل والجمع بينهما قد يساعدنا على التعامل مع الانتقالات في الدور الإدراكي بطريقة أفضل، ويحدّ أيضاً من استنزاف قدراتنا الإدراكية.
وقد شمل البحث، الذي نشر مؤخراً في المجلة العلمية "العلاقات الإنسانية" (Human Relations)، أكثر من 600 موظف شاركوا سابقاً في دراسة عائلية تضمنت مسحاً لأسر الطبقة المتوسطة في جميع أنحاء أميركا تضمّ أبوين عاملين. وقد ركّز الباحثون بقيادة براندون سميت على اللحظات التي أبلغ عنها المشاركون في الدراسة والتي خطرت لهم فيها أفكار، سواء كانت مرتبطة أو غير مرتبطة بالعمل
وقد توصّل الباحثون إلى أن الناس الذين يضعون حدوداً مائعة بين مهامهم العائلية ومهامهم الوظيفية اختبروا عدداً أكبر من الانتقالات في الدور الإدراكي، لكنهم شعروا باستنزاف أقل أيضاً جرّاء هذه الانتقالات. وعلاوة على ما سبق، عندما حاول الناس الفصل بين العمل والبيت في المنزل، كانت التحولات التي شعروا بها في دورهم المعرفي بحاجة إلى مزيد من الجهد، وهو أمر أثر على أدائهم سلباً. كما أن تكرار النوبات بوتيرة أكبر زاد من احتمالية تبنّي الموظفين لاستراتيجيات بهدف الانتقال بين الدورين بقدر أكبر من الكفاءة. ويمكن تفسير ذلك على النحو التالي: نظراً لأن العمل والحياة الشخصية أكثر تكاملاً وتداخلاً وأقل انفصالاً، يسهل على هؤلاء الأشخاص طرد الأفكار المتعلقة بالمنزل من أذهانهم، لأنهم يعلمون بأنهم سيعودون إلى ممارسة الدور المنزلي في وقت قريب. وهذا قد يكون السبب الذي يفسّر لماذا كان الموظفون المشاركون في الدراسة، والذين كانوا يتبنّون حدوداً أكثر ميوعة بين العمل والحياة الشخصية، هم من عانى من اضطراب أقل في الأداء الوظيفي عندما كانت الحالات المتعلقة بالمنزل قد قاطعتهم خلال أدائهم لعملهم. ولكن قد يكون السبب أيضاً هو أن الانتقالات المتكررة في الأدوار بوتيرة أكبر جعلت من السهل على هؤلاء الأفراد طرد الأفكار من ذهنهم بقدر أقل من قوة الإرادة (ربما كان الأمر بسهولة تحريك عضلات أيديهم في تمرين رياضي).
في هذا الصدد، قال الباحثون: "على المدى الطويل، قد يكون من الأفضل ترك خيال الموظفين يندلع، مما يسمح لهم بتلقي المكالمات الواردة من المنزل من وقت لآخر بدلاً من وضع سياسات تفرض حدوداً صارمة وغير مرنة، وهو أمر قد يثنيهم عن تطوير أساليب عملية تمكنهم من التناوب في أداء الدورين". تعني هذه النتائج للشركات وجود مكاسب إضافية من البرامج التي تعتمد على قواعد مرنة في العمل والدوام، مثل تمتع الموظفين بالمرونة في أوقات الحضور إلى العمل والخروج منه، وكذلك السماح للموظفين بالعمل من المنزل. فيما يخص الأفراد، فلا تكتفي الدراسة بالسماح لخيالك بالسرحان في أثناء وجودك في العمل (أو في المنزل)، وإنما تعطيك شيئاً من الصفح والمغفرة، لأنك إذا تركت حياتك الشخصية تتدخّل في عملك، فإن ذلك قد يزيد من إنتاجيتك على المدى البعيد بسبب الفصل بين العمل والحياة الشخصية.