هل نخادع أنفسنا عند الحديث عن الخصوصية على الإنترنت؟

5 دقائق

لقد أدرك علماء النفس الاجتماعي منذ عقود أن العلاقة بين توجهات الإنسان وسلوكه الفعلي علاقة معقدة، إن لم تكن ضعيفة. وهذا الأمر صحيح سواء كنّا على شبكة الإنترنت أو لا. فعلى سبيل المثال، بالرغم من أنك قد تشعر بالانزعاج من الإعلانات الموجهة التي تتبعك في أثناء تصفحك الإنترنت، فهي في الوقت ذاته لم تدفعك لتغيير سلوكك المتعلق بالتسوق عبر الإنترنت. وكذلك الأمر حين اندلعت موجة من الغضب والقلق من قبل العامة بعد قصة إدوارد سنودن وتسريبه بيانات خاصة بوكالة "الأمن القومي" الأميركية، فإننا لم نشهد بعدها تراجعاً في معدلات استخدام الإنترنت، بل إن هذه الحادثة في واقع الأمر لم تزد حتى من نسبة ضبط إعدادات الخصوصية والسرية على وسائل التواصل الاجتماعي بين المستخدمين. فالناس حتى لو قالوا إن لديهم مخاوف تتعلق بأمن معلوماتهم على الإنترنت، فقد لا تكون هذه التخوفات قوية بالدرجة التي تدفعهم للامتناع ولو قليلاً عن الدخول إلى المنصات الرقمية. صحيح أن هناك زيادة في أعداد الأشخاص الذي يستخدمون الشبكات الخاصة الافتراضية، وبرامج حجب الإعلانات، وبرامج حجب التعقب، لزيادة خصوصيتهم على الإنترنت، إلا أنهم لا يزالون يشكلون الأقلية.

وبما أنك تقرأ هذه المقالة، فإننا نفترض أنك قلق نوعاً ما على أقل تقدير فيما يتعلق بخصوصيتك على الإنترنت. إلا أن هنالك احتمالية قليلة بأنك ستجري فعلاً بعض التعديلات لضبط الرسائل التي تردك على البريد الإلكتروني أو التخلص من سجل الكوكيز على متصفح الإنترنت، والتأكد من فعالية أنظمة الحماية على جهاز كمبيوترك أو حذف تاريخ التصفح بشكل دوري. وتقترح بعض الأبحاث التي صدرت في الآونة الأخيرة أنه حتى حين يكون المستخدمون لا يثقون تماماً بأن بياناتهم على وسائل التواصل الاجتماعي آمنة حقاً، فإنهم لا يمتلكون أي نية للقيام بحمايتها أو الانسحاب كلياً من الموقع الذي يستخدمونه. إلا أنه يجدر القول إن النوايا عادة ما تكون مؤشرات ضعيفة على السلوك الذي سيعقبها. فنحن نرى، على سبيل المثال، أن معظم الأشخاص الذين يقولون إنهم على استعداد للتنازل عن جزء من راتبهم من أجل الحصول على وقت أقل أو القيام بأشياء يحبونها، إلا أنه يندر أن يقوم أحد منهم بفعل ذلك. وبناء على ذلك، فإن المسألة الأهم لا تتعلق بما يدعي الآخرون أنهم يرغبون بفعله، بل فيما يفعلونه حقاً على أرض الواقع.

وللتعامل مع هذه المسألة أجرينا تحليل تلوي على 166 دراسة شارك فيها 75,269 شخصاً من 34 دولة، من أجل التعامل مع ما يعرف باسم "مفارقة الخصوصية"، ويقصد بها تلك الحقيقة المحيرة بأن تخوف الناس حول الخصوصية نادراً ما يدفعهم إلى سلوك يتسم بالتحوط والحرص الزائد. وبخلاف الدراسات السابقة، فإن هذا التحليل التلوي قد كشف أن الأفراد الذين يبدون أكثر قلقاً أو معرفة حول الخصوصية هم الذين يستخدمون قدراً أقل من الخدمات عبر الإنترنت، ويعدلون إجراءات أمن المعلومات لديهم بشكل أفضل، كما أنهم يفصحون عن قدر أقل من المعلومات الشخصية. ولكن حين يتعلق الأمر بوسائل التواصل الاجتماعي، نجد مفارقة الخصوصية هذه بأوضح تجلياتها، وذلك لأنه حتى الأشخاص الذين لديهم مخاوف بهذا الصدد يتصرفون بقدر كبير من اللامبالاة، ويفصحون عن بيانات شخصية دون تحفظ وبشكل غير لائق أيضاً، بحيث لا يخفى سلوكهم الرقمي على أحد، سامحين لنطاق واسع من التطبيقات بالدخول إلى بياناتهم. وتشير التقديرات إلى أن حوالي 40% من محتوى موقع "فيسبوك" يكون متاحاً للعامة وذلك حسب الإعدادات الافتراضية (غير الآمنة إلى حد كبير)، وأن إعدادات الخصوصية تنسجم مع توقعات المستخدمين بنسبة 37% من الأحيان فقط. ويظهر بناء على ذلك، أن حجم التخوفات المتعلقة بالخصوصية على الإنترنت ليس كافياً لجعل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أكثر حذراً.

أحد التفسيرات الممكنة لمفارقة الخصوصية هو ما يعرف بتحيز أو أثر الطرف الثالث، والذي يقترح أنه حتى حين يدرك المستخدمون بعض المخاطر المحتملة في وسائل التواصل الاجتماعي، فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بأنهم بعيدون عن هذه المخاطر وأنها قد تؤثر على غيرهم. هذه القدرة على الإنكار قد ظهرت في نطاق واسع من العمليات التي تنطوي على بعض المخاطر، كالتدخين أو قيادة السيارة بسرعة عالية. فليس نقص إدراك المخاطر المرتبطة بهذه الأنشطة هو ما يجعل الأشخاص يصرون على الإقدام عليها، ولكنه ذلك الوهم بأن هذه المخاطر قد تلحق بالآخرين، أما نحن فنكون في منأى عنها.

ثمة تفسير آخر قد يكون أكثر وضوحاً لمفارقة الخصوصية يكمن في التقييم الساذج للمخاطر والمنافع. فمعظم الناس يفضلون طبعاً الشعور بالأمن والحماية في أثناء تصفح الإنترنت، ولكن المنافع المتصورة لاستخدام المواقع المجانية والإفصاح عن المعلومات الشخصية يفوق المخاطر المقابلة. وقد أظهرت الدراسات العلمية أن معظم الناس يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق بعض الاحتياجات النفسية الأساسية، كالحاجة إلى التواصل مع الآخرين، وبناء القيم والهوية والتعبير عنها، بالإضافة إلى الحاجة للتسلية. ولو قدمنا للمستخدمين خيار دفع رسوم معينة للتطبيقات المجانية والخدمات الأخرى التي يستخدمونها عبر الإنترنت مقابل الاحتفاظ بجميع البيانات الشخصية، فإنهم على الأغلب لن يقدموا على هذا الخيار، وسيفضلون أن يكون الدفع عبر بياناتهم الشخصية.

ولأن تخوف الناس حول الخصوصية لا يترجَم إلى سلوكيات لحماية تلك الخصوصية، فإنه من السهل تصور مستقبل يصبح فيه كل شيء نقوم به على الإنترنت جزءاً من سمعتنا في الحياة اليومية العامة. بل إن سلوكنا الرقمي صار يُستخدم الآن لاستنتاج أدق سماتنا الشخصية؛ فهنالك دراسة أجريت عام 2013 على 58 ألفاً من مستخدمي موقع "فيسبوك" (تطوعوا للمشاركة في الدراسة)، تمكنت حينها بدقة من توقع النوع الاجتماعي، والعرق، والعمر، والدين، والتوجهات السياسية، ومستوى الذكاء، وبعض العادات الأخرى كالتدخين، بالإضافة إلى تفاصيل تتعلق بالأسرة، كمعرفة ما إذا كان والدا المشاركين مرتبطين أم مطلقين. كما تمكن الباحثون من توقع بعض السمات الشخصية إلى حد ما، كتحديد ما إذا كان المشارك ذا شخصية مرحة أو منفتحة أو مستقرة عاطفياً أو مسؤولة أو لطيفة.

فإن كان من الممكن استخلاص هذا القدر من المعلومات الآن، فهل من الصعب أن نتصور في المستقبل أن تقييمنا لخدمات شركة "أوبر" مثلاً قد تستخدم لاستنتاج معلومات عن مدى لطفنا كأشخاص أو تحديد مستوى ذكائنا العاطفي، أو استخدام تفضيلاتنا على موقع "سبوتيفاي" أو شبكة "نتفلكس" لتحديد مقدر ما نتمتع به من فضول أو انفتاح على التجارب الجديدة. أليس من الممكن مثلاً استخدام تاريخ تسوقنا في موقع مثل "أمازون" من أجل تحديد مستوى نزواتنا أو وعينا وانضباطنا؟ بل حتى الكلمات التي نستخدمها في "تويتر" مثلاً، أو الصفحات التي تعجبنا في "فيسبوك"، أو المواقع التي نزورها باستمرار، وحتى طبيعة أصواتنا، يمكن أن تحوّل إلى تحليل نفسي تفصيلي لأنماط شخصياتنا. ولا شك أن الاستفادة التجارية من هذه البيانات لا يقتصر على عالم التسويق فقط؛ فشركات التأمين والخدمات المالية ومواقع التوظيف والمواعدة كلها مهتمة بهذه البيانات. فالعديد من هذه المنصات الإلكترونية لم تكن لتطلق أساساً أو تحصل على التمويل لولا تلك الفرصة المتمثلة بالاستفادة المالية من بيانات المستخدمين الشخصية، وهو ذلك الثمن الذي ندفعه لأي أمر مجاني نستخدمه. بالإضافة إلى أن هنالك العديد من المخاطر المحتملة (والمسائل الأخلاقية) المرتبطة بانتشار ظاهرة تحليل البيانات الشخصية، تبدأ من الاختراق والتمييز وصولاً إلى تزايد رقابة المؤسسات على الأفراد، في حالة أشبه بتلك التي رواها جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984". ولا بد أن نذكر أن هنالك اختلافاً شاسعاً بين ما يمكن للشركات فعله وما يجدر عليها فعله.

لقد بيّن واحد منّا (ناتالي) في كتاب صدر مؤخراً بخصوص الجانب النفسي من الإقناع على شبكة الإنترنت أنه على الرغم من أن البيانات المستهدفة قد يكون لها أثر إيجابي على قصد الشراء، فقد يكون لها تكلفة خفية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالممارسات التي تتسم بقدر أكبر من الاقتحامية. وتدعى هذه التكلفة الخفية "المفاعلة النفسية"، وتشير إلى الحالة من العزوف العاطفي تصيبنا كنتيجة لتهديدات نتصور أن تمس حريتنا واستقلاليتنا. إنها هذه الظاهرة التي تبدأ على سبيل المثال حين نتلقى إعلاناً عشوائياً من علامة تجارية لا نعرفها، ولا نثق بها، ولم يسبق لنا أن اشترينا منها. فيجب على المتاجر والتطبيقات ممارسة شيء من الانضباط حين يتعلق الأمر باستخدام بيانات المستهلكين، أي إن عليهم أن يقاموا إغراء الإفراط في استخدام هذه البيانات. فلو قام موقع فيبسوك مثلاً أو أمازون أو جوجل بالمبالغة في استغلال البيانات التي لديهم فإن هذا قد يؤثر سلباً على ولاء المستخدمين لهذه المواقع.

لقد كان الروائي غابرييل غارسيا ماركيز قادراً على استشراف هذه المسألة التي تقع في صميم الجدل الدائر حول الخصوصية اليوم حين قال: "حياة كل إنسان تدور في عوالم ثلاثة: عامة، وخاصة، وسرية". فهنالك حياتنا العامة، وهي ما نقوم به طوعاً ونتشارك به مع الآخرين في نطاق واسع من السياقات الاجتماعية. وهنالك الحياة الخاصة، والتي نفصح عنها بتردد أحياناً آملين ألا تكشف تماماً للآخرين أو لأولئك الذين يجب ألا يروها. وهنالك أخيراً حياتنا السرية، وهي ذلك الجزء من حياتنا، حتى هذه اللحظة على الأقل، الذي لا يرتبط بالإنترنت. ولعلنا نتساءل الآن ونقول: هل بقي لدينا حقاً ما يمكن أن نصفه بأنه "حياة سرية"؟

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي