كيف تحوّل البنوك علاقات العملاء من المكاتب الفرعية إلى شاشات الهاتف المحمول؟ لماذا يتم تنظيم شركة سلع استهلاكية متعددة الجنسيات حسب الفئة، في حين يتم تنظم شركة أُخرى حسب المنطقة؟ ولماذا تقوم شركة تأمين بالتغلغل عميقاً في عملية تحوّل سلسة بينما تقوم شركة أُخرى بتجريبها فقط على جوانب ثانوية من أعمالها؟
يعتمد نجاح أي شركة في صراعها مع تطوير استراتيجيتها، على مطابقة نموذج التشغيل لتلك التطورات واعتماده على سلامة الاستراتيجية نفسها. وسواء أعادت الشركة صياغة نفسها من جديد أو سعت إلى تحقيق النمو من خلال التوسع أو تحولت إلى شراكات أو عمليات اندماج وشراء، فإنّ الفجوة بين ما تقول أنها تقدمه للزبائن وما تقدمه بالفعل هي عادة نتيجة لعدم الإعداد الكافي لنموذج التشغيل ليقدم الاستراتيجية المطلوبة.
يُعتبر "نموذج التشغيل" (أي كيفية تنظيم الشركة لمواردها وإدارتها لتحقيق طموحاتها الاستراتيجية) الجسر بين الاستراتيجية والتنفيذ. ليس من الجديد قول أنّ الهيكل التنظيمي يتبع الاستراتيجية، فقد ذكر مؤرخ الأعمال التجارية ألفريد تشاندلر هذه العلاقة عام 1962 في كتابه الاستراتيجية والبنية. ولكن كيف يمكن للشركات اليوم إنشاء نموذج تشغيل أو تحديثه ليتناسب مع عمليات التكيف أو التغييرات الكلية في الاستراتيجية؟
لا يقتصر تصميم نموذج التشغيل الجيد على بعض الخطوط والصناديق أو الامتدادات والطبقات في المخطط التنظيمي، بل يتجاوزها بمراحل عديدة. فهو يشمل نقاط المساءلة. أي من لديه صلاحية تحديد الربح والخسارة؟ من يمتلك في هذا المخطط التنظيمي صلاحية اتخاذ القرارات؟ يتطلب انتقال الشركات إلى نماذج تشغيل أكثر مرونة للموازنة بين المساءلة والاستقلالية. ويتطلب نموذج التشغيل الجديد أيضاً هيكلاً للحوكمة ونموذجاً للقيادة حتى يعرف القادة كيفية ممارسة الرقابة التشغيلية وإلهام الموظفين، وكيفية تحملهم لمسؤولية القيام بالأمرين معاً. ما يعني اختيار لوحات التحكم الصحيحة، وتحديد المقاييس الأكثر أهمية وتحديد كيفية تطبيق التخطيط الطويل المدى وتخصيص الموارد وإعداد الميزانية. وبما أنّ العنصر البشري يشكّل العنصر الأكثر أهمية في نهاية المطاف، يجب أن يحدد نموذجك التشغيلي كيفية إدارة المهام والمسارات المهنية لمواهبك المميزة.
والأهم من ذلك، يجب أن يحدد نموذج التشغيل طرق العمل والسلوكيات التي تُفعم استراتيجية شركتك بالحياة. فإذا كان وعد شركتك لعميلها هو تأمين أدنى التكاليف، فهل يركّز الجميع على التحكم بمسألة التكلفة؟ وإذا كانت سمعتك مبنية على روعة الخدمة، فهل يتفق الجميع، وليس الخط الأمامي فقط، بل حتى وظائف المكاتب الخلفية مثل المحاسبة أو الدائرة القانونية أو المشتريات على كيفية تأثير هذه الخدمة على تجربة العملاء؟ وما هي السلوكيات الاحترافية التي لا يمكن التنازل عنها، وكيف يمكنك التأكد من تمكينها وتعزيزها؟ ما هو النهج الذي تتبعه في التعامل مع المخاطر، والتجريب، والاختبار والتعلم؟
وأخيراً، هل يدعم نموذج التشغيل المهمة الاستراتيجية للشركة مع مراعاة الجمع الصحيح بين الموظفين، والعملية، والتكنولوجيا، والأدوات؟ هل تركز النفقات التشغيلية والنفقات الرأسمالية على هذه الأولويات من أجل بناء قدرات متباينة تنافسياً؟
لا يُعتبر أيّ من هذه الأسئلة سؤالاً سهلاً. انظر إلى المصارف التقليدية، التي تقدّر شركة "غارتنر" أنها تنفق ما يصل المتوسط الخاص به إلى حوالي 66% من ميزانيات تكنولوجيا المعلومات لديها للحفاظ على نظم تكنولوجيا المعلومات القديمة مقابل 22% فقط لتنمية الأعمال و 12% لتحويلها. إذ بعد مرور عقد على الأزمة المالية العالمية، ما تزال العديد من تلك المصارف عازفة عن المخاطرة، كما أنّ مجمعات المواهب الموروثة لديها والعمليات وأنظمة تكنولوجيا المعلومات غير ملائمة لإجراء تغيير كبير.
ومع ذلك، على هذه المصارف التقليدية أن تتغير. فيجب أن تحسم أمرها لتقرر فيما إذا كانت تركز على "التصنيع" (خلق المنتجات)، أو "التوزيع" (إدارة القنوات وعلاقات العملاء)، أو مزيج من الاثنين؟ ويتوجب عليها تحديد كيف تضمن إشراف شخص ما على تجربة كل عميل من العملاء لتكون "رحلة" شاملة من البداية إلى النهاية؟ قررت "سيتي بنك آسيا"، التي تتمتع بمركز قوي لولاء العملاء في معظم أسواقها، تغيير نموذجها التشغيلي لمضاعفة الاهتمام بعلاقات العملاء لمواجهة المنافسين المحليين. ومن بين العديد من الخطوات التي اتخذتها في هذا المضمار، عززت دور رؤساء قطاعات العملاء، ما منحهم صلاحية الإشراف على المنتجات والقنوات لهذه القطاعات. كما وضعت فريقاً مكلفاً بتأمين تجربة ممتازة لكل شريحة من شرائح العملاء. وفي الوقت نفسه، تحولت المصارف التي تركز على المنتجات إلى إبرام شراكات. إذ أقام "بنك الصين" و"دويتشه بنك" منصة استضافة للمدفوعات المحلية والدولية. وانضم آخرون إلى شركات تكنولوجية تدعم الخدمات المصرفية والمالية، مثل شراكة "جيه بي مورغان تشيس" مع "أونديك" للموافقة على تمويل قروض الأعمال الصغيرة في غضون يوم واحد فقط.
لا مفر من هذه الشراكات في القطاع المصرفي، ولكنها تشكل تحدياً للمصارف التي لا تتمتع بما يكفي من السيطرة على العنصر البشري وتكنولوجيا المعلومات في مجال تقديم الخدمات لعملائها. عندما يعمل موظفو شركة التأمين في فروع أحد المصارف ويستخدمون "أجهزة التابليت" التي تجمع بيانات العملاء، يفتح هذا الترتيب آفاق إقليم جديد أمام الشركة. ما يمكّنها من متابعة أمور هامة كتحديد من يشرف على العلاقة مع كل عميل؟ ومن المسؤول عن الامتثال التنظيمي؟
ومن الأخطاء الشائعة التي ترتكيها العديد من الشركات عندما تتصدى لهذه المسائل المعقدة، والتي غالباً ما تتعلق بسياسية الشركة، أنها تلج مباشرة في إعادة تصميم مفصلة لنموذجها التشغيلي، وتغيب عنها الأهداف الاستراتيجية.
لابد أن تبدأ إعادة تصميم نموذج التشغيل الخاص بك من إعداد مخطط أولي يستند إلى بعض المبادئ الأساسية. أولاً: الاتفاق على النقاط الهامة حقاً لتنفيذ الاستراتيجية الخاصة بك. إذ أنّ نموذج التشغيل الذي يساعد شركتك لتكون جيدة في كل شيء هو أمر محكوم عليه بالفشل.
يجب أن تكون شركتك ممتازة في بعض الأمور، ويكفي أن تكون متوسطة فقط في الأمور الأُخرى. يحوّل الاتفاق الصريح على القدرات التي تهم حقاً ما قد يكون نقاشاً ذاتياً ومشحوناً بالعاطفة بين أفراد فريق القيادة إلى حوار قائم على الحقائق. وهذا أمر ضروري بشكل خاص في الشركات التي تم توجيهها للتميز الوظيفي في كل مكان.
وتشترك المبادئ الفعالة في جميع الصناعات والبلدان بثلاث خصائص.
أولاً، تستند هذه المبادئ إلى الحقائق من أجل تحقيق تلك الموضوعية المطلوبة. إذ تشجع المبادئ المستندة إلى استراتيجية قائمة على الواقع مسائل النزاهة وتسليط الضوء على الثغرات وفرض خيارات صعبة.
ثانياً، تُعتبر محددة بما يكفي لمساعدة الإدارة العليا على إجراء مقايضات. وكان أحد المدراء التنفيذيين قلقاً من عمومية بعض المبادئ التي وضعها فريق المدراء لديه بحيث لا تساعدهم على تقييم خيارات نماذج التشغيل المختلفة. وتساءل: "هل يمكن لأي من هذه المبادئ أن يسري على قدم المساواة في شركة إنتاج طعام كلاب كما يسري على شركتنا؟". لا تحمل العبارات العامة مثل "مقياس الرافعة المالية" أو "إنشاء شركة فعّالة سلسة العمل" في طياتها تفسيراً واضحاً. على سبيل المثال، بالنسبة إلى صناعة الملابس والمعدات الرياضية، تتضمن العبارة العامة "تحسين التعاون عبر الفئات المختلفة" توجيهاً أقل فائدة من "تسهيل عملية تسليم الملابس والأحذية المتناسقة من الرأس إلى أخمص القدم فالمتاجر في الوقت المناسب لهذا الموسم".
ثالثاً، تبقى المبادئ الفعالة موجزة. ويمكن إيجاز أفضل مجموعات المبادئ في صفحة واحدة. أما إذا تجاوزت 10 صفحات أو نحو ذلك، فمن الأفضل تحديد الصفحات التي تحمل أهمية بشكل كبير.
وبمجرد أن يتم تطوير المخطط الأولي، لا يقتصر تركيز أفضل المدراء التنفيذيين على المسائل الهامة فقط، بل على الأفراد والفرق التي تلعب دوراً هاماً أيضاً. فهم يتأكدون على صعيد الأفراد من أنّ المواهب القادرة على تحقيق فارق ملحوظ تحتل المناصب الحساسة لإنجاز المهمة المطلوبة. إنهم يتأكدون من أنّ المعارك الأكثر أهمية يُعهد بها إلى فرق رشيقة ومتعددة الوظائف مع تزويدها بالصلاحية والدعم الحقيقيين. نُشير إلى هذه المبادرات المنفصلة التي تركز على العملاء باعتبارها "معارك صغيرة" يمكن تطبيق دروسها الرئيسية المستقاة على أجزاء أُخرى من العمل.
وأخيراً، نحثّ الشركات على عدم إغفال الهدف الأساسي من التصميم التنظيمي الجيد: وهو الصراع البنّاء. يتمتع الرؤساء التنفيذيون الذين قاموا ببناء نماذج تشغيل فعالة بحدس حقيقي حول تصميم الصراع الإبداعي في نماذجهم التشغيلية، فضلاً عن وسائل حل هذا الصراع بكفاءة وفعالية. وغالباً ما ينجم عن ذلك نتائج ملهمة وإبداعية للعملاء والموظفين وأصحاب المصلحة الآخرين. كان يردد أحد المدراء التنفيذيين الذين عملت معهم ذات مرة بأنّ القرارات التي يتم اتخاذها دون مناقشة أو اتفاق والتي تتم دون مواجهة صراع تكون "في كثير من الأحيان ممتعة، ونادراً ما ينجم عنها نتائج مرضية، ويستحيل أن تكون قابلة للتحويل ليتم تنفيذها على أصعدة أُخرى".
إذا لم يكن نموذج شركتك التشغيلي قادراً على تحقيق استراتيجيتك، أو كان يحتاج إلى ترقية ليتناسب مع تطور تلك الاستراتيجية، فلا تبدأ بإعادة التصميم مع فريق القيادة الخاصة بك عن طريق الغوص في التفاصيل، بل عن طريق الارتقاء نحو الصورة البانورامية والاتفاق على بعض المبادئ الأساسية. فالوضوح والبساطة هي كلمات السر في هذا المجال.