لماذا يجب ألا تدخل في منافسة مع الآخرين

4 دقيقة

قبل سنوات عديدة وعندما كنت لا أزال أعمل مع مجلة فورتشن، وجّهنا الدعوة إلى وارن بافيت لحضور غداء عمل مع هيئة التحرير في المجلة. وقد تحدّث هذا المستثمر العظيم بطريقة محبّبة وودودة جرياً على عادة أهالي الغرب الأوسط الأميركي وبسعادة كبيرة عن استحواذه على صحيفة "ذي بوفالو ايفنينغ نيوز". وأكثر فكرة كانت تثير إعجابه هي أنها كانت اللاعب الوحيد في البلدة التي باتت في نهاية المطاف تضمّ جريدة واحدة فقط. فما كان مني إلا أن استجمعت شجاعتي وقلت له وهو الذي يتحدّر مثلي من ولاية نبراسكا: "يا إلهي يا وارن.. لا يبدو بأنك تحبّ المنافسة كثيراً!" نظر بافيت إليّ وأجاب بكل ودّ: "كلا يا والتر. أنا لا أحبّها على الإطلاق. ولا أعرف أي رجل أعمال جيّد يحبّها".

وفي كل الإعلانات والتصرّفات اللاحقة التي قام بها حكيم مدينة أوماها وارن بافيت، كان واضحاً تفضيله للشركات والمشاريع التي "تعمل في جزيرة منعزلة"، أو تلك التي تعمل في قطاع احتكاري، أو العلامات التجارية القوية جداً والتي تقيه من ضرورة المواجهة الدائمة مع المنافسين المحتملين المشتتين. والعبرة هنا تبدو واضحة: إذا كان بوسعك تحاشي المنافسة، فإنّك يجب أن تفعل كل ما بمقدورك لتجنّبها.

وقد أبلى وارن بافيت بلاء حسناً عندما يتعلّق الأمر بالتزامه بنصيحته الشخصية. لكن هذه الميزة تُعتبر ترفاً ليس متاحاً لجميع الشركات ولا حتى لمعظمها. وهناك كمٌّ كبيرٌ من الكتب والمقالات التي تملأ مكتبات ضخمة وهي تنصح القرّاء بتجنّب الدخول في منافسة محتدمة ستقود إلى امتصاص كل الأرباح، ولا بدّ من القول بأن النصيحة التي تقدّمها هذه الكتب والمقالات في غاية الأهمية. لكنني سأمضي خطوة إضافية إلى القول بأن تحاشي المنافسة هو شرط، لا بل هو ذهنية، يتعيّن على المزيد من الناس أن يتطلّعوا إلى تبنّيها. فالإفراط في التركيز على هزيمة هذا الشخص أو ذاك هو أمر مؤذٍ لنفسيتك وصحّتك المعنوية بقدر ما هو مؤذٍ لشركتك.

تعود المقولة الإنجليزية الشهيرة "الأقران يبغضون بعضهم بعضاً" إلى القرن الخامس عشر على الأقل (وقبل فترة طويلة من استعمال شكسبير لها وإضافة عبارة "وتنبعث منهم روائح كريهة أيضاً" عليها). ولكن مع تنامي وسائل الإعلام الجماهيرية (التي تضع ترتيباً لكل شيء من الجامعات إلى المشروبات إلى الأطباء)، ووسائل التواصل الاجتماعي، والبرمجيات الخاصّة بإدارة القوى العاملة، فإن روائحهم الكريهة قد تكون أكثر كراهة. ويصحُّ هذا الأمر تحديداً عند تطبيقه على الناس، عندما تميل هذه الوسائل إلى التصغير من شأن الآخرين، وتضليل الجمهور، والإيذاء، وعندما يكون الحديث عمّن يجري المقارنة أكثر من الحديث عمّن تجري المقارنة بينهم. فما هو عدد الرابحين الحقيقيين الذين يقسّمون العالم إلى "رابحين وخاسرين"؟

وبصورة مشابهة، إذا كانت شركتك وموظفوها يأخذون المنافسة على أنها الأولوية الأولى بالنسبة لهم، فإنهم سيقعون فريسة للهوس بإجراء المقارنات مع الآخرين – كالمقارنة بين حصّتكم السوقية والحصة السوقية لمنافسيكم، وتكاليفكم في مقابل تكاليفهم، وجودة بضائعكم في مقابل جودة بضائعهم. صحيح أن من الجيّد معرفة هذه الأشياء كلّها، والتي قد تكون منارة ترشدكم إلى التصرّفات التي يجب أن تقوموا بها، ولكن إذا ما أُخِذتْ هذه الأمور بذاتها فقط فإنها لا تؤدّي الغرض منها. فهل دخلت أنت أو مؤسسي شركتك إلى الشركة لتأخذوا حصّة، ولتخفضوا النفقات، ولكي تفضحوا أمر الآخرين؟ ما يأمله المرء - ويعتقد بأنه حاصل في حالة الشركات الفضلى - هو أن هناك طموحات أخرى، ورغبات أخرى، وشكلاً آخر من أشكال الفضول المعرفي تحرّككم، كأن تصنعوا ألذ شطيرة برغر في العالم، أو أن تصنعوا أفضل جهاز طبّي، أو أن تصمّموا أفضل هاتف ذكي، أو أن تقدّموا أفضل مشورة ممكنة إلى الزبائن. فهذا النوع من الطموحات يقتضي عادة التركيز على الزبائن والعملاء والمستخدمين المحتملين لمنتجاتكم، والانهماك في التركيز على الأشخاص الذين يمكنكم خدمتهم، وليس هزيمتهم. وأي من الشعارين التاليين سيساعدك في تحفيز أفضل الموظفين لديك وأكثرهم إبداعاً على العمل والعطاء: "نحن نستطيع صنع شيء عظيم" أم "اقتلوا الأعداء"؟

وليس الوضع أفضل، لا بل قد يكون أسوأ، عندما يكون الحوار داخلياً بحتاً، كأن يقول الواحد منّا لنفسه: "لماذا لا أستطيع أنا أن أقدّم أداءً أفضل من زيد أو عمرو؟ ما هي مشكلتي بالضبط؟" وقلّما يكون هناك نقص في الإجابات عن هذا النوع من الأسئلة. بيد أن المشكلة تكمن في أن هذه الإجابات – وهي مُتعبة جداً في الغالب – تظلّ هي ذاتها، ولا تكون نابعة من الوقائع التنافسية الحالية وإنما من بعض الأصوات الداخلية المقيتة التي نحملها معنا في أعماقنا منذ الطفولة. فالتحريض على هزيمة الآخرين غالباً ما يقود إلى هزيمتك لنفسك أو لموظفيك. فإذا ما صحت قائلاً "أيها الفريق" وأرفقتها بتنهيدة أسىً عميقة أو تكشيرة غاضبة، "لا أستطيع أن أصدّق بأنّكم قد خسرتم المبيعات لصالح أولئك الشياطين في شركة زورك كورب." فإن الرسالة الضمنية التي ترسلها هنا هي: "أنتم أشخاص خاسرون وسيئون مقارنة مع تلك المجموعة من الأفراد المبدعين في الشركة الأخرى".

كتب المحلل النفسي البريطاني آدام فيليبس مؤخراً مقالاً في مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس"، يحمل عنواناً بسيطاً "ضد النقد الذاتي". وقد استحضر هذا المحلل الفرويدي، التقسيم الثلاثي الذي وضعه سيغموند فرويد الأب المؤسس لمدرسة التحليل النفسي للنفس البشرية إلى الهو (وهو مستودع الطاقات الغريزية)، والأنا الأعلى (الذي يجلس فوق الجميع مُبتهجاً أو مُستهجناً)، والأنا (القابع بين الاثنين، ويحاول يائساً التوسّط بينهما وبين العالم الخارجي). ويذكّرنا الكاتب بأن الأنا الأعلى مؤلّف من جزأين، الضمير (العقابي، النقدي، والذي ينقّ علينا) والأنا الأعلى المثالي (الذي يحمل صورة كلّ التميّز الذي قد نصل إليه يوماً).

ولكي نبسّط ما يقوله فيليبس قليلاً فإن المشكلة في الإصغاء الزائد عن اللزوم إلى صوت الضمير تكمن في أن الحديث يصبح مملاً بسرعة كبيرة – لأنه النقد القديم ذاته المُحبط للمعنويات والذي يضرب على أعصابنا مثل البروباغندا الدعائية. فهو لا يُخبرك بأي جديد.

وهذا بالضبط الخطر الذي يتسبّب به التركيزُ المجنون على المنافسة للشركة. فذهنية العمل في الشركات الكبرى تستسلم لمقولة "لماذا نواصل الإخفاق؟" – والتي تقطع مسيرتها ربما نوباتٌ تساويها في اللاعقلانية تنتابكم في حال تحقيقكم للانتصار. لكنّ العبرة التي لا ينتبه إليها أحد أثناء ذلك هي ما تُعبّر عنها المقولة التالية: "يا إلهي.. يبدو أنّ هؤلاء الشياطين في شركة زورك يقومون بشيء مثير للانتباه. فما الذي بوسعنا أن نتعلّمه منهم؟" أو "وضعنا لأنفسنا عند انطلاقتنا هدفاً بأن نصنع أفضل أحزمة صناعية في العالم. فما الذي بوسعنا أن نفعله اليوم لكي نقترب أكثر من هذا الهدف؟"

وفي هذا السياق، لماذا لا نصغي إلى ما يقوله "فيلسوف الإدارة" المرموق ساتشيل بايجيه في واحدة من أشهر مقولاته "لا تنظر إلى الخلف. لأن ذلك قد يبطئك عن التقدّم مقارنة بالآخرين" وقد تكون توصية أخرى منسوبة إليه أكثر أهمية في هذا السياق: "اعمل وكأنك لا تحتاج إلى المال. حبّ الآخرين وكأنك لم تتعرّض إلى الأذى في حياتك أبداً. ارقص وكأن لا أحد يراقبك".

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي