أينما نظرت تجد حولك دليلاً قاطعاً يقول لك إن السعي الحثيث وراء الثروة، غالباً ما يقود الأشخاص الأذكياء إلى القيام بتصرفات غبية، ويدفعهم إلى تصرفات تدمر ما لا يمكن شراؤه بالمال.
كانت القضية الأكثر انتشاراً هي قرار إدانة راج راجاراتنام (Raj Rajaratnam)، في 14 قضية تداول غير مشروع في خطة مدفوعة بالجشع ستدمّر سمعة أصحابها أو تودي بهم إلى السجن لفترات طويلة، أو الاثنين معاً، هو ومدراء كبار في شركة "آي بي إم" (IBM)، و"ماكنزي" (McKinsey)، وشركات كبرى أخرى.
وقبل بضعة أسابيع من هذه القضية، انتشرت قصة الاستقالة والإهانة التي لحقت بديفيد سوكول (David Sokol)، من شركة "بيركشاير هاثاواي" (Berkshire Hathaway)، الذي كان من المتوقع أن يخلف الرئيس التنفيذي وارن بافيت (Warren Buffett) في منصبه، وهو أمر لن يحصل الآن بسبب جشعه الذي تمثل بإجراء استثمارات مشبوهة بتوقيتها في أسهم شركة "بيركشاير".
وعرضت قناة "آتش بي أو" (HBO)، فيلماً مقتبساً عن الكتاب الذي حقق أعلى المبيعات بعنوان: "أكبر من أن تفشل" (Too big to fail)، وهو سرد مفصل لأحداث نكسة الرهونات العقارية عالية المخاطر، والتي كانت جشعاً جماعياً اقترب كثيراً من تدمير العالم الذي نعرفه.
في كل مرة أقرأ أو أرى هذه المواضيع، أسأل نفسي الأسئلة نفسها: كيف يمكن لأشخاص لامعين يملكون من المال أكثر بكثير مما يحتاجونه، أن يسمحوا لجشعهم وطمعهم أن يتسبب لهم بخسارة كل شيء؟ كم من المال يريدون، ولمَ يتحمل الناس مخاطر كبيرة لربح المزيد؟ وإذا كان المال مغرياً إلى هذا الحد فلماذا لا نرى العديد من أصحاب الثروات سعيدين في حياتهم؟
وأول ما يخطر في بالي للإجابة عن هذه الأسئلة، العودة إلى صفحات كتاب صغير نُشر قبل 20 عاماً بعنوان "المال ومعنى الحياة" (Money and the Meaning of Life) كتبه جاكوب نيدلمان (Jacob Needlemen)، أستاذ في الفلسفة في "جامعة سان فرانسيسكو" (University of San Francisco). التقيت نيدلمان مع انطلاق ثورة الإنترنت عندما كان كثير من الأشخاص في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم يحققون أرباحاً طائلة أكبر بكثير مما حلموا به، وكانوا يحاولون استيعاب ما يعنيه ذلك لهم.
ومنذ ذلك الوقت انتشرت قفزة الأسواق المالية على نطاق واسع، وفقاعة السوق العقارية، وطفرة الإنترنت الثانية، وغيرها الكثير من الصيحات. صحيح أن سمات الأسواق الاقتصادية قد تغيرت، لكن تبقى الأسئلة نفسها، وها أنا أعرض لكم بعض ما أوضحه لي جاكوب نيدلمان من إجابات عنها، مستوحاة من مقابلة أجريناها معه في "فاست كومباني" (Fast Company) منذ عدة سنوات، وقد أبهرتني هذه الحقائق لشدة قربها وعلاقتها بما يحدث اليوم. إليكم بعضاً منها:
قد يكون المال أصل كل الشرور، لكن فقط إن لم تكن صادقاً حول ما يعنيه المال لك. "يتمحور المال حول الحب والعلاقات"، كما يقول نيدلمان: "فهو لديه قوة خاصة في جذب الأشخاص كما في إبعادهم عن بعضهم بعضاً. أنت لا تستطيع الهروب من المال لأنه سيطاردك ويمسك بك. لذلك إن لم تستطع فهم علاقتك بالمال في هذه الثقافة فأنت تحكم على نفسك بالفشل. وإذا لم تحدد موقفك من المال ولم تفهم جيداً علاقتك به، فإنك ببساطة لا تعرف نفسك. نقطة انتهى".
لا يستطيع المال شراء السعادة، خاصة إن لم تكن في الأصل سعيداً. يقول نيدلمان ممازحاً: "إن كنت تقلق بشأن الخضراوات اليوم، فستقلق بشأن اليخوت لاحقاً. شخصياتنا قلقة بطبعها، هو شيء فينا نحن، وليس في المال. وباستثناء الحاجات المادية الواضحة، فإن الحياة لا تتحدد كثيراً بمواقفنا الخارجية من الأمور كما تتحدد بالداخلية منها. إن امتلاك المال لن يغير تركيبتك الداخلية. إن كنت ممن يقلقون وأنت لا تملك المال، فستظل قلقاً حتى لو حصلت على الكثير منه".
الغنى لا يجعلك ذكياً، وخاصة في الأمور الأخرى غير المال. يعلّق أستاذ الفلسفة بالقول: "التقيت شخصاً شق طريقه من الصفر لتصل ثروته إلى نصف مليار دولار، فسألته عن أكثر شيء أثار دهشته حين أصبح ثرياً. أجاب: الجميع يطلبون رأيي في الكثير من الأمور لأنهم يعتقدون أنني أعرف كل شيء. لكنني لا أعرف إلا شيئاً واحداً وهو كيف أصنع الكثير من المال، انظر كيف لم يسمح هذا الرجل لنفسه أن ينخدع بالمال. وهنا يكمن السر".
الثراء لا يؤدي بالضرورة إلى حياة غنية. "هناك فارق بين المال والنجاح، فالنجاح الحقيقي بالنسبة لي هو انشغالي التام بوظيفتي والكليات التي أدرّس فيها وكل مقدراتي في الحياة. لقد ترعرت وسط لغة "الإيديش" (Idish)، وهي لغة فيها أكثر من ألف معنى لكلمة "أحمق"، وكلمة واحدة فقط تعني المخلوق الإنساني الأصيل: "مينسش". كانت جدتي تقول "عليك أن تكون مينسش"، وتحقيق ذلك مرتبط بما نسميه الشخصية. أن تكون ناجحاً يعني أن يكون لشخصيتك طابعاً تطويرياً تقدمياً. عليك البحث عن المتعة والإثارة والتحدي في عملك، وبذل الجهد من قلبك، والشعور بلذة العمل. إنها سعادة الاجتهاد في العمل. لا يمكن للمال شراء أي من هذه الأشياء. هي أشياء تأتي من الروح".
وأخيراً، يبقى من السهل إطلاق الأحكام من بعيد على أخطاء وزلات الأثرياء التي نسمع عنها في الأخبار. لكن انظر إلى نفسك في المرآة.. هل فكرت في العلاقة بينك وبين السعي للثروة؟ كيف تفكر في المال ومعنى الحياة؟