دراسة لمصاريف 235 أسرة تكشف عن هشاشة الإدارة المالية

5 دقائق

يشهد تفاوت الدخل في الولايات المتحدة نمواً ملحوظاً، غير أن غالبية البيانات الإحصائية الاقتصادية المعروفة تخفي جزءاً كبيراً من عدم الاستقرار المالي الذي يعاني منه الأميركيون من خلال اعتمادها أرقام دخل ومصاريف سنوية من دون أي تفاصيل. إذ إنّ الأرقام السنوية لا تظهر التقلبات التي تبين ما إذا كانت الأسر تجد صعوبة في دفع الفواتير أو القيام بالاستثمارات المهمة في الوقت المطلوب. ولعل انعدام فرص الحصول على تدفقات نقدية ثابتة وإمكانية التنبؤ بها، هو السبب الرئيس الخفي والعصي على الملاحظة لكثير من حالات انعدام الأمان الاقتصادي التي يعاني منها الناس اليوم.

توصلنا إلى فهم هذه الحال بعد أن حللنا "اليوميات المالية الأميركية" في دراسة غير مسبوقة لجمع بيانات تفصيلية حول التدفقات النقدية للأسر الأميركية. فبين العامين 2012 و2014 أنشأنا نقاط بحث في 10 مجتمعات منتشرة في جميع أنحاء البلاد. ولقد أشرك فريق البحث 235 أسرة كانت على استعداد للسماح لأفراد الفريق بأن يتتبعوا تفاصيل يومياتها المالية على مدار سنة كاملة. ولقد سعينا إلى تسجيل كل دولار قامت تلك الأسر بكسبه أو صرفه أو ادخاره أو استدانته أو التشارك به مع الآخرين. كما سجلنا جميع التحويلات المالية سواء أكانت إلكترونية أم نقدية، فوق الطاولة أم تحت الطاولة، مالية أم عينية. وكان في كل أسرة شخص واحد على الأقل يزاول عملاً ما، ولم تكن تلك الأسر تنتمي إلى شريحة الأكثر غنى ولا إلى شريحة الأكثر فقراً في مجتمعاتها. علاوة على ذلك، كانت تلك الأسر متنوعة: ريفية وحضرية؛ بيضاء البشرة وسمراء البشرة؛ من أصل لاتيني ومن أصول آسيوية؛ من المهاجرين الجدد وممن قدموا إلى الولايات المتحدة منذ أجيال عدة.

وقد كانت أولى النتائج المهمة لدراستنا أن دخل الأسر كان متقلباً بشكل كبير، حتى بالنسبة لمن لديه عمل بدوام كامل. أحصينا ارتفاعات الدخل وانخفاضاته (الشهور التي كان دخل الأسر فيها أعلى أو أكثر انخفاضاً من الدخل المتوسط بنسبة 25%)، فوجدنا أنّ عدد الارتفاعات والانخفاضات بلغ وسطياً 5 شهور في السنة. وبعبارة أخرى، كان دخل الأسر حوالي نصف السنة بعيداً عن متوسط الدخل. ولقد كانت تقلبات الدخل أكثر تطرفاً بالنسبة للأسر الفقيرة، بيد أن الطبقة الوسطى عانت من تلك التقلبات أيضاً.

إن تقلبات الأجر ناتجة عن تحولات أصابت سوق العمل على نطاق واسع. فمع نمو العمالة في قطاعَي الخدمات وتجارة التجزئة ومع انتشار سياسات التشغيل الدينامي المتحرك، بات عدد أكبر من العاملين معتمداً على الدخل الناجم عن العمولات والإكراميات والعمل بالساعة وفق جداول زمنية متقلبة. ومع أنّ معدل البطالة متدن (أقل من 5% على مستوى البلاد)، فإن ذلك لم يؤد إلى مداخيل ثابتة ومستقرة: ولقد كان نصف التقلبات التي شهدناها في المداخيل ناجماً عن تفاوت الأجر الشهري للعامل من دون أن يبدل وظيفته.

وجدنا أيضاً أن المصاريف الشهرية كانت متقلبة بنفس درجة تقلب المداخيل. فعلاوة على المصاريف الشهرية الثابتة والمنتظمة كانت هنالك مصاريف طارئة متغيرة: إصلاح السيارة وإصلاحات المنزل ودفع الأقساط والإصابة بالمرض. فضلاً عن ذلك كانت المصاريف المتزايدة نسبياً للرعاية الصحية وأجور السكن والتعليم والنقل تثقل كاهل ميزانيات الأسر وتستهلك المدخرات المرصودة للتخفيف من الصدمات والأزمات، وبخاصة مع الجمود الحقيقي الموثق للأجور بالنسبة لغالبية العاملين. ففي العام 2015 أنفقت الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط حوالي ثلث دخلها على السكن، الذي ارتفعت تكاليفه بنسب تتراوح بين 25% و50% بالمقارنة مع أواسط تسعينيات القرن الماضي. في حين ارتفعت تكاليف نيل الشهادة الجامعية الأولى من إحدى الجامعات الحكومية بنسبة الثلث بين عامي 2003 و2014. وحتى مع تطبيق قانون الرعاية الميسرة استمرت تكاليف الضمان الصحي بالارتفاع، ما اضطر الأسر ذات الدخل المنخفض، غير القادرة على دفع أقساط التأمين الشهرية المرتفعة، إلى الاعتماد على خطط تأمين ذات اقتطاعات عالية، ما جعلها عرضة لاحتمال دفع جزء كبير من التكاليف من أموالها الخاصة.

وتعد "إيلين سوليفان" المشاركة في دراسة "اليوميات المالية الأميركية"، مثالاً لكثير من العاملين في البلاد. فلقد كانت إلين تدير ندوة مدرسية لأكثر من 15 عاماً، الأمر الذي كان يوفر لها دخلاً ثابتاً يؤمن احتياجاتها. لكن بعد تسريحها استغرقت سنة ونصف السنة لتحصل على وظيفة ثابتة جديدة، وشقت طريقها نحو الأعلى متسلمة إدارة أفرع عدة لأحد مطاعم الوجبات السريعة. وكونها مديرة كانت تتمتع بضمان صحي مقدم من مشغلها، ومع ذلك عندما تعرضت لطارئ صحي، انتهى بها الأمر بأن باتت مدينة للمستشفى بمبلغ 8,000 دولار من أموالها الخاصة كاقتطاعات غير مغطاة بالضمان الصحي. وهكذا كان عليها التفاوض مع المستشفى للاتفاق على خطة لتسديد ديونها على مسؤوليتها الخاصة؛ وباتت الآن أكثر حاجة لوظيفتها. إنها راضية عن وظيفتها الراهنة من جميع الجوانب (مع أنها تكسب أقل بكثير مما كانت تكسبه من عملها السابق) ما خلا جانباً واحداً، ألا وهو تعطيل العاملين من دون أجر عندما تتباطأ الأعمال. ولذلك فهي تراقب وتتبع نسبة المبيعات إلى عدد الموظفين ساعة بساعة على مدار اليوم. وإذا خرجت نسب مخازنها عن النطاق المطلوب والمحدد من قبل المقر الرئيسي فإنها تتوقع أن تتلقى ملاحظة بذلك من الإدارة في "الطابق الأعلى"، الأمر الذي يعرض ثبات دخلها للخطر.   

وفي الأساس، ينشأ انعدام الاستقرار الذي لاحظناه في التدفقات النقدية للأسر من أن تلك الأسر باتت اليوم معرضة لمخاطر مالية أكبر بكثير مما كانت معرضة له في الماضي. فوظائف أصحاب تلك الأسر توفر لهم مداخيل أقل ثباتاً، حتى عندما يعملون بدوام كامل. وقد ضاقت الهوامش بين مداخيلهم ومصاريف أسرهم، ولم يعد بإمكانهم زيادة مدخراتهم. ولا تفعل الشركات ولا الحكومات الكثير لحماية الأسر، ما ينتج عن هذا الوضع الصعب من تقلبات.

ولكن لا ينبغي للأمور أن تكون على هذه الحال. فالتقلبات في المداخيل والمصاريف لا تشكل مشكلة بحد ذاتها. فعندما تتعرض إحدى الشركات، لا الأسر، لمثل هذه التقلبات، فإنها تستجيب لها من خلال مراكمة رأسمالها المتداول. وتلجأ الأسر إلى إجراءات مشابهة في مثل تلك الظروف الصعبة: فنراها تخطط مصاريفها وتدخر مبالغ احتياطية وتعتمد على ثرواتها العائلية وتستفيد من القروض والتأمينات. إلا أنّ التحدي الأساسي الذي يواجه عدداً متزايداً من الأميركيين هو أنهم لا يمتلكون إمكانات كافية لتجاوز مفاعيل وتبعات التقلب الشديد في مداخيلهم. ولسوء الحظ فإنّ أكثر الأسر معاناة من تقلب تدفقاتها النقدية هي الأقل امتلاكاً لإمكانات تجاوز تلك المعاناة، تماماً كما هي الحال مع الشركات.

ولكن لا ينبغي للأمور أن تكون على هذه الحال أيضاً.

فقد بينت نظرتنا الفاحصة للتدفقات النقدية للأسر العاملة أن هنالك قطبة مخفية في قصة تباين الدخل وانعدام المساواة والتكافؤ، ألا وهي أن عدم الاستقرار المالي ينمو جنباً إلى جنب مع عدم التكافؤ في المداخيل والثروات – وأن عدم الاستقرار المالي يمثل بحد ذاته شكلاً من أشكال عدم التكافؤ. غير أنّ هذه النظرة الفاحصة للتدفقات النقدية من شأنها أن تدلنا على طرق وأساليب جديدة لمساعدة الأسر.

لطالما كان المشغلون جزءاً من المشكلة، بما أنهم هم من يعرض العاملين لمزيد من الضغوط والمخاطر؛ ولذلك من الضروري أن يكونوا جزءاً من الحل أيضاً؛ إذ لا بدّ من إعادة النظر في أساليب وإجراءات عمل الشركات، كسياسات جدولة ساعات عمل العاملين وبرامج الاستحقاقات والتركيز أكثر على ما ينجم عن تلك السياسات والبرامج من عدم استقرار مالي بالنسبة للعاملين. فبإمكان المشغلين أن يوفروا للعاملين أدوات ادخار للحالات الطارئة وربطاً مع خدمات مالية عالية الجودة وإمكانيات التدريب على إدارة شؤونهم المالية. وبوسع مزودي الخدمات المالية أن يبتكروا منتجات جديدة لتمكين الأسر من تعزيز استقرارها المالي وسط التقلبات في التدفقات النقدية. لا شك أن المشاكل أكبر من أن تُحَل بخطوة واحدة، ولكن هناك طرق واضحة للشروع بمساعدة الأميركيين الذين يكابدون المصاعب حتى يستعيدوا الأمان والسيطرة على شؤونهم المالية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي