هدئ أعصابك وأطفئ هاتفك واخلد إلى النوم

5 دقيقة

عندما كنت طفلاً صغيراً، كنت أعاني من اضطرابات كبيرة في النوم. فقد كان أهلي يصحون ليلاً ليجدوني مستيقظاً في الثالثة فجراً ممسكاً بيدي مصباحاً يدوياً تحت غطاء السرير لأقرأ على نوره كتباً من قبيل "هاردي بوي"، أو "نانسي درو" أو "توم سويفت". وعندما أصبحت في التاسعة من عمري، وصف لي طبيب الأطفال دواءً كريه الطعم لأتناوله ليلاً قبل النوم بعد مزجه مع عصير الأناناس للتغطية على طعمه المر. وبعد مرور بضع سنوات، اكتشفت بأنّ هذا الدواء لم يكن سوى مخدراً قوياً. وغني عن القول بأنني لم أنم قرير العين أبداً. وعندما أصبحت بالغاً، كنت غالباً أفسّر عاداتي المتعلقة بالنوم بأن أحلف أغلظ الأيمان بأنني لا أحتاج إلى أكثر من 4 إلى 5 ساعات من النوم يومياً.

أجريت أنا وزملائي في جامعة ولاية كاليفورنيا في دومينيغ هيلز أبحاثاً حول النوم تستند إلى أعمالي المخبرية في مجال "علم نفس التكنولوجيا"، حيث اكتشفنا وجود متغيّرين هامّين يشجّعاننا على استعمال (وإساءة استعمال) التكنولوجيا، مما يجعلنا نحصل على قسطٍ غير كافٍ من النوم. العامل الأول هو قدراتنا التنفيذية الضعيفة، وهي تشمل قدرتنا (أو عدم قدرتنا) على الانتباه، وحلّ المشاكل، والسيطرة على اندفاعاتنا، واتخاذ القرارات. أمّا العامل الثاني فهو القلق، حيث نشير في أبحاثنا إلى القلق بعبارة "الخوف من أن يفوتنا شيء". ونجد حالة القلق هذه حاضرة لدى غالبية مستعملي الهواتف الذكية الذين يشعرون بحالة من عدم الارتياح إذا لم تكن هواتفهم وأجهزتهم الإلكترونية الأخرى بمتناول يدهم مباشرة، وعلى مدار اليوم والأسبوع والسنة. كما أن انتهاء شحن بطارية الجهاز كفيل بأن بتسبّب بنوبة ذعر.

وفي دراستنا الجديدة التي ستنشر نتائجها لاحقاً وشملت أكثر من 700 من زملائنا الطلاب، اكتشفنا بأنّه على الرغم من أنّ الضعف في القدرات التنفيذية كان مؤشراً كفيلاً بالتنّبؤ بوجود مشاكل في النوم، إلا أن التأثير الأكبر على نومنا كان ناجماً عن القلق. فالطلاب الذين كانوا يشعرون بقلق أكبر تجاه ابتعادهم عن هواتفهم، استعملوا هذه الهواتف أكثر خلال اليوم العادي، واستيقظوا بوتيرة أكبر خلال الليل لتفقّد هواتفهم. وقد تسبّبت هاتان النتيجتان – أي الاستعمال اليومي الأكبر والاستيقاظ الليلي الأكثر – وبشكل مباشر بحصول اضطرابات ومشاكل في النوم.

فلماذا يترك القلق المرتبط بالحاجة إلى البقاء في حالة اتصال دائم مع الإنترنت، أثراً سلبياً على نومنا؟ أولاً، الأشخاص الذين يشعرون بقلق أكبر تجاه البقاء في حالة اتصال دائم مع الإنترنت سيتسمرّون على الأرجح في استعمال التكنولوجيا حتى لحظة استلقائهم في أسرّتهم. وقد بات معلوماً بالنسبة لنا بأنّ التنبيهات الضوئية الزرقاء الصادرة عن أجهزتنا الإلكترونية كهواتفنا وحواسبنا اللوحية وكمبيوتراتنا تزيد من إفراز الكورتيزول في أدمغتنا، الأمر الذي يجعلنا في حالة استنفار أكبر، ويثبّط إنتاج الميلاتونين، الذي نحتاج إليه لكي نغطّ في نوم عميق. هذه الخلاصة دفعت "الجمعية الوطنية للنوم" إلى التوصية بإطفاء جميع الأجهزة قبل ساعة من الخلود إلى السرير. أمّا مستشفى "مايو كلينيك" فيقول بأنّك إذا اخترت استعمال التكنولوجيا خلال الساعة التي تسبق الخلود إلى النوم، فيجب أن تبقي جهازك على بعد 35 سم من وجهك مع خفض إنارة الشاشة، الأمر الذي يساعد في التقليل من الوهج الأزرق وزيادة إفراز الميلاتونين الطبيعي. وقد توصّلت دراسة أجراها باحثون في كلية هارفارد للطب إلى أنّ الناس الذين يقرؤون كتباً إلكترونياً يحتاجون إلى 10 دقائق إضافية ليناموا مقارنة مع من يقرؤون كتاباً ورقياً. كما أن إفراز الميلاتونين لديهم للمرّة الأولى تأخر لمدة 90 دقيقة، بينما اقتصرت كمية الميلاتونين المفرزة لديهم على النصف. كما أنّ ذلك أدّى إلى تراجع في كمية النوم المعروف باسم "النوم ذي حركات العين السريعة". وللتوفيق بين هذه التأثيرات، فإنّ أجساد الناس القلقين تفرز كماً أكبر من الكورتيزول، ممّا يحبط محاولاتهم للخلود إلى النوم. كما يميل الناس القلقون إلى امتلاك فترات انتباه ذهني أقصر، حيث أظهر بحثنا بأنّهم يبدّلون بين المهام التي يحاولون إنجازها كل 3 إلى 5 دقائق. وهذا التبديل المحموم في المهام يزيد من مستويات التوتر لديهم – وبالتالي الكوريتزول – مما يضعهم في حلقة مفرغة. أخيراً، الناس القلقون أميل إلى النوم وهاتفهم قريب منهم، كما أنّهم أميل إلى تفقّده عندما يستيقظون ليلاً، الأمر الذي يتسبّب في تقطّع النوم لديهم.

دعونا نلقي نظرة سريعة على مدى الأهمية الحيوية للنوم في صحتنا. ففي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، قام ويليام ديمينت وناثانييل كلايتمان بتسليط ضوء كبير على عملية النوم لدى الإنسان. وقد اكتشفوا بأنّ عملية النوم لدى الناس الذين يحصلون على قسط طبيعي من الراحة، تحصل على شكل سلسلة مؤلفة من نوبات تمتد الواحدة منها 90 دقيقة، تنتهي كل نوبة منها بحلم. وخلال الفترة التي تسبق الحلم، هناك أربع مراحل أساسية مسؤولة عن تجديد طاقة المشابك العصبية، أو عملية التخلّص من الارتباطات الذهنية غير المطلوبة وتدعيم الارتباطات المطلوبة وتعزيزها. إضافة إلى ذلك، هناك العديد من النواتج الثانوية الجزيئية الناجمة عن التفكير، والتي تكون متجمّعة في الدماغ طوال النهار، يجري التخلّص منها خلال النوم الطبيعي. ومن بين هذه النواتج الحمض الأميني الذي يُسمى الأميلويد بيتا، والذي وجد بكميّات وفيرة في أدمغة الأشخاص الذين لديهم مرض الخرف (آلزهايمر). فعندما لا يحصل الإنسان على قسطٍ كافٍ من الراحة، فإن هذه المراحل – وعمليات التنظيف الروتينية الداخلية التي يقوم بها الدماغ – تشهد تقطعاً. وعلاوة على ما سبق، إذا أيقظت شخصاً في كلّ مرة يبدأ فيها بالحلم، فإنّه سرعان ما سيتجاوز المراحل الأربع ويدخل مباشرة في مرحلة "النوم ذو حركات العين السريعة"، الأمر الذي يقلّل من تجديد المشابك العصبية.

لقد أظهرت الجمعية الوطنية للنوم بأنّنا وسط تراجع في فترة النوم يمتدّ على مدار 50 عاماً، بينما كشفت دراسة بأنّ 90% من الأميركيين يستعملون أجهزتهم الإلكترونية خلال الساعة الأخيرة التي تسبق ذهابهم إلى النوم على الأقل خلال بضعة ليالٍ في الأسبوع الواحد. كما توصّلت إلى أنّ طالب الجامعة العادي يخسر 46 دقيقة من النوم كلّ ليلة جرّاء الردّ على المكالمات الهاتفية أو تفقد الرسائل. وإذا ما جمعنا كل هذه العوامل معاً، نجد بأننا معرّضون إلى خطر تكبّد دين هائل في النوم لن يسمح لدماغنا النائم أن يؤدّي وظيفته. كما أنّ الحرمان من النوم يقود إلى تعلّم أقل كفاءة، وانفعال عاطفي أكبر، وزيادة في مستويات القلق، وكفاءة أقل في عمل الدماغ.

إذن كيف تقلل من قلقك الليلي وتسمح لدماغك بأن ينام بفعالية؟ فيما يلي بعض الاقتراحات:

خلال النهار، تدرّب على عدم إبداء أي تجاوب مع أي تنبيهات أو إشعارات واردة، وكأنك أحد الكلاب في تجربة العالم الروسي الشهير بافلوف. لا تتفقد هاتفك كلما أصدر إشارة صوتية. بل حاول أن تطفئ الإنذارات الصوتية للإشعارات، وحاول تفقّدها ضمن جدول زمني معيّن لكي تحتفظ بالنواقل العصبية لدماغك (وتحديداً الكورتيزول). ابدأ بتفقّد الهاتف كل 15 دقيقة، ثم قم بزيادة المدّة تدريجياً إلى 30 دقيقة أو أكثر. اخبر أفراد عائلتك وأصدقاءك وزملاءك، بأنك قد لا تردّ عليهم فوراً، وإنّما ستردّ بعد مدّة زمنية محدّدة، كأن تستجيب بعد 30 دقيقة إلى ساعة مثلاً.

توقّف عن استعمال جميع أجهزتك الإلكترونية قبل ساعة من النوم.

ضع جميع أجهزتك الإلكترونية بعيداً عنك في غرفة أخرى عوضاً عن وضعها في غرفة النوم، لكي تثني نفسك عن تفقدها خلال الليل. (إذا كنت تريد الاحتفاظ بهاتف قريب لحالات الطوارئ، حاول تغيير إعدادات الهاتف بحيث لا يرنّ إلا عندما يتّصل بك أشخاص معيّنون. ولكن ضعه بعيداً عن سريرك في الغرفة بحيث يكون خارج متناول يدك).

قبل ساعة من ذهابك إلى السرير، ابدأ بتخفيض أنوار الغرفة ببطء ليبدأ جسمك بفرز الميلاتونين.

خلال الساعة التي تسبق ذهابك إلى السرير، حاول اختيار نشاط يعتبره دماغك محسوباً ومعروف الأبعاد، على ألا يكون نشاطاً مثيراً ومحفزاً للقلق. وإليك بعض الأنشطة المقترحة:

شاهد برنامجاً تلفزيونياً تحبّه، حتى لو كانت حلقة معادة من البرنامج.

اقرأ كتاباً ورقياً لمؤلف مألوف بالنسبة لك (أو استعمل جهاز "كيندل" (Kindle) الذي لا يصدر ضوءاً أزرق).

استمع إلى موسيقى مألوفة جدّاً بالنسبة لك، كأن تستمتع مثلاً إلى قائمة بأغانيك المفضّلة. إذا كنت بحاجة إلى جهاز لتفعل ذلك، حاول نسخ الأغاني على أقراص مدمجة (CDs) وحاول شراء جهاز لتشغيل هذه الأقراص. (المهم أن تستعمل جهازاً غير متّصل بالإنترنت، ولا يتلقى الرسائل الإلكترونية، ولا يحتوي على هاتف). وحاول إبقاء مستوى الصوت منخفضاً.

إذا استيقظت في منتصف الليل، حاول تجريب الخدعة التالية: احفظ جزءاً من كلمات أغنية تخطط لتردادها بينك وبين نفسك مراراً وتكراراً لكي توقف حالة القلق، ولتسمح لنفسك بالخلود إلى النوم مجدّداً. ويكفيك أن تحفظ جزءاً من الأغنية وليس الأغنية بأكملها. وهناك خيار آخر يتمثّل في تعلّم العديد من تقنيات التأمّل واستعمال هذه المهارات لتهدئ ذهنك.

تُعتبر أجهزتنا الإلكترونية بمثابة هدية تصلنا بالعديد من الناس وتعطينا الكثير من المعلومات، لكن ليس من الضروري أن تتسبّب في رفع مستوى القلق لدينا، وفي الإضرار بنومنا الذي يُعتبر في غاية الأهمية بالنسبة لحياتنا وصحّتنا. فنحن بحاجة إلى التحكّم بأجهزتنا، عوضاً عن تركها تتحكّم بنا.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي