عصر الوظائف انتهى فما هو مصير الموظفين؟

14 دقيقة
نهاية الوصف الوظيفي
مصمم الصورة: (هارفارد بزنس ريفيو، أسامة حرح)

إذا كان عام 2015 قد شهد صدور كتاب "نهاية الوصف الوظيفي" دون أن يثير هلع الموظفين، فإن عام 2025 جاء بكتاب أكثر صراحة: "الوظائف انتهت: كيف تعمل التقنيات الحديثة على إحداث ثورة في طريقة عملنا". لم يعد الموضوع مجرد تكهنات؛ المؤلفان ديبورا بيري بيسيون وجوش دريان يؤكدان أننا دخلنا مرحلة "ما بعد الوظائف"، حيث ستنخفض الحاجة إلى الموظفين التقليديين لصالح رواد الأعمال والمستقلين الذين يعملون على مشاريع متعددة.

ودعوني أبدأ من فكرة "نهاية الوصف الوظيفي"، فقبل عامين اتصل بي مدير التدريب في إحدى المؤسسات الحكومية، وأخبرني بأنه استمع إلى حلقة من البودكاست الذي قدمته في هارفارد بزنس ريفيو العربية، وكانت الحلقة بعنوان "انتهاء عصر الوصف الوظيفي". في هذه الحلقة تحدثت عن توجه جديد بدأ عالمياً مع التغيير المستمر في المهارات المطلوبة للعمل، إذ فرض هذا التوجه على الشركات التي تهتم بمواكبة المستقبل ألا تتمسك بالوصف الوظيفي لموظفيها، بل أن تطلب منهم بوضوح عدم التمسك به، لأن التغييرات السريعة في المهارات المطلوبة للوظائف والتغييرات السريعة في نماذج عمل المؤسسات فرضت عليها أن تطلب من موظفيها وبسرعة تعلّم مهارات جديدة والانتقال إلى طبيعة أعمال جديدة.

والذي قاله لي مدير التدريب بأنه يتمنى أن يستضيفني في محاضرة أو جلسة تدريب مع موظفي مؤسسته، لأنه لأول مرة يسمع شخصاً خبيراً يلوم الموظفين بدلاً من التركيز على لوم الإدارات في التطور المهني والاستعداد لمواكبة المستقبل. والفكرة التي يبدو أنها علقت في ذهن هذا المدير، هي أنني ذكرت بوضوح أنك إن كنت موظفاً في مؤسسة أو شركة في هذا العصر الذي يشهد الكثير من التحول في نماذج أعمال الشركات وطريقة عملها بسبب التكنولوجيا، حيث تُغلق أقسام وتُفتتح أقسام، وتقوم الشركات بالكثير من الاختبارات أو التجارب (Experimentations)، حيث أصبحت هذه الاختبارات أمراً يومياً في الشركات التي تخطط للنجاح في المستقبل القريب بحسب كتاب "مسائل التجريب". إذا كنت موظفاً في شركة أو مؤسسة تعيش كل هذه التحولات، ووجدت أن مديرك لا يطلب منك القيام بمهام جديدة، أو يختبر قدراتك في أعمال مختلفة عن الوصف الوظيفي الذي اعتدته، فعندها عليك أن تقلق.

عليك أن تقلق إن لم يتغير الوصف الوظيفي الخاص بك

تحدثت إلى موظفي هذه المؤسسة في جلسة تدريبية وصدمتهم بهذه الكلمات؛ عليك أن تقلق إذا لم يختبر مديرك قدراتك في مهارات جديدة، أو حتى بعمل جديد مختلف كلياً عن طبيعة عملك الحالية، لأن تجاهلك في هذه الحالة التي تتحرك فيها المؤسسة بحثاً عن الصيغة المناسبة لعملها في المستقبل، يعني أن مديرك قد لا يرى فيك الشخص المؤهل للتوسع في مهارات جديدة، أو قد لا يرى في عقليتك المرونة اللازمة لتكليفك بأعمال جديدة قيد الاختبار، لأنك ربما تكون من وجهة نظره من الأشخاص الذين لا يدخلون ضمن تصنيف ذوي الإمكانات (Potentials)، والذين تسميهم بعض المؤسسات اليوم "رؤوس الحربة الرقمية" (Digital Spearheads)، وهم مجموعة الموظفين الذين يتم اختيارهم من بين مجموع الموظفين، باعتبارهم مبادرين سريعي التعلم للمهارات الرقمية الجديدة، ويتمتعون بالمرونة لخوض تجارب جديدة. هؤلاء هم القوة الضاربة التي تعتمد عليها الشركات في إدارة وتولي المهام الجديدة التي يفرضها عصر الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي السريع.

في عام 2015، أي قبل 10 أعوام من الآن، صدر كتاب يحمل هذا العنوان "نهاية الوصف الوظيفي: التحول من التركيز على الوظيفة إلى التركيز على الأداء". وبالطبع، فقد كان صدور الكتاب في وقت لم يقدّر فيه الكثيرون حقيقة عنوان الكتاب، وبأنه سيأتي يوم تتمنى فيه كموظف ألا تتمسك الشركة التي تعمل بها بالوصف الوظيفي الوارد في عقد العمل الخاص بك، بل تتمنى أن تكلفك بمهام جديدة، لأن التمسك بالوصف الوظيفي سيجعلك منتهي الصلاحية بكل بساطة.

وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة أصبحت ماثلة للعيان وواضحة في شركات القطاع الخاص، فما يزال موظفو المؤسسات الحكومية يعيشون ترف الميزانيات التي تبدو لهم مفتوحة والتي تجعل المؤسسات تبحث عن موظفين جدد من خارج المؤسسة للمهام الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والميتافيرس والبلوك تشين وغيرها. وينظر الموظفون الذين ينامون في العسل إلى عدم الاستعانة بهم أو تجريبهم للقيام بهذه الأعمال باعتباره تكريماً لهم، لكنه في الحقيقة قد يكون بسبب اليأس من قدرتهم على التعلم أو تجنب الخوض معهم في نقاش شخصي وقانوني حول الوصف الوظيفي، وإذا ما كان يحق للمدير أن يغيّر فيه شيئاً أم لا.

البحث عن جاك "مسبّع الكارات"

وبينما لم يستوعب الكثيرون بعد فكرة انتهاء عصر الوصف الوظيفي، إذ ببداية هذا العام يصدر كتاب جديد عن دار النشر في جامعة هارفارد ليعلن موت الوظائف عبر كتاب (Employment Is Dead). ويمكن تلخيص عنوان هذا الكتاب بهذه الكلمات "الوظائف انتهت: كيف تعمل التقنيات الحديثة على إحداث ثورة في طريقة عملنا". وما يقوله هذا الكتاب في بداية العام 2025 سيشكل بداية لما ستكون عليه أفكارنا حول الوظائف والموظفين لبقية حياتنا دون مبالغة.

في هذا الكتاب يقول المؤلفان ديبورا بيري بيسيون وجوش دريان، وهما باحثان ورائدا أعمال، إن الذكاء الاصطناعي والميتافيرس والبلوك تشين، بدأت فعلياً تنهي عصر الوظيفة بالطريقة التقليدية حتى ولو لم نشعر بها. فهما يريان أن الوظائف البشرية في المؤسسات والشركات ستنخفض إلى الحد الأدنى، وسيزيد عمل الناس لصالحهم الخاص كرواد أعمال ومتعاقدين مستقلين، حيث سيصبح عمل الشخص في أكثر من شركة كمتعاقد أمراً طبيعياً. وسينتقل العالم من السخرية من مقولة (Jack for All trades)، وهو مثل شعبي عالمي مفاده أن "الرجل الذي يجيد كل المهن لا يتقن أي مهنة"، إلى التراجع عن المَثل والبحث عن جاك.

يرى كثير من الخبراء اليوم، ومنهم مؤلفا كتاب "الوظائف ماتت" أو انتهت، أن إنسان المستقبل الذي يريد أن ينجح في الحياة عليه أن يصبح "جاك لكل المهن" أو بحسب المثل الشامي "مسبّع الكارات"؛ أي متعدد المهن، وسيصبح هو المستقبل بحسب الخبيرة المهنية السويدية ميلي تاماتي، التي تقول في مقال لها إنه يجب إعادة النظر بالمثل الذي يعتبر "جاك لكل المهن" أمراً سلبياً، وبدء البحث عن مواصفات جاك، وتقول: "في عالم حيث التغيير هو الشيء الوحيد الثابت، يزدهر أصحاب المهارات العامة". وتقول إن السؤال ليس: "هل الطبيب العام أفضل أم الطبيب المتخصص؟"، السؤال الأكثر أهمية هو: "كيف يمكن للأطباء العامّين والمتخصصين العمل معاً في انسجام؟".

هل تفهم شغلك أم لا؟

هذه التغييرات تفرض على الموظف ضمن الشركات اليوم أن يتحول بسرعة إلى شخص متعدد المهارات، وأن يتوسع من اختصاصه إلى الاختصاصات المجاورة الجديدة التي وسّعت من خلالها التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي مهارات العمل المتخصصة إلى مهارات جديدة متنوعة.

لا تنتظر من شركتك أن تدرّبك، بل عليك أن تسعى لذلك بنفسك وبسرعة، لأن وسائل التعلم والتدرب متاحة في كل مكان. ولا تنتظر أن يخبرك أحد بما تحتاج إلى التدرب عليه، أو المهارات التي عليك اكتسابها. وقد بيّن خبراء التوظيف في أحد أهم استطلاعات الرأي التي أجرتها شركة غارتنر أن على كل موظف تعلم 10 مهارات جديدة كل 18 شهراً.

حتى الموظف ضمن الشركات يجب أن يعمل بعقلية رائد الأعمال الذي يعمل بمفرده، وعليه أن يحسب حسابه بأن أحداً لن يساعده، ولن يجد من يعلّمه كما كان سائداً في ثقافة المؤسسات سابقاً، بل إن الشركات والمؤسسات في الفترة الحالية والمقبلة، بدأت تبحث عمّن يعرف شغله، ولا يحتاج إلى اجتماعات ومتابعة ليتعلم كيف يقوم بعمله. وفي هذا السياق ربما يمكننا أن نفهم لماذا انتقل رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار من نموذج الاجتماعات السريعة وقوفاً، إلى منع الاجتماعات نهائياً. العبار وفي كلمة له بداية العام الحالي فاجأ الكثيرين بأنه منع الاجتماعات في شركة إعمار، وكان مبرره أن الموظف هو واحد من اثنين؛ إما يعرف شغله، وهذا لا يحتاج إلى اجتماعات ليفهم كيف يعمل، وإما لا يعرف شغله، وعندها عليه أن يغادر هذه الوظيفة.

الموظف الذي يعمل كذئب منفرد

موظف العصر الحالي في زمن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي هو ذئب منفرد، متعدد المهارات، لا يحتاج سوى توجيهات بسيطة لكنه يتحرك بنفسه، وكذلك رائد الأعمال بالمناسبة، فاليوم يتجه العالم أكثر فأكثر لاستخدام مصطلح (Solopreneur)؛ أي رائد الأعمال المنفرد الذي يقوم بكل العمل بنفسه في إدارة شركته الناشئة. لكن رائد الأعمال الفردي سينتقل مع الذكاء الاصطناعي إلى مستوى آخر، حيث إن العالم سيشهد ولادة أول شركة مليارية "يونيكورن" يمتلكها ويعمل بها ويديرها شخص واحد بفضل الذكاء الاصطناعي، بعدما كانت الشركات المليارية الناشئة تحتاج إلى مئات وربما آلاف الموظفين، كما قال سالم ألتمان، رئيس شركة أوبن أيه آي.

الآن وبمساعدة الذكاء الاصطناعي، سيصبح الفرد قادراً على القيام بعمل 100 موظف.

وهكذا، فإن الموظف سيصبح استثناء وستصبح القاعدة هي العمل الحر والعمل الريادي، وسيصبح التخصص استثناء، وتعدد المهارات هو القاعدة، لأنك كما كرّست حياتك لتعلم مهارة واحدة ومحددة فقط، فأنت تخاطر بأن تخسر المنافسة وتخرج من السوق، لأن الذكاء الاصطناعي والآلة الذكية يمكن أن يتعلما هذه المهارة المحددة، لكن تمتعك بالمرونة وسعة الحيلة كإنسان، سيجعلك في كل مرة تبحث عن فرص جديدة تجعلك متجدداً وتتجنب انتهاء الصلاحية.

هل يمشي الماء من تحت قدميك دون أن تشعر؟

في إحدى الجلسات التي كنت أتحدث فيها إلى موظفي إحدى الشركات عن فكرة مرونة الموظف وضرورة تبنيه عقلية تجعله يتقبل فكرة الانتقال من وصف وظيفي إلى آخر جديد، والاستعداد للانخراط في التحول الذي تشهده المؤسسة التي يعمل بها في هذا العصر الذي يمتاز بسرعة التغيير، لكي يتجنب أن يجد نفسه خارج اللعبة، استفز هذا الكلام أحد الموظفين، فقرر أن يقدم التبرير الذي يلجأ إليه كل مَن يحاول التمسك بفكرة التخصص والوصف الوظيفي، التي هي "الاختصاص الطبي". وجاء سؤاله كالتالي: "هل يمكن لجراح العيون أن يصبح جراح قلب؟" والجواب، هو أن فكرة تغيير الوصف الوظيفي لا تعني دوماً تغيير الوظيفة بل المهام الوظيفية، فبعض هذه المهام سينتهي ويُشطب من قائمة الوصف الوظيفي مع الوقت، وبعضها سيضاف إلى قائمة مهامك لأول مرة.

وهذا التغيير في الوصف الوظيفي سيحصل لكل مَن يبقى على رأس عمله، ومَن لا يستطيع المواكبة سيجد نفسه خارج العمل عاجلاً أم آجلاً. أي أن الطبيب جراح العيون أو القلب الذي اعتاد العمل الجراحي بالطرق التقليدية عليه تعلّم الجراحة بالتقنيات الجديدة مثل العمليات الجراحية بالروبوتات، التي تعني التدريب والتعلم على تقنيات ومهارات مختلفة كلياً، وإلاّ فسيجد نفسه أيضاً منتهي الصلاحية.

ربما يبقى الكثيرون اليوم غير شاعرين بحقيقة ما نتحدث عنه بشكل ملموس، فالموظف الكسول مستمر في عمله في بعض المؤسسات، والموظف المبادر يزيد على نفسه أعباء العمل دون فائدة، وكذلك الطبيب التقليدي الذي يستخدم التكنولوجيا الحديثة بتلكؤ، وكأنه يمشي في العتمة، مستمر في العمل في المستشفى الذي تعمل فيه طبيبة تسابق الزمن في تعلم التقنيات الجديدة وتتابع أحدث الدراسات العملية.

لكن التغيير يحصل سواء شعرنا به أم لم نشعر، وهو يسير من تحتنا كما يمشي الماء من تحت أقدامنا ونحن لا نشعر به إلاّ بعد فوات الأوان. ولكننا قد نرى التغيير يحصل فجأة، عندما نجد أن المبادرين جاءتهم الفرص، بينما خرج من السوق وانتهت صلاحية ذوي العقليات المتحجرة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي