تعودنا جميعاً في الوقت الراهن على رؤية نماذج من الشركات الرقمية الصغيرة والرشيقة التي تظهر هنا وهناك من العدم وتتفوق على شركات أكبر منها حجماً. فكيف يمكن أن تنمو الشركات التقنية دون زيادة عدد موظفيها؟
لقد استطاعت الشركات الناشئة المتمردة مثل "إنستغرام" و"سناب شات" (Snapchat) أن تعمل بموارد أقل بكثير من الشركات السباقة إلى هذا المجال في الفترة "ما قبل الرقمية". لقد كانت شركة "إنستغرام" تتوفر على 13 موظفاً فقط عندما تم بيعها مقابل مليار دولار لشركة "فيسبوك" في 2012، بينما كانت "سناب شات" تتوفر على 350 موظفاً. قارن ذلك بشركة "كوداك" التي كانت في ذروة نشاطها توظف أكثر من 60,000 موظف.
لكن من الملاحظ أن هذه الشركات الرقمية تبقى صغيرة وتحافظ على عدد قليل من الموظفين حتى مع نمو حجم أعمالها. لننظر إلى "واتساب" التي كان لديها 55 موظفاً (35 منهم يعملون في مجال الهندسة) وبلغ عدد المستخدمين أكثر من 450 مليون عندما تم الاستحواذ عليها من قبل شركة "فيسبوك" في 2014. وبينما تَضاعف عدد مستخدمي "واتساب" اليوم فإن عدد المهندسين تزايد ليصل إلى 50. ولم تعد زيادة أعداد الموظفين لأجل الزيادة فقط أمراً مفضلاً في العالم الرقمي. بل إن ما يهم هو كيف يمكن إنشاء شركة رشيقة مع الاستمرار في الوقت نفسه في جني أكبر عائد من الأصول المستثمرة. وتعتبر الزيادة الذكية لعدد العاملين بشكل يحسن التكنولوجيا مسألة أساسية. فالتوظيف لحل المشكلات لا يعتبر مشكلة.
إدارة الموارد البشرية في الشركات الرقمية
تعيد الشركات الرقمية صياغة قواعد تنمية الشركات عبر استخدام التكنولوجيا في توسيع أو تقليل زيادة أعداد الموظفين. ولا يسمح هذا للشركات بكسب المزيد من المال فقط باستعمال موارد أقل، وإنما يمنحها أيضاً الامتيازات الاستراتيجية والثقافية التي تميز الشركات الصغيرة. وكلما زادت الشركات أرباحها فقد ينتهي بها الأمر في الواقع إلى التخلي عن الموظفين بفضل تقدم التكنولوجيا.
حيث تتيح التكنولوجيا لهذه الشركات الوصول إلى المستهلكين والشركاء بشكل أسرع من أي وقت مضى، وتسمح دائماً بتجربة طرق جديدة في تقاسم التواصل والمعلومات. ويتيح كل هذا للشركات الرقمية التقدم بسرعة وخلق صلات مع الزبائن التي تطلب بناؤها سنوات طويلة من الشركات القديمة. كما تستطيع الشركات الرقمية تجاوز بعض عوائق النمو التقليدية -مثل اتساع الهرم التنظيمي والترهل الإداري وكثرة الأنظمة والإجراءات وتنامي البيروقراطية- التي كانت تعرقل الشركات السباقة، حيث كانت المفارقة في هذه الشركات أنها كلما كبرت بزيادة أعداد الموظفين، صعُب عليها تحقيق النمو.
ومع ذلك فقد كانت زيادة أعداد الموظفين علامة على نجاح الشركة. وكان إعلان شركة ناشئة صغيرة عن بلوغها توظيف 1,000 أو حتى 5,000 شخص إشارة مهمة للقطاع عن وضعية الشركة وآفاقها المستقبلية. فهل كان كل هؤلاء الموظفين يساهمون على قدم المساواة وبنشاط في النتائج التي تحققها الشركة؟ حسناً، الجواب هو لا.
وفي كثير من الحالات ظلت الشركات الصغيرة والمنضبطة التي حققت النجاح حبيسة النموذج القديم الموروث القائم على زيادة أعداد الموظفين فاستثمرت في موارد بشرية لم تكن أبداً في حاجة إليها. لنأخذ "ياهو" (Yahoo) أو "إيباي" (eBay) على سبيل المثال. من يستطيع أن يبرهن على أن شركة ما تحتاج حقاً لحوالي 33,000 ألف موظف لتفعيل فكرة الموقع الإلكتروني ذاته الذي كانت تملكه عندما كان يعمل بها 500 موظف؟
ميزات الحجم الصغير للشركات الرقمية
إن بقاء الشركات في حجم صغير له امتيازات استراتيجية. إذ تستطيع الشركات الأصغر خلق المنتجات بشكل أسرع، وتقليل المسافات والمراحل، والدخول إلى أسواق جديدة أسرع من نظيرتها الكبيرة والبيروقراطية. إنه السبب الذي يجعل "فيسبوك" في حاجة إلى شراء شركات مثل "واتساب" و"إنستغرام": فهذه الشركات الناشئة الديناميكية تستطيع اكتشاف المشكلة وبناء وإطلاق منتج لحلها حتى قبل أن تعلم شركة "فيسبوك" بوجود المشكلة أصلاً.
كما تتمتع الشركات الصغيرة بامتياز قدرة الحفاظ على قوة عاملة متماسكة ومطلعة وملتزمة تعمل بدورها على خلق ثقافة جذابة يرغب الموظفون بالعمل في إطارها. إذ يسعى أفضل الموظفين إلى البحث عن عمل له معنى بحيث يعطيهم القدرة على رؤية الترابط بين ما يقومون به من وبين الناتج النهائي. وعندما تصبح شركة ما كبيرة جداً إلى درجة أن الموظف لا يستطيع رؤية هذا الترابط، فإنه يشعر وكأنه دولاب صغير في ماكينة ضخمة. وتبدأ الشركة مثل أي شركة أخرى كبيرة في فقدان ميزتها التنافسية لصالح الشركات الجديدة المنافسة الأصغر حجماً والأكثر مرونة.
وتعمل الشركات الرقمية، من خلال الحفاظ على صغر حجمها ورشاقتها، على إعداد ذاتها للنجاح في المستقبل بالتمكن من أفضل ما يقدمه كلا العالمين: عالم المنتجات التي تتزايد باستمرار وتصل إلى كل المستهلكين وعالم القوة العاملة المحدودة التي تتيح لها الاحتفاظ بأفضل وألمع الموظفين الملتزمين والمؤمنين بنجاحها.
ومع ذلك فإن لنموذج العمل هذا أثر عميق على عموم الاقتصاد وسيتحتم على هذه الشركات الرقمية في النهاية مواجهته ألا وهو قلة الوظائف. وبينما يعتبر التركيز على البقاء بجم صغير ورشيق أمراً جيداً لفرادى المؤسسات، فإنه يعد أقل نفعاً للاقتصاد المعتمد دائماً على الشركات كمحرك لزيادة الوظائف. وإذا كانت "كوداك" قد وظفت في أوجها 60 ألف موظف، واعتبرنا أن شركات التصوير الرقمي الجديدة توظف في المجموع 1,000 فقط، فماذا حصل للـ 59 ألف وظيفة الأخرى التي لم يتم تعويضها؟
وفي نهاية الحديث عن نمو الشركات الرقمية دون زيادة عدد الموظَفين، سيتعين على القطاع الاقتصادي تعلم كيفية التأقلم مع هذا النظام العالمي الجديد للبقاء في وضعية جيدة نظراً لتحول المزيد من الشركات نحو الطابع الرقمي وتبني أعداداً أكبر منها لفكرة التوسع مع الحفاظ على أعداد قليلة من الموظفين. وهذا بالضبط هو التحدي الذي يجب على هذه الشركات الرقمية مواجهته مستقبلاً.