كانت قبيلة الناسكابي مجموعة من البدو الرحل الأصليين تعيش في منطقتي كيبيك ولابرادور في أميركا الشمالية، وكانت تعتمد على الصيد مصدراً لطعام أفرادها. نظراً لأهمية الصيد بالنسبة لأفراد الناسكابي، قد تفترض أنهم سيستثمرون جهداً كبيراً في التحليل ووضع استراتيجيات تساعدهم على اتخاذ القرار الحاسم بشأن مكان الصيد؛ ربما كانوا يسجلون عدد حيوانات الموظ أو الوعل التي كانوا يصطادونها لحرصهم على عدم استنزاف مناطق صيدهم، وربما كانت لديهم خطط منهجية لاستكشاف مناطق جديدة بانتظام بحثاً عن قطعان جديدة. ربما حاولوا التنبؤ باحتمال العثور على قطعان معيّنة في مناطق مختلفة، مثل الوديان والهضاب أو على ضفاف الأنهار.

لكن الواقع كان مختلفاً. اعتمدت القبيلة، مثل العديد من الشعوب الأخرى القديمة، على العرافة. كان أفراد الناسكابي يجرون العرافة من خلال تسخين عظم كتف الحيوان الميت إلى الدرجة التي يبدأ عندها بالتشقق، ثم يبدؤون الصيد في الاتجاه الذي يشير إليه الشق الذي تشكّل في العظم الساخن.

قد ينظر العديد إلى طقوس العرافة عند أفراد الناسكابي على أنها خرافية وعشوائية، ما يجعل القرار الاستراتيجي بتحديد مكان صيدهم عشوائياً أيضاً. ولكن هذا هو بالضبط بيت القصيد. لقد مكّنت عشوائية اتخاذ القرار قبيلة الناسكابي من التعامل مع المشكلة المعقدة المتمثلة باختيار موقع الصيد بسرعة دون تحيز ودون أن تتوقعها فرائسها. نتيجة لذلك، تجنّب أفرادها قضاء وقت طويل وبذل جهد كبير في عملية البحث عن الموقع المثالي للصيد، وبالتالي تمكّنوا من البقاء في الظروف شبه القطبية القاسية لمئات السنين.

على الرغم من أن العلاقة بين ممارسات العرافة عند أفراد الناسكابي وقدرتهم على البقاء في بيئة قاسية تبدو غير منطقية، لكن يمكن تطبيقها في سياق الأعمال. سندرس فيما يلي كيفية استفادة الأشخاص حالياً من العشوائية في اتخاذ القرارات التشغيلية ونناقش كيف يمكن لتطبيق هذا النهج على الاستراتيجية أن يمكّن الأعمال من الازدهار على غرار ازدهار قبيلة الناسكابي. ثم نختم مقالنا بتقديم نصائح حول كيفية دمج الشركات للعشوائية في عملية صناعة القرار الاستراتيجي.

أهمية التوزيع العشوائي في السياقات المعاصرة

لقد أثبتت عملية صناعة القرارات العشوائية نجاحها في العصر الحديث أيضاً، وعلى نحو خاص في مجال إدارة العمليات. على سبيل المثال، واجهت قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية تحديات صعبة مثل معرفة مكان وجود غواصات العدو في المسطحات المائية الشاسعة بناءً على آخر موقع شُوهدت فيه. كانت هذه المشكلة معقدة جداً نظراً إلى ضخامة عدد المسارات المحتملة التي يمكن أن تسلكها السفن ولعدم وجود عدد كافٍ من السفن أو الطائرات في أسطول الحلفاء لإجراء بحث منهجي وشامل قبل أن تشن غواصات العدو هجومها التالي. أثبتت الأبحاث أن الاختيار العشوائي والسريع في مثل هذه المواقف لعدد قليل من مواقع البحث ثم توسيع منطقة البحث اعتماداً على تغييرات عشوائية في الاتجاه كان أكثر فعالية من إجراء عمليات بحث منهجية كانت الخطوات فيها محددة مسبّقاً.

خلال الفترة نفسها تقريباً، ابتكر الباحثون العاملون في مشروع مانهاتن (وهو مشروع بحثي جرى العمل عليه في أثناء الحرب العالمية الثانية لإنتاج الأسلحة النووية) محاكاة مونتي كارلو، وهي طريقة تعتمد على أخذ عيّنات عشوائية لتقييم نتائج نظام أو عملية معقدة حيث تكون الظروف المحيطة نفسها عشوائية. طبّق العلماء هذه المحاكاة للتنبؤ بأداء تصاميم القنابل النووية المختلفة ومواد التدريع. لا تزال محاكاة مونتي كارلو مستخدمة على نطاق واسع اليوم لاتخاذ القرارات في ظل الظروف غير المؤكدة، لا سيما في مجالات مثل الماليات والخدمات اللوجستية.

يُستخدم التوزيع العشوائي اليوم غالباً في تعزيز كفاءة تقنيات تعلم الآلة ودقتها. على سبيل المثال، تُختار المُعلمات الأولية للشبكة العصبية غالباً عشوائياً لتجنب أن تعلق في تكوين معين قد يعوق أداءها. من خلال توسيع مساحة البحث؛ أي النظر في نطاق أوسع من الاحتمالات، يزداد احتمال اكتشاف تكوينات متفوقة للشبكة العصبية.

في سياق أكثر عملية، تستفيد شركات تسليم الطرود بالفعل من تقنيات التحسين العشوائي لتحديد مسارات موثوقة عبر مجموعة من السيناريوهات المختلفة، التي تتغير تبعاً لعوامل مثل حجم الشحن والفترات الزمنية للتسليم وتوافر المركبات وإغلاق الطرق الذي يختلف من يوم لآخر. هناك أيضاً بعض الأدلة على أن مصممي المنتجات والأنظمة الاجتماعية الواسعة النطاق قد اكتسبوا حدساً لتحديد متى يتخذون اختيارات عشوائية ومتى يجب تحسينها، بناءً على تقديرهم لمدى تعقيد المشكلة المطروحة.

ماذا عن الاستراتيجية؟

على النقيض من إدارة العمليات، ظلت عملية صناعة الاستراتيجية ممارسة حتمية تقليدياً، وتنطوي عموماً على محاولة فهم المشكلة من جميع جوانبها أولاً ثم استخدام التحليل لوضع خطة لمعالجتها. لقد عززت ثورة البيانات الضخمة هذا النهج، ما دفعنا إلى الاعتقاد أن بإمكاننا معرفة جوانب أي مشكلة وتحليلها لإنشاء استراتيجيات موثوقة لمعالجتها.

لكن هذا الاعتقاد يتجاهل حقيقة أن مجموعة البيانات نفسها يمكن أن تؤدي إلى مسارات عمل مختلفة، وحتى متعارضة أيضاً. على سبيل المثال، كانت استجابة شركة كوداك بعد ملاحظة الطلب المتزايد على التصوير الفوتوغرافي الرقمي تعزيز أعمالها التجارية التقليدية في مجال صناعة الأفلام لضمان عدم تأثر مبيعاتها. بالمقابل، استجابت الشركات المنافسة، مثل سوني وكانون، للمعلومات نفسها من خلال الاستثمار بكثافة في البحث والتطوير لتحسين تكنولوجيا الكاميرات الرقمية.

كما أن الثقة في حلول البيانات الضخمة تدفع الأشخاص إلى إغفال التحديات الحسابية المرتبطة بهذه الحلول. غالباً ما تكون الأنشطة المؤسسية مترابطة بصورة وثيقة وتتفاعل بكثافة، سواء بعضها مع بعض أو مع القوى الخارجية التي لا تملك الشركة سيطرة عليها. نتيجة لذلك، فإن مجموعة واسعة من المسارات السببية والعوامل المؤثرة والشبكات تسهم معاً في تحديد أي نتيجة معينة.

حتى القضايا التي تبدو بسيطة وأساسية لتنفيذ الاستراتيجية بنجاح، مثل اختيار من يجب أن يقود عملية حل المشكلات، هي في الواقع معقدة. أحد أسباب ذلك هو وجود أنواع مختلفة من الصلاحيات التي يمكن أن يتمتع بها الأفراد، مثل صلاحية اتخاذ القرار أو منح المكافآت أو مشاركة المعلومات، ونتيجة لذلك، هناك طرق عديدة لتعيين مستويات مختلفة من الصلاحيات.

أخيراً، نظراً لوتيرة التغيير والتقلب التي يشهدها عالم اليوم، أصبح من غير الممكن جمع المعلومات الضرورية جميعها وتحليلها من أجل اتباع نهج حتمي لحل المشكلات في الوقت الفعلي، وينطبق ذلك بصورة خاصة مع تغير الأنماط السلوكية للمستهلكين والمنافسين باستمرار استجابة لأي إجراءات تتخذها الشركات. الفكرة القائلة إنه يمكنك دائماً العثور على خوارزميات يمكنها التنبؤ بدقة بنتائج القرارات الاستراتيجية في ظل الواقع المعقد للأعمال أو السياسة غير واقعية، ومن المرجح أن تصبح من عالم الخيال العلمي في المستقبل المنظور.

في هذا السياق، لم يعد من الممكن أن تتمحور الاستراتيجية حول تحديد أفضل مسار للعمل. بدلاً من ذلك، يجب أن ينتقل هدف الاستراتيجية من وضع الخطط إلى تطوير محفظة من الخيارات، يمكن أن يشكل كل منها أساساً للنجاح في المستقبل. ومع ذلك، فإن إنشاء مثل هذا النطاق من الخيارات ليس فعالاً في النهج التقليدي لصنع الاستراتيجيات، لأن البحث عن حلول محتملة متعددة يمكن أن يكون مكلفاً جداً ويستغرق وقتاً طويلاً. بالنظر إلى هذه العوامل، ربما حان الوقت للاستراتيجيين أن يستفيدوا من نهج قبيلة الناسكابي وتبنّي نهج التوزيع العشوائي الذكي عند التعامل مع المشكلات المعقدة في السياقات الواسعة والمجهولة والمتغيرة. سننتقل الآن إلى إلقاء نظرة على الفوائد التي قد يقدمها هذا النهج.

ميزة الأسبقية

لنأخذ على سبيل المثال شركة أوديو (Odeo) التي أنشأت منصة للبث الصوتي عبر الإنترنت ووجدت نفسها في عام 2005 تواجه موقفاً صعباً عندما أعلنت شركة آبل أنها تعتزم ضم منصتها المنافسة للبث الصوتي لتصبح جزءاً من برنامج آي تيونز على جميع أجهزة الآيبود التي تنتجها. أدرك قادة شركة أوديو الحاجة إلى تغيير جذري في استراتيجيتهم، وبدؤوا عقد اجتماعات العصف الذهني على مدار اليوم، التي كانت في الأساس عبارة عن عمليات بحث عشوائية جماعية عن اتجاهات جديدة.

كانت إحدى الأفكار التي نشأت من جلسات العصف الذهني هذه عبارة عن منصة عبر الإنترنت لمشاركة تحديثات الحالة مع الأصدقاء والمتابعين، وكانت تعرف قبل تغيير اسمها مؤخراً باسم تويتر (Twitter).

نظراً للوضع الصعب الذي وجدت شركة أوديو نفسها فيه، لم يكن هناك سوى وقت محدود لتطوير خطة توجيهية استراتيجية أو إجراء أي أبحاث جوهرية للسوق أو تحليل المنافسين في سوق كانت مزدحمة بالفعل بهم، حيث كانت شركتا فيسبوك وماي سبيس تجتذبان عشرات الملايين من المستخدمين النشطين شهرياً في ذلك الوقت. بدلاً من ذلك، أطلقت الشركة منصة تويتر باعتبارها منتج الحد الأدنى، إذ ضمن هذا النهج للشركة استراتيجية للبقاء والازدهار من خلال التحديث المستمر للمنصة. (من المفارقات أن مستثمري أوديو لم يدركوا القيمة الحقيقية لتويتر وسمحوا لإدارة الشركة بإعادة شراء أسهمها مقابل نحو 5 ملايين دولار؛ أي نحو 0.01% مما دفعه إيلون ماسك ثمناً للمنصة في عام 2022).

أحد الدروس الرئيسية المستفادة من مثال تويتر هو أن الحلول بالنسبة للعديد من المشكلات لا تكون ذات قيمة أو هادفة إلا إذا نُفذت بسرعة كافية لإحداث تأثير، وهي الفائدة نفسها التي تقدمها طقوس قبيلة الناسكابي.  ربما لو أجرت قبيلة الناسكابي تحليلاً شاملاً للتوصل إلى حل، لكانت القطعان التي كانوا يطاردونها قد انتقلت إلى مكان آخر في هذه الأثناء.

على غرار تويتر، استفاد العديد من مشاريع الأعمال الحرة المعروفة من ميزة التحرك المبكر التي تجلبها صناعة القرارات العشوائية والإجراءات السريعة. على سبيل المثال، كان أول إصدار من كاميرا جو برو مكوناً فقط من سوار معصم وحقيبة بلاستيكية تحتوي على كاميرا رقمية جاهزة وغير مكلفة. تمكنت الشركة من خلال بناء علاقات مع العملاء والتحسين المستمر لتصميمها الأولي من الصمود عندما دخلت لاحقاً العديد من الشركات المنافسة الرئيسية، مثل سوني ونيكون وغارمين، سوق الكاميرات الرقمية.

يمكن للشركات القائمة أيضاً الاستفادة من التوزيع العشوائي، ويمكن القول إن استخدامه بالنسبة لها أكثر سهولة لأن لديها موارد أكثر تحت تصرفها. عندما بدأ مجال التسوق عبر الإنترنت التطور في مسارات مختلفة في الوقت نفسه مثل نموذج المتجر القائم على البحث مثل جوجل شوبينغ (Google Shopping) ونموذج المتاجر المتعددة مثل تي مول (Tmall) ونموذج المتجر العام مثل أمازون (Amazon)، لم تنتظر شركة علي بابا (Alibaba) حتى تتمكن من التنبؤ بدقة بالنموذج الأكثر نجاحاً. بدلاً من ذلك، قسّمت الشركة أعمالها وطورت حلولاً تضمنت السيناريوهات المستقبلية الثلاثة جميعها، ونتيجة لذلك، أصبحت شركة علي بابا أقوى من السابق، إذ تبيّن أن جميع قطاعات السوق الجديدة مستدامة.

تعلمٌ أسرع

يمكن أن يؤدي بدء عملية أو مشروع مبكراً إلى التعلم بصورة أسرع. على سبيل المثال، يؤدي طرح منتج الحد الأدنى في مرحلة مبكرة إلى توليد معلومات قيّمة عن طريق إثارة ردود فعل المنافسين والعملاء، الأمر الذي يمكن أن يساعد على اتخاذ قرارات مستنيرة لتحديد الخطوة التالية. بالنسبة للناسكابي، أدّت ممارسة العرافة لتحديد قراراتهم في الصيد، وعن طريق الصدفة، إلى اكتشافات جديدة ومنتظمة، مثل اكتشاف مصادر المياه والمواقع المحتملة للمستوطنات المؤقتة ومناطق الصيد الجديدة.

لنأخذ مثالاً معاصراً؛ نماذج اللغة الكبيرة مثل تشات جي بي تي، التي تعمل من خلال توقع الكلمة التالية المحتملة بناءً على الكلمات السابقة. يمكن للمبرمجين التحكم في درجة دقة عملية التنبؤ هذه من خلال إعدادٍ يسمى “درجة الحرارة”؛ كلما ارتفعت، قلّ احتمال اختيار الخوارزمية للكلمة التي من المتوقع أن تكون أكثر ملاءمة مع الكلمات السابقة. تؤدي زيادة معامل درجة الحرارة إلى تقليل الدقة ولكنها تعزز الإبداع غير المتوقع، الذي قد يرغب فيه المستخدم ويتمتع بميزة توليد مخرجات أكثر تنوعاً أيضاً، وبالتالي ردود فعل متنوعة للمستخدم، ما يساعد بدوره على تحسين النموذج بمرور الوقت.

بالطبع، تدرك الشركات أهمية إجراء التجارب وفوائدها. على سبيل المثال، أجرت متاجر البيع بالتجزئة تجارب تتعلق بوضع العناصر على الرفوف لعقود من الزمن. في السياق الرقمي، تجري الشركات روتينياً اختبار أ/ب لتحسين تصميمات مواقع الويب أو توصيات المنتجات أو نماذج التسعير.

لكن غالباً ما يستهان بحجم الاختبار والتجريب وسرعته عموماً، وأحد أسباب ذلك هو أن الاختبارات غالباً ما تكون مصممة لإثبات فرضية محددة أو دحضها كانت في حد ذاتها مبنية على بيئة مستقرة إلى حد كبير. نتيجة لذلك، فإن الاستراتيجيين يتعلمون أقل مما كانوا ليتعلموه لو أنهم “رفعوا درجة الحرارة” وأجروا اختبارات أقل دقة وأكثر تنوعاً وتكراراً. في تطوير البرمجيات، على سبيل المثال، غالباً ما يستخدم الاختبار العشوائي بصفته عاملاً مكملاً للاختبار القائم على الفرضيات.

قدرة أقل على التنبؤ

في لعبة الحجر والورقة والمقص المتكررة، يُعد استخدام استراتيجية عشوائية (أي الاختيار بين جميع الحركات الممكنة ذات الاحتمالية المتساوية) الاستراتيجية المُثلى الوحيدة، لأنها الاستراتيجية الوحيدة التي تمنع ظهور بعض الاستراتيجيات المضادة المهيمنة. في سياق أكثر تعقيداً، على سبيل المثال في لعبة الشطرنج، هناك العديد من الأمثلة الشهيرة حيث نفّذ اللاعبون حركات تبدو عشوائية (أو على الأقل غير بديهية) أضافت تعقيداً وتوتراً إلى اللعبة، خاصة عندما يواجه اللاعب خصماً أقوى.

لقد اعترفت مؤسسات مالية منذ فترة طويلة بميزة استخدام العشوائية للتعتيم على استراتيجياتها الخاصة في التداول. تستخدم هذه المؤسسات خوارزميات خفية تُحدث تأخيرات واختلافات عشوائية متعمدة في توقيت الطلبات وحجمها، لتتمكن بذلك من تجنب الإشارة إلى نواياها التي قد يستغلها المشاركون الآخرون في السوق لتحقيق مكاسب على خلفية تحليلات المتداولين الأكثر كفاءة. والمثال الأبسط على ذلك هو ما يُعرف بـ “اختبار الباب المزيف” ففي حين تُعرض منتجات عشوائية أو خيارات ترويجية للمستهلكين عبر الإنترنت، تثير بدورها ردود فعل قيّمة من المستهلكين يمكن التعلم منها، لا تكشف سوى عن الحد الأدنى من المعلومات للمنافسين.

تقليل التحيزات

يميل المدراء غالباً إلى تكرار الأساليب الناجحة السابقة، في حين يكونون أقل انفتاحاً على الأفكار الجديدة أو المؤشرات الخارجية، إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى التراجع مع تغيّر البيئة أو الظروف المحيطة بهم. الأمثلة المعروفة كثيرة؛ تمسكت شركتا بلوك باستر ونوكيا باستراتيجياتهما المجربة والناجحة، لكنهما واجهتا عواقب كارثية عندما شهد الطلب والظروف التنافسية تغيرات جذرية.

يمكن أن يوفر تبنّي العشوائية حلاً لهذه المشكلة. في الطبيعة، يضمن التطور، الذي يشمل الطفرات العشوائية جنباً إلى جنب مع ضغوط الانتقاء الطبيعي، استمرار تكيف الأنواع مع البيئة المتغيرة. متعلمين من الظواهر البيولوجية في الطبيعة، ينشئ مصممو الخوارزميات التطورية بسرعة مكونات عشوائية لحل مشكلة كبيرة، وبعد ذلك، تُجمع هذه المكونات معاً في حلول تجريبية تُقيّم وفقاً لدالة موضوعية أو دالة ملائمة.

في السياق السياسي، استفاد البشر من العشوائية لآلاف السنين. على سبيل المثال، استُخدم نظام القرعة في أثينا القديمة لاختيار القضاة لضمان عدم استخدام الأغنياء وأصحاب النفوذ لمواردهم للوصول إلى السلطة. في سياق الأعمال التجارية، يمكن للمؤسسات بسهولة أن تتبنى سلوكاً عشوائياً للتعامل مع تعقيدات المناورات السياسية والمفاوضات التي تصاحب تخصيص الميزانية لواحد أو أكثر من البدائل المتنافسة، فعادة ما يكون لكل بديل مؤيد خاص ويستخدم بيانات خاصة لتعزيز حجته. نظراً للطبيعة غير المتحيزة للتوزيع العشوائي بين الخيارات الممكنة، فإنها تضمن عدم شعور أي شخص بأنه مستبعد على نحو غير منصف.

لا تنتج كل التحيزات المقاومة للتغيير عن نجاح سابق. في السياقات السلبية جداً، يقع البشر فريسة للعجز المكتسب، إذ تدفع التجارب السلبية المتكررة الشخص للاعتقاد بأنه يفتقر للقدرة على تغيير ظروفه، وبالتالي، لا يحاول حتى اتخاذ القرارات. قد يؤدي تبنّي نهج عشوائي في صناعة القرار في مثل هذه الحالات إلى معالجة هذا التحيز للتقاعس عن العمل.

كيفية إدخال العشوائية في صناعة الاستراتيجية

غالباً ما يرتبط التصور الشائع للعشوائية بأحداث مثل رمي العملة المعدنية أو رمي النرد. ولكن بالنسبة لمشاكل الحياة الواقعية، فإن استخدام هذه التقنيات يتطلب فهم الخيارات الممكنة جميعها وإدراجها وتقييمها مسبّقاً، وهو ما يشبه تقريباً التحليل نفسه الذي تستخدمه لصياغة استراتيجية مثالية. مع ذلك، هناك العديد من الأساليب التي يمكن للاستراتيجيين استخدامها لدمج العشوائية في مجموعة أدواتهم الاستراتيجية وتحديد حلول عملية بما يكفي وفي الوقت المناسب لإحداث فرق مهم.

غيّر نقطة الانطلاق

على غرار خوارزميات التعلم الآلي، استخدم موجهاً عشوائياً لتغيير نقطة الانطلاق للبحث. على سبيل المثال، لمساعدة الموسيقيين على إطلاق العنان لإبداعهم، ابتكر برايان إينو وبيتر شميت مجموعة بطاقات تحتوي تعليمات تشجع التفكير الجانبي، تتضمن إجراءات مثل تغيير أدوار الآلات الموسيقية أو التركيز على العيوب أو استخدام سدادات الأذن لتخيل كيف تبدو الموسيقى دون سماعها. يساعد إدخال عنصر الصدفة في العملية الإبداعية في التغلب على العوائق الإبداعية ويضمن تجنب الموسيقيين عدم العودة إلى العادات والأنماط المألوفة نفسها.

غيّر الوتيرة

غيّر إيقاع البحث أو وتيرته (طول حلقة الملاحظات). في كثير من الأحيان، تقع الفِرق والمجموعات في مزلق روتين الجداول الزمنية الصارمة للتقارير الربع السنوية والمراجعات الشهرية والاجتماعات الأسبوعية، ولكن لإدخال العشوائية بذكاء في العملية، قد تضطر إلى العمل على مقاييس زمنية أقصر مثل الأيام أو حتى الساعات.

غيّر المكان

هل تبحث عن حلول قريبة من المكان الذي توجد فيه الآن أم بعيداً عنه؟ يمكن أن تساعد القفزات العشوائية على الخروج من الأنماط التي تعلق فيها عملية صناعة القرار الاستراتيجي من خلال استكشاف مناطق من مساحة البحث لم تُؤخذ في الاعتبار من قبل. على سبيل المثال، أثبتت الأبحاث أن الأسماك في المحيط الشاسع، حيث تندر الفرائس، تستخدم نمط بحث يتضمن الانتقال إلى مسافات عرضية ولكن طويلة جداً بين مناطق البحث، حيث يتبع هذا النمط نموذجاً رياضياً يُعرف باسم رحلات ليفي.

غيّر الأساليب الاستدلالية

هل تبحث من منظور عام ثم تنتقل إلى التفاصيل أو بالعكس؟ هل تتعمق في جانب واحد من المشكلة قبل استكشاف الجوانب الأخرى، أم تستكشف جوانب متعددة على مستوى واحد قبل التعمق أكثر؟ لا يمكن معالجة كل القضايا المعقدة باستراتيجية الاستكشاف نفسها. يعمل بعض الاستراتيجيات بصورة أفضل من الأخرى، ولا توجد طريقة واحدة مثالية لحل المشكلات جميعها.

غيّر الباحث

كلّف أفراداً مختلفين بالمسؤولية عن عملية البحث أو عن جوانب مختلفة منه. نظراً لأن الأشخاص المختلفين لديهم تحيزات وتفضيلات وأساليب مختلفة، فإن توزيع مهمة حل المشكلات بين مختلف الأفراد عشوائياً يمكن أن يساعد على تنويع نطاق الحلول المحتملة عشوائياً أيضاً.

كانت الشركات تطمح في الماضي إلى أن تكون مؤسسات تتمتع بالمعرفة الكاملة ويمكنها فهم بيئاتها والتحكم فيها إلى درجة تستطيع عندها رسم مسار واضح ومثالي للمضي قُدماً. ركزت بعض الشركات، بعد أن أدركت أن المعرفة الكاملة غير ممكنة، على عقلية “تعلم كل شيء”، وعملت باستمرار على تعديل نهجها مع ظهور معلومات جديدة.

في حين أن نهج “تعلم كل شيء” لا يزال فعالاً، نعتقد أن بالإمكان توسيعه لإنشاء نهج “البحث في كل شيء”، الذي ينطوي على التركيز على استكشاف البيئة بفعالية لتوليد المعلومات القيّمة التي تسمح بالتطوير السريع والفعال للخيارات المختلفة. يساعدك اتخاذ قرارات سريعة وعشوائية على تحقيق أهداف منهج “البحث في كل شيء”، وهو ما يعيدنا إلى قبيلة الناسكابي التي تبدو طقوسها الخرافية أكثر شبهاً بعملية صناعة القرار الذكي في مواجهة تحديات معقدة وغامضة.