الشركات تعيد النظر في طريقة تسيير أعمالها بسبب تغير سلوك أصحاب المصلحة
أدى التباعد الجسدي والعمل عن بعد وتقييد السفر والأثر النفسي للعزلة إلى تغيير سلوك أصحاب المصلحة في كافة المؤسسات، وهو ما أدى بدوره إلى ظهور تحديات جديدة لم تكن في الحسبان. وعلى الرغم من أنه من السابق لأوانه التنبؤ بالنتائج والاتجاهات طويلة الأجل المترتبة على جائحة "كوفيد-19"، فإن المؤشرات ترجح احتمالية حدوث تغير ملحوظ في طرق تشغيل الأعمال استعداداً للواقع الجديد استعداداً للواقع الجديد، وحدوث تغير في واقع بيئة عمل المؤسسات وطبيعتها في المستقبل القريب.
إذ يتعين على الشركات، في ظل تغير السلوكيات الظاهرة والخفية لأصحاب المصلحة، إعادة النظر في كيفية تسيير الأعمال والإسراع باتخاذ خطوات جادة لتنطلق بقوة أكبر بعد انقضاء الجائحة، وذلك من خلال التفكير في نموذج تشغيلي ينتمي للجيل التالي ويناسب الواقع الجديد ووضع الخطط اللازمة للانتقال إليه.
التأثير على 3 مجموعات رئيسية من أصحاب المصلحة
ستؤثر تلك التغييرات المستقبلية، والتي تُمثل حاضرنا الجديد، في سلوكيات 3 مجموعات رئيسية من أصحاب المصلحة، وهم: العملاء والموظفون وكلّ من الموردين والشركاء بطرق شتى.
ربما تتغير الميول والتفضيلات الشرائية للعملاء لتجنب القنوات التلامسية، ما يدفعهم لتوجيه مزيد من التركيز إلى الخدمات الرقمية وتكثيف الاعتماد على خدمات التوصيل. وقد يبدأ العملاء أيضاً بضبط أنماطهم الاستهلاكية نحو تقليل الاستهلاك والتركيز على الأساسيات وتأجيل تحديث الأجهزة والخدمات، باستثناء تلك التي تساعدهم حالياً على التواصل مع العالم الخارجي، مثل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، وكذلك البرامج الترفيهية والتواصل عن بعد. وربما يؤثر مرض "كوفيد-19" بالسلب على نفسية العملاء برفع مستوى شعورهم بالقلق والضجر، وقد تزداد حاجة العملاء لامتلاك السلع بدلاً من استئجارها لضمان نظافتها.
كما شهدنا بدء التزام البعض وعودة البعض الآخر للالتزام ببعض القيم والأهداف (مثل الموازنة بين الوقت الذي يقضونه في العمل وبرفقة أسرهم)، وأظهروا استعداداً لإجراء مقايضات هادفة ستُشكل خياراتهم الحياتية لفترة طويلة بعد انقضاء الأزمة الحالية، وأصبحوا في الوقت ذاته قادرين على تقييم منافع ومخاطر قراراتهم اليومية بشأن الأشخاص الذين يقضون الوقت بصحبتهم، والأماكن التي يذهبون إليها والأنشطة التي يمارسونها ومشترياتهم. وفي ظل اضطراب الأوضاع، يحاول الجميع السيطرة على أمورهم الحياتية التي يملكون زمامها (مثل النظام الغذائي والإنفاق وظروف المعيشة) ليشعروا بمزيد من الأمان والراحة وتأمين مستقبلهم.
وبالنسبة للموظفين، فقد لاحظنا تغير طريقة عملهم، حيث أصبحوا أكثر تقبلاً للعمل عن بُعد واعتادوا المعاملات الافتراضية. وأثبتت الدراسات التي أجرتها "ماكنزي آند كومباني" أن الموظفين الذين يمتلكون تجربة مستقرة وآمنة في العمل عن بُعد يُظهرون نتائج أفضل فيما يخص زيادة رفاهتهم وإنتاجيتهم.
ولكن يظل هناك تباين واضح في تجارب الموظفين، علاوة على أن الأسر التي يعمل أفرادها من المنزل وتلك التي لا يتاح لأفرادها العمل عن بعد لديها اعتبارات أخرى، ولا يمكن أيضاً إغفال خفض حجم العمالة وتداعياته التي ستجعل سوق العمل أكثر تنافسية وستنعكس بصورة أكبر على أصحاب العمل.
أما بالنسبة للموردين والشركاء فقد يلجؤون إلى التفكير في تقليص الأنشطة والعمليات التشغيلية والتركيز على المدى القريب وتأجيل الاستثمارات غير الأساسية ومحاولة خفض التكاليف، وربما يولون اهتماماً أكبر للمسؤولية الاجتماعية ويضعون احتواء العواقب البشرية للجائحة كأولوية مقدمة على تعظيم الربح، وفي الوقت ذاته، يستطيع الموردون والشركاء التحول إلى القنوات الرقمية، ما يقلل الحاجة لإجراء زيارات ميدانية للعملاء.
وخلال تعاملاتنا مع المسؤولين التنفيذيين في الآونة الأخيرة، أشار غالبيتهم إلى اعتقادهم بأن معظم طلبات العملاء المتعلقة ببدء الأعمال والحصول على الخدمات وتجديد الاشتراكات من الممكن تلبيتها عبر الإنترنت بواسطة الأجهزة الرقمية والجوال والفيديو والدردشة، مع بقاء قلة فقط من العمليات المستقبلية التي سيتطلب إجراؤها وجود قنوات فعلية قائمة، كما تواجه الشركات تحديات إضافية تتعلق بالإنتاجية، حيث يعتقد أكثر من نصف أولئك الذين تواصلنا معهم أن مؤسساتهم ستواجه ضغوطاً لزيادة الإنتاجية بنسبة تزيد على 10% سنوياً لتعويض الخسارة.
وكانت للتحولات التي أجراها كل من العملاء والموظفين والموردين والشركاء آثار ظهرت عبر سلاسل القيمة، وأثّرت في المنتجات والمبيعات والقنوات والخدمات وعمليات الدعم، وستؤثر أيضاً في أنماط القوى العاملة والعمليات التشغيلية داخل مقار العمل والموردين والشراكات.
استدعينا في هذا المقال أمثلة من جميع أنحاء العالم لإلقاء نظرة على بعض هذه التحولات السلوكية بمزيد من التفصيل.
المبيعات والقنوات: ابتعد عن مراكز البيع الكبيرة
إذا أرادت الشركات التكيف مع السلوكيات الشرائية المتغيرة للعملاء، فيمكنها التحول من مراكز البيع الكبيرة إلى عدد أقل من مراكز البيع الصغيرة الأقل اعتماداً على العامل البشري، مع الترويج للقنوات الرقمية. ونجحت العديد من الشركات بالفعل في تنفيذ هذا التحول قبل الجائحة، بينما لم ينتبه البعض الآخر للأمر سوى الآن. فنرى على سبيل المثال إطلاق مجموعة "دي آتش إل" (DHL) للخدمات اللوجستية خدمة التوصيل والدفع دون تلامس من خلال نقاط التسلّم الآلية، بينما تعقِد حالياً إحدى دور المزادات الشهيرة مبيعاتها افتراضياً عبر القنوات الرقمية. وتستعين إحدى المجموعات الرائدة في مجال صناعة السيارات في أوروبا بالمتاجر المؤقتة لترشيح المنتجات الجديدة للعملاء في المواقع والأوقات ذات الصلة بالاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي، واتجهت إحدى أكبر مجموعات شركات الاتصالات إلى تحسين جهودها التسويقية من خلال إعادة تخصيص جزء من ميزانيتها للإنفاق على القنوات الرقمية.
وتُعد "أمازون" مثالاً بارزاً آخر على هذا الاتجاه، حيث توفر متاجر "أمازون غو" (Amazon Go)، القائمة على أرض الواقع، تجارب مبتكرة وفريدة لعملائها، حيث لا يحتاج عملاء المتجر سوى تمرير تطبيق هواتفهم الذكية عند دخولهم المتجر، وهي النقطة الوحيدة التي يحتاجون فيها لهواتفهم، حيث تلتقط أجهزة البلوتوث المثبتة على الرفوف تلقائياً إشارات السلع التي يختارها العميل، وبناءً على البيانات الصادرة عن حساسات الوزن على الأرفف تُحتسب المنتجات المضافة أو يتحدد إزالتها من السلة الرقمية الخاصة بالعملاء. وعندما يغادر العملاء المتجر، تصلهم قائمة بأسعار المشتريات، مع خصم المبلغ الموضح لاحقاً من حسابهم على "أمازون"، وهذا النظام لا يسهم فقط في راحة العملاء، وإنما يلبي أيضاً حاجتهم لتقليل التفاعلات البشرية عند التسوق.
وفي مثال آخر، قامت إحدى شركات الاتصالات بترحيل عملية المبيعات الخاصة بترقية حزم الأسعار ووجّهت كل تركيزها نحو جعل الهاتف المحمول هو القناة الأولى للعملاء، وهو ما أدى إلى اختصار إجراءات سير العمل من 14 خطوة إلى 3 خطوات فقط من أجل مزيد من المراعاة للطابع الشخصي للعملاء، ما أدى بدوره إلى زيادة معدلات تحويل العملاء إلى هذه الشركة بصورة ملحوظة.
تصميم منتجات بسيطة للترويج للمبيعات الرقمية
يُعد تبسيط المنتجات لتحفيز المبيعات الرقمية التي يجريها العملاء عن بعد، إحدى طرق تلبية متطلبات العملاء المتغيرة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما فعلته شركة "زين" السعودية، حيث اهتدت سريعاً إلى تطوير منتجات رقمية تلبي الاحتياجات المتغيرة لعملائها، فأطلقت المشغل الرقمي الشامل "ياقوت" في المملكة العربية السعودية، وأصبح مثالاً على "البساطة المتطورة" التي تجمع بين تجربة الاتصال الرقمي الكامل مع خدمات الإهداء الرقمية.
يعتمد نموذج تشغيل الجيل التالي بصورة أساسية على توفير البساطة والسرعة والراحة للعملاء والموظفين والموردين والشركاء، باستخدام القنوات الرقمية بصفة رئيسية.
نمت قاعدة المستخدمين بسرعة خلال الجائحة وغدت تجربة العملاء اللاتلامسية (التي توفرها شرائح الاتصال المدمجة) مثالاً على خدمات العصر الجديد، وفي المقابل بات التباعد الجسدي جزءاً من الحياة اليومية. وجاءت تلك العملية ضمن أعمال إحدى شركات الاتصالات ومقرها الكويت، حيث تكون المنتجات المبسطة أكثر ملاءمة للمبيعات عبر القنوات الرقمية، ما يجعلها خياراً أكثر ملاءمة للواقع الجديد.
وتبحث العديد من الشركات، بالإضافة إلى تبسيط منتجاتها، في كيفية تطوير نماذج تسعير تستهدف تحفيز مشاعر الولاء لدى المستهلك، بدلاً من العروض الترويجية قصيرة الأجل التي تجعلهم ينصرفون عن المنتجات بعد نهاية العرض الترويجي.
الخدمات والدعم: الانتقال إلى الخدمات الرقمية عن بُعد
تستطيع المؤسسات تغيير خدماتها وأشكال الدعم التي تقدمها من أجل تلبية السلوكيات الجديدة لعملائها وموظفيها، فنجد أن بنك "دي بي إس" (DBS)، ومقره سنغافورة، يقدم خدماته للعملاء من خلال أجهزة وأكشاك الصراف الافتراضي الرقمية بدلاً من الفروع القائمة على أرض الواقع.
وشهدنا إنشاء بنك "تينكوف" (Tinkoff) الرقمي الروسي المنشأ لمراكز اتصال سحابية يديرها موظفون يعملون بنظام العمل الحر، ففي عام 2012 أطلق البنك الذي يركز بالكامل على تقديم خدماته عن بُعد مركز الاتصال السحابي، ويبلغ الآن عدد مشغلي مركز الاتصال من العاملين لدى البنك 14,000 فرد يعملون من منازلهم، ويُجري 6,000 منهم 500,000 مكالمة يومياً مع العملاء، ولا ينتمي معظم مشغّلي مركز الاتصالات للقطاع المصرفي، فهم يعيشون في المدن، حيث الرواتب أقل من موسكو، ويمتلكون جداول عمل مرنة.
واستطاع البنك توفير نفقات تأجير المكاتب والمعدات لأماكن العمل وإنفاقها بدلاً من ذلك على اختيار مشغّلي مركز الاتصال وإدارتهم وتدريبهم، وفي ظل خفض التكاليف، تمكن البنك من زيادة الرواتب المدفوعة لهم، حيث تزيد رواتب مشغّلي "تينكوف" الذين يعملون عن بعد عن رواتب المشغّلين الإقليميين الذين يعملون من المكاتب بنسبة 30%. واستطاع البنك خلال الفترة من 2012 وحتى عام 2017 مضاعفة محفظة بطاقته الائتمانية لأكثر من الضعف.
وفي مجال الاتصالات، نلاحظ اكتفاء الشركات عند انطلاقها بتوفير عروض رقمية حصرية تعيد من خلالها صياغة تجارب العملاء واكتساب زخم هائل. ويعتمد العرض الحصري للقيمة الرقمية على تسجيل المستهلكين لأنفسهم، وهو ما أدى إلى إجراء 100% من معاملات العملاء من خلال القنوات الرقمية، وإتمام أكثر من 80% من كافة أنشطة خدمة العملاء عبر الإنترنت بالكامل. في هذا النموذج، تصبح برامج الإحالة عبر الإنترنت مصدراً رئيسياً لاكتساب العملاء، حيث تمثل حوالي 15% من إجمالي المبيعات.
القوى العاملة: التحول من نماذج القوى العاملة الثابتة إلى النماذج المرنة
يمكن للشركات التكيف مع الاحتياجات المتغيرة للموظفين من خلال التحول من نموذج القوى العاملة الثابت إلى نموذج أكثر مرونة، ومثالاً على ذلك ما فعلته إحدى شركات توصيل الطعام عبر الإنترنت، حيث أنشأت نظام مكافآت مغايراً تماماً وجعلته قائماً على الأداء.
ويقدم أحد مُقرضي الرهون العقارية البريطانيين خدمات التوصيل المنزلي للقروض وبطاقات الائتمان وخدمات التحصيل المنزلي للديون والقروض الإلكترونية عبر الإنترنت وتمويل السيارات الاستهلاكية، ويتولى إجراء هذه المهمات قوة عاملة تعمل لحسابها الخاص. وينتقل الوكلاء الذين يُلقَّبون بمدراء تجربة العملاء من منزل لآخر لتسويق قروض صغيرة دون ضمانات، ويجرون عمليات التحصيل باستخدام التكنولوجيا المحمولة للتحكم في إصدار الائتمان ومتابعة العملاء المحتملين وتسجيل الشكاوى.
في حالة هذا المُقرض، يُجري المدراء زيارة أسبوعية للعملاء لتسجيل المدفوعات وتحصيلها باتباع نموذج عمل مرن. وتُحتسب العمولات على أساس المبيعات والتحصيل. ويشير مقدمو الخدمات إلى انخفاض معدلات التخلف عن السداد باتباع هذا النموذج الذي يستدعي الدفع بزيارات مباشرة للعملاء، فبذلك يوطّد المقرضون علاقاتهم بأكثر من 800,000 عميل.
مقر العمل: التحول إلى تشغيل مقار العمل الرقمية عن بعد
تحولت المؤسسات بالفعل إلى تشغيل مقار العمل الرقمية عن بعد وتوسعت في عقد الاجتماعات والفعاليات عن بُعد كطريقة عمل افتراضية، وحازت العديد من مشاريع الرقمنة الأولوية في ظل سعى المؤسسات إلى تقليل الاضطراب وإضفاء قيمة آنية مع وضع أساس راسخ للمستقبل.
كما شهدنا نجاح إحدى كبرى شركات التأمين في أتمتة الأعمال الروتينية، بإطلاقها 13 روبوتاً برمجياً لتأدية أعمال إدارية متكررة، مثل حفظ مراسلات العملاء في قسم المطالبات، حيث تتولى الروبوتات مهمة استخلاص المعلومات من مراسلات العملاء ومطابقتها مع بيانات حساباتهم، وينجزون المهمة بنجاح خلال 42 ثانية فقط وليس في 4 دقائق، وهو الوقت الذي يستغرقه الموظف العادي لإتمام المهمة، وهذا يتيح للموظفين التفرغ لأداء الأعمال الأهم والتركيز على المطالبات الأكثر تعقيداً التي تتطلب مهنيين ذوي خبرة. وفي الوقت الحالي، تتولى الروبوتات مساعدة العملاء في فرق وحدات المطالبات الخاصة بالعقارات والممتلكات التجارية والالتزامات، وبتطبيق هذا الحل الآلي استطاعت الشركة توفير 18,000 ساعة من العمل البشري، وهو ما يعادل مكاسب إنتاجية تقدر بحوالي 173,400 دولار.
وفي الوقت ذاته، أثبتت طرق العمل بمنهجيات أجايل المرنة فاعليتها في بيئة العمل عن بُعد، على الرغم من أنها تقتضي عادة تقارب الحيز المادي الذي يعمل فيه أفراد الفريق الواحد، وتُجرى العديد من ممارسات أجايل المرنة التي تتطلب تواصلاً مباشراً عبر الإنترنت دون انقطاع، بما في ذلك الاجتماعات ومراجعات الأعمال ربع السنوية.
وهناك شركات وضعت معايير ونماذج عمل جديدة، فقد أنشأت إحدى شركات الاتصالات ساعات عمل مرنة (مناوبة مدتها ساعتان)، كما سمحت للموظفين بالعمل من أماكنهم المفضلة، بينما لجأت الشركات الأخرى لاتباع المنهجيات الرشيقة في إدارة مقار العمل، بما في ذلك التناوب على العمل في حيز مكتبي مشترك.
الموردون والشراكات: التحول إلى الشراكات التعاونية الرشيقة
يمكن للمؤسسات التكيف مع التفضيلات المتغيرة للموردين والشركاء من خلال التحول إلى شراكات أكثر تعاوناً ومرونة، والتي يمكن أن تتخذ أشكالاً مختلفة، فهناك على سبيل المثال، شركة استشارية رائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات تعمل مع الموردين عن بُعد بدلاً من العمل الميداني لتقليل تكاليف سفر الموردين وتكاليف العمل بالمكتب. وفي مثال آخر، تعمل شركة مستحضرات التجميل مع عملائها بصفتهم شريكاً في تصميم المنتجات وإنتاجها وبيعها وتوصيلها للعملاء، وتوفر مؤسسات أخرى اتفاقيات مع موردين محددين لبناء علاقات وإمكانات طويلة الأجل، مثل دعم "علي بابا غروب" (Alibaba Group) لموردي المؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم بتوفيرها لاعتمادات ائتمانية موسعة.
ويتبع بعض روّاد قطاع صناعة السيارات نهج الموازنة بين التصميم والقيمة لتحسين التكلفة بصورة جذرية مع الحفاظ على علاقتهم بالموردين بضمان تحقيق الربح للطرفين.
وعند إعادة تصميم مخططات أسلاك السيارات، استعانت إحدى الشركات المصنعة للسيارات بمناقشاتها مع العملاء الحاليين والفرق المسؤولة عن المنتجات بالإضافة إلى التحليل التنافسي لتحديد النهج الذي سيتبعونه، مع توجيه تركيز أكبر وأكثر تنظيماً يستهدف إضفاء قيمة تصل للمستخدم النهائي، بالإضافة إلى رغبتها في توطيد روح الشراكة التعاونية مع الموردين التي تضمنت ورش عمل لخفض التكاليف، وفي النهاية تمكنت الشركة من تحقيق وفورات كبيرة.
وهناك إحدى الشركات الأوروبية الرائدة في قطاع صناعة السيارات، والتي عقدت أكثر من 50 اجتماع متابعة عقب كل ورشة عمل للموردين لتحديد أولويات الأفكار ووضع خطط التنفيذ، بالإضافة إلى عقدها لورش عمل للموازنة بين التصميم والقيمة بغرض مقارنة الأجزاء عالية القيمة بنظيرتها التي يستخدمها المنافسون الأساسيون. وسعت الشركة لابتكار أكثر من 80 فكرة يومياً، جميعها أفكار تعود بالنفع المادي، وأنشأت فرقاً متعددة الوظائف تضم مُصنعي ومُوردي المعدات الأصليين.
كما شهدنا اتجاهاً تتكون فيه الشراكات بناء على فهم متكامل لاحتياجات العملاء، حيث يمكن لكلا الشريكين دمج معارفهما لتوليد قيمة مضافة، وفي الآونة الأخيرة كان للشراكة المنعقدة بين "جيو بلاتفورمز" (Jio Platforms) ومقرها الهند، وتطبيق "واتساب" الذي تملكه "فيسبوك"، الفضل في إعادة تعريف الطريقة التي يمكن لشركة الاتصالات اتباعها لتوليد القيمة، عبر منصة التواصل الاجتماعي "جيومارت" (JioMart)، وبإطلاق مبادرة الأعمال التجارية الصغيرة بالتعاون مع "واتساب" أصبح بإمكان العملاء الاتصال بالشركات مباشرة وإتمام عملية شراء المنتجات من خلال تجربة الهاتف المحمول السلسة عبر تطبيق "واتساب"، وسيمتد نطاق هذه الفكرة ليضم شركات ومتاجر ومنتجات أخرى وإتاحة شرائها عبر تطبيق "واتساب".
نظم إدارة للنماذج الجديدة
اضطرت الشركات في ظل مواجهتها لحالة الارتباك التي فرضها الواقع الجديد، إلى البدء بالبحث عن طرق عاجلة للتكيف مع نماذج الإدارة الافتراضية، ومن بين العناصر الأساسية لهذا التكيف ضرورة التمييز والفصل بين الإجراءات التي ستستمر على أرض الواقع، مقابل تلك التي ستنتقل كلياً أو جزئياً إلى الفضاء الافتراضي، حيث يكون بإمكان المؤسسات تصميم آليات لمراقبة الإنتاجية عن بُعد والتي تُجري جولات منتظمة وشاملة عبر المواقع الرقمية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للقادة الإبقاء على أنظمة الإدارة والتدريب بجانب استعانتهم بمنهجيات أجايل المرنة المقترنة بالبرمجيات التعاونية.
تمكين تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني وتخفيف المخاطر التشغيلية
ربما تفكر الشركات في الاستعانة بالأتمتة وأدوات التحليلات المتطورة والعمليات الرقمية، للاستجابة بفاعلية للظروف سريعة التغير، بهدف تعزيز تجارب العملاء والاستجابة السريعة للتقلبات في طلبات العملاء. وستتوافر إمكانات جديدة وفقاً لاتساع نطاق التفاعلات بين العنصر البشري والتكنولوجيا، وستساعد هذه التفاعلات أيضاً المؤسسات على جمع بيانات ورؤى لزيادة الإنتاجية القائمة على تكنولوجيا المعلومات.
وستُنتج نماذج التشغيل الجديدة حتماً مخاطر جديدة لا بد من معالجتها، وحينئذ يمكن للشركات اتخاذ موقف أكثر استباقية لتخفيف المخاطر من خلال تضمين الضوابط المناسبة في أثناء تصميم النموذج وبعد إطلاقه. ولا بد من دمج إدارة المخاطر في نماذج تشغيل الجيل التالي، وفي جميع المراحل عبر كافة اختصاصات العمليات التشغيلية، مع وضع منهجيات خاصة للأنشطة الفعلية والرقمية والأخرى التي تُجرى عن بعد.
سعياً للتكيف مع السلوك الشرائي المتغير للعملاء، بدأت العديد من الشركات في الترويج للطرق اللاتلامسية عند توصيل سلعها وخدماتها، ويشمل ذلك المنافذ القائمة بالفعل. فقد نجحت بعض الشركات في إتمام هذا التحول قبل الجائحة، بينما لم ينتبه لها البعض الآخر سوى الآن.
كيفية التعامل مع تغير نماذج التشغيل بعد جائحة "كوفيد-19"
لا مفر من مواجهة المؤسسات واقعاً جديداً، حتى مع بدء تخفيف القيود المتعلقة بالجائحة، فتلك التي ستتكيف سريعاً ستحصد مزايا لحاقها بالصدارة وربما تنجح في الاستحواذ على قطاعات السوق غير المستغلة.
وتشير الدراسات التي أجريناها حول تغييرات نماذج التشغيل إلى أهمية تحديد تطلعات واضحة لنموذج التشغيل المرتبط بالأولويات الاستراتيجية والاحتياجات المستقبلية. ويتضح لنا بعض التغييرات الحتمية، مثل التباعد الجسدي، أو زيادة معدلات قبول التعاملات الرقمية، وتغيرات الطلب بسبب انخفاض القوة الشرائية، ويمكن إيجاد بعض الحلول للعديد منها، ولكن من الضروري اتخاذ خطوة إضافية لفهم كيفية تغير سلوك العملاء الملحوظ وسلوك الموظفين والمتعهدين. فلا بد من استطلاع مخاوف العملاء الجدد واحتياجاتهم التي لا تزال قائمة، وتأمل مدى توافق كل عنصر من عناصر نموذج التشغيل مع التوقعات الجديدة وتحديد ما إذا كان يلزم إجراء تغيير معين.
اجعل أفضل الممارسات مصدراً لإلهامك، تعرّف على كيفية تغيير الشركات لنموذج التشغيل الخاص بها وحاول رصد الأنماط المشتركة، ويمكن اتباع بعض التغييرات باعتبارها أفضل الممارسات الناشئة، ومن بينها: رقمنة المبيعات وقنوات تقديم الخدمات، والتأكد من توفير المسافات المناسبة لتطبيق تدابير التباعد الجسدي بين العملاء والموظفين، والعمل مع الشركاء لتوفير التكلفة، ومحاولة الحفاظ على روح التعاون والعمل عن بُعد، مع توفير مساحة لقبول الأفكار الجديدة تماماً. ربما يقتضي النهج الأكثر عملية البحث عن أمثلة في القطاعات الأخرى وتجربتها في نموذج التشغيل الخاص بشركتك.
الاستعداد لعالم ما بعد الجائحة
على الرغم من صعوبة التنبؤ بآفاق وشكل الواقع الجديد الذي ستخلفه جائحة "كوفيد-19"، يظل متاحاً أمام المؤسسات مجموعة متنوعة من الخيارات للتكيف مع السلوكيات المتغيرة لأصحاب المصلحة (انظر إلى مقال: "جاهز، مستعد، انطلق: إعادة تشكيل المؤسسات للانطلاق سريعاً في عصر ما بعد الجائحة" Ready, set, go: Reinventing the organization for speed in the post-COVID-19 era). وستستمر العديد من الاتجاهات عقب انتهاء الأزمة، كتلك المرتبطة بالتباعد الجسدي والعمل عن بعد، وبإمكان المؤسسات الاستعداد من الآن لهذه الاتجاهات الناشئة طويلة الأجل.
ستؤثر تلك التغييرات لا محالة على العملاء والموظفين والموردين والشركاء بطرق شتى، وتتحول المؤسسات بالفعل لتلبية هذه الاتجاهات، بدءاً من الانتقال إلى المنتجات الرقمية شديدة التبسيط وانتهاء بإنشاء عمليات تشغيل للعمل عن بعد، وطرق تشغيل الأعمال استعداداً للواقع الجديد. قد تحتاج الشركات إلى التوصل إلى نهج قوي يساعدها في تحويل نموذج التشغيل الخاص بها لتلبية متطلبات كافة أصحاب المصلحة في ظل ظروف الواقع الجديد وهو إجراء يمنح أي مؤسسة الأفضلية في عالم ما بعد الجائحة.