عندما أصدرت إدارة الأغذية والأدوية الأميركية موافقتها الأولى على علاج جيني لمرض وراثي عام 2017 - وهو علاج لنوع من فقدان البصر - تم الإعلان عنه وتقديمه على أنه فتح علمي؛ إنها لحظة استغرقت عقوداً من الزمن في صناعتها. ومع وجود العشرات من العلاجات الأخرى المعدلة وراثياً التي تمر في مرحلة التجارب السريرية، بدا أن حقبة الطب الجيني المخصص التي طال انتظارها باتت في متناول اليد.
ولكن كان هناك مشكلة: فعلاج "لوكستورنا" (Luxturna) من إنتاج شركة سبارك ثيرابيوتكس (Spark Therapeutics) والذي يعطى مرة واحدة، تبلغ تكلفته 850,000 دولاراً.
في تقرير بحثي صدر مؤخراً عن بنك غولدمان ساكس حول الوعد بالعلاجات الجينية، طرح المحللون سؤالاً يفرض نفسه في قلب معضلة متنامية أمام قطاع الرعاية الصحية: "هل يعد علاج المرضى نموذج أعمال مستدام؟" مع ظهور هذه الموجة الأولى من العلاجات الجينية في السوق، يواجه قادة الصناعة خياراً قاسياً، فهذه العلاجات يمكن أن تنقذ حياة الكثيرين أو تغيرها، لكن تكلفتها مرتفعة بشكل غير مسبوق. فقد صرّحت شركة نوفارتس (Novartis) مؤخراً أن علاجها الجيني المنقذ للحياة والذي يعالج مرض الضمور العضلي الشوكي سيكون "فعالاً من حيث التكلفة"، حيث سيبلغ سعره من 4 إلى 5 ملايين دولار – في إشارة إلى السعر الذي تسعى إليه الشركة. ومع تزايد استخدام هذه العقاقير باهظة الثمن، يبدو أن نماذج التأمين التقليدية لن تتمكن بحال من الأحوال من دفع ثمنها دون صرف أموال طائلة، أو مطالبة المرضى بتحمل جزء كبير من التكلفة.
خذ بالاعتبار ما حدث لشركة يونيكيور (UniQure) الهولندية في أمستردام. في عام 2016، اضطرت الشركة إلى سحب علاجها الجيني الذي يعالج العجز في تحويل الدهون، وهو مرض قد يؤدي إلى الوفاة من السوق الأوروبية. فمع سعر العلاج الذي يبلغ مليون دولار، ومحدودية البيانات الموجودة حول فعالية الدواء، ووجود 700 مريض محتمل فقط في أوروبا، لم تكن الأنظمة الصحية مستعدة لدفع تكاليف العلاج. يوجد لدى شركات الأدوية الحيوية (Biopharma) حالياً 58 علاج جيني وعلاج بالخلايا المعدلة وراثياً في المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، ومن المتوقع أن تحظى 35 منها تقريباً بموافقة إدارة الأغذية والعقاقير الأميركية بحلول عام 2022، من أصل حوالي 1,000 علاج مرشّح. قد تواجه هذه العلاجات الجديدة مصيراً مماثلاً إذا لم يكن بالإمكان خفض الأسعار. ولا بد من القيام بشيء ما حيال ذلك.
نماذج جديدة للأعمال
توصل بحثنا حول الابتكارات الرئيسية إلى أنه عند حدوث زعزعة، لا تحل التقنيات محل التقنيات الأخرى؛ بل تحل النظم الجديدة محل النظم الحالية. بعبارة أخرى، لا يمكننا وضع فئات المنتجات التي تختلف مقاييس الأداء الخاصة بها اختلافاً أساسياً ضمن نموذج العمل الحالي وأن نتوقع أن تعمل بنجاح. فيجب إعادة ابتكار نموذج العمل - من حيث كيفية خلق القيمة والحصول عليها وتقديمها - لدعم الفكرة الجديدة.
عندما يتعلق الأمر بالعلاجات الجينية، هناك إدراك متزايد بأن تسخير العلوم المتقدمة لعلاج الأمراض ليس كافياً ببساطة. توصّل بعض المبتكرين في مجال الصناعة إلى نماذج دفع جديدة تجعل من الممكن تشارك جهات مختلفة في المخاطر والتكاليف بطرق قد تساعد على إطلاق وتنشيط أسواق جديدة، وعلاج المزيد من المرضى. يجري حالياً نشر بعض هذه النماذج الجديدة - وبعضها الآخر ما زال قيد الأفكار النظرية. لكنها توضح عناصر التحكم التي يمكن للشركات توظيفها من أجل جعل العلاجات في متناول يد الجميع من حيث التكلفة المعقولة وإمكانية الوصول إليها.
وعلى حد قول جيفري مارازو، الرئيس التنفيذي لشركة سبارك ثيرابيوتكس: "نحن نسعى جاهدين لتحقيق نفس المستوى من الابتكار من حيث تقديم هذا المنتج وإمكانية الوصول إليه"، تماماً كما فعلت الشركة في تطويرها للعلاج. ولتحقيق هذه الغاية، قاد جيفري مارازو جهوداً لتطوير نموذج أعمال جديد بحيث لا تحصل شركة سبارك ثيرابيوتكس بموجبه على مقابل العلاج إلا في حال نجاحه واستمراريته على المدى الطويل، ويكون الدفع مقابل العلاج الناجح على شكل أقساط. سيكون ذلك النموذج أكثر تشجيعاً لشركات التأمين لأنه يلغي خطر دفع مبالغ مالية مقابل علاج فاشل، كما أنه يحقق الفائدة لشركة سبارك من خلال زيادة استعداد شركات التأمين لدفع ثمن هذا العلاج الباهظ. بالإضافة إلى ذلك، سوف تمنح شركة سبارك خصومات للجهة القائمة بالدفع (شركة التأمين) في حالة عدم الوصول إلى نتيجة معينة يتم قياسها - وهي في هذه الحالة تحقق جودة الرؤية - مع مرور الوقت، مع تحديد علامات القياس بحيث تكون مع مرور شهر واحد، و3 أشهر، و30 شهراً.
أبرمت شركة سبارك ذلك العقد مع شركة هارفارد بيلغريم للرعاية الصحية (Harvard Pilgrim Healthcare)، وهي تتفاوض أيضاً مع مراكز الرعاية الصحية والخدمات الطبية الأميركية (Centers for Medicare and Medicaid Services) لبدء العمل بنموذج يمكن من خلاله تقسيط المدفوعات على مدى سنوات، واستمرار دفعها فقط إذا بدا أن العلاج دائم وناجح.
الأدوات المالية الجديدة
لكن قد لا تكون تلك النماذج المعتمدة على القيمة كافية. إن جزءاً من العوامل التي تجعل اقتصاديات علاج المرضى صعبة هو أن المستهلك الأميركي العادي يبدل خططه الصحية كل سنتين أو ثلاث سنوات، وذلك بسبب تغييره لمكان عمله، أو بسبب تغيير خطط التأمين من جانب مكان العمل نفسه. فلن ترغب جهة في دفع فاتورة علاج يستمر مدى الحياة وتخسر العميل (المريض) بعد ذلك، وتتيح الفرصة للجهة القائمة بالدفع (شركة التأمين) التالية للاستفادة من ذلك الاستثمار مجاناً.
لننظر إلى مفهوم الهيلثكوين "العملة الصحية" (HealthCoin)، وهو نهج يحفز شركات التأمين على الدفع للمؤمّنين لحصولهم على تدابير وقائية وعلاجات مكلفة تؤخذ مرة واحدة، عن طريق إنشاء أرصدة يمكن تداولها مثل السندات. إن حلول الهيلثكوين، عند التعامل معها على نطاق واسع، وربما تنفيذها من خلال تقنية بلوك تشين (Blockchain Technology)، يمكن أن تجعل التحسينات القابلة للقياس في مجال الصحة أكثر "أماناً"، بحيث يمكن توفير طريقة شفافة لتقييم الأشياء الصغيرة، مثل تغيير السلوك بصورة فعالة، والأشياء الكبيرة مثل العلاجات الجينية الاستشفائية. ويمكن بعد ذلك تمرير هذه القيمة من أحد أصحاب المصلحة (مثل شركة التأمين) إلى جهة أخرى.
وقد تم طرح هذا الحل للمرة الأولى في ورقة بحثية عام 2016 تقدم بها الباحث في جامعة واشنطن أنيربان باسو، مع باحثين من شركة فايزر (Pfizer) براسون سوبيدي وساشين كمال بال، كطريقة لضمان قدرة الجهات القائمة بالدفع على الحصول على القيمة التي يدفعونها.
على سبيل المثال، يضع المؤلفون هذه الفرضية، ماذا لو تم تطوير علاج وراثي لمرض السكري من النوع 2؟ وهنا كتب المؤلفون: "تبلغ التكاليف الطبية والتكاليف غير المباشرة السنوية المرتبطة بالمجموعة السائدة لمرض السكري حوالي 218 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها". للتغلب على مشكلة حصول شركة التأمين التالية على الفائدة مجاناً دون مقابل - حيث يمكن أن ينتهي الأمر بشركة التأمين أن تغطي التكاليف الكاملة التي تدفع لمرة واحدة لقاء علاج لمريض ينتقل بعد ذلك إلى شركة تأمين أخرى – سيكون لزاماً أن يُطلب من شركة التأمين الجديدة شراء العملة الصحية للمريض. ولكن بما أن ذلك السند المالي سيظل محتفظاً بقيمته على مدى سنوات، فإنه يمكن إعادة بيع العملة الصحية في وقت لاحق، مع استرداد معظم التكلفة أو جزء منها.
النماذج القائمة على الأقساط
وتعتبر نظم الدفع الأخرى أكثر نظرية، على الرغم من أنها مستوحاة من حالات واقعية. فعلى سبيل المثال، لننظر في حالة رجل يدعى أليكس،وهو موظف يبلغ من العمر 30 عاماً ويعيش في بوسطن. استخدم أليكس خدمة شركة 23 آند مي (23andMe) لتحليل الحمض النووي الخاص به، ووجد الاختبار أن لديه خطر وراثي مرتفع للإصابة بمرض الزهايمر. يقول أليكس: "هذا مرض رهيب ومخيف". ومع معرفته بذلك الأمر وقتها، بدأ أليكس بالتبرع بالمال لمؤسسة تدعم أبحاث مرض الزهايمر، على أمل أن يتم العثور على علاج في الوقت الذي قد يحتاجه لاحقاً في حياته.
يقود هذا الاستعداد للدفع في وقت مبكر قبل الحاجة إلى العلاج إلى فكرة نموذج الأعمال المبني على الأقساط. حيث يمكن للأشخاص في الثلاثينيات أو الأربعينيات من العمر دفع أقساط شهرية صغيرة لتمويل تطوير علاجات جديدة، وإذا أثبتت هذه العلاجات نجاحها، فإنهم سوف يجنون أرباحاً كمستثمرين، والتي لن تتمثل في حصولهم على العلاج على أساس تفضيلي، ولكن كمستثمرين مسؤولين اجتماعياً، مثل أولئك الذين يستثمرون في شركات التقنية النظيفة.
قد يكون هذا النموذج مزيج هجين بين صناديق "المشاريع الخيرية" المرتبطة بظروف محددة، مثل صندوق مرض السكري من النوع الأول (T1D) التابع لصندوق أبحاث مرضى السكري (Juvenile Diabetes Research Fund’sT1D Fund)، الذي يستثمر الأموال في منتجات وعلاجات لعلاج داء السكري من النوع الأول)، مع صناديق المخاطر المعنية بالأمراض النادرة في أنظمة جهة الدفع الأحادية (شركة التأمين الواحدة). ففي كندا والمملكة المتحدة، على سبيل المثال، قامت المؤسسة الكندية للتأمين الدوائي (Canada DrugInsurance Pooling Corporation) وصندوق المملكة المتحدة لمكافحة السرطان (UK Cancer Drug Fund) بتوزيع الأثر الناتج عن المطالبات الدوائية عالية التكلفة على جميع شركات التأمين، مع جمع الأموال من المانحين وصناديق التمويل الحكومي المخصصة.
من غير المحتمل أن يكون هناك نموذج أعمال واحد يناسب الجميع عندما يتعلق الأمر بالعلاجات الجينية الاستشفائية؛ وسوف تعتمد أنواع الابتكار المطلوبة للحصول على العلاجات التحويلية للمرضى المحتاجين على الدواء والمرض وبيانات المريض والنظام الصحي. ولكن لكي تُؤتي الثورة الجينية ثمارها بحق بالنسبة للمرضى وكذلك لشركات الأدوية الحيوية، يجب على القادة أن يوظفوا قوة الابتكار لديهم في خلق نماذج أعمال جديدة إضافة إلى تطويرهم واختبارهم للعلاجات بأنفسهم.