صادفت، خلال وجودي في منطقة وادي السيليكون وجامعة ستانفورد في الولايات المتحدة الأميركية قبل أيام، الإعلان عن ظهور شركة ناشئة جديدة تسعى لتحقيق هدف غريب، وهو تقديم تكنولوجيا لمراكز خدمة الزبائن التي يعمل فيها موظفون من جنسيات غير أميركية مثل الهندية أوالفلبينية أو غيرها، بحيث يتم تفعيل هذه الميزة عند اتصال الزبائن لتتحول لهجة الموظف الهندي أوالفلبيني أو المغترب إلى لهجة الأميركي الأبيض عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي في التحويل الفوري لطريقة الحديث ومخارج الحروف والصوت.
هذه الشركة التي تدعى ساناس (sanas)، أسسها ثلاثة طلبة من جامعة ستانفورد، وقد بدأت تجاربها باستخدام الذكاء الاصطناعي في عام 2021، وأحدثت ضجة منذ الإعلان عن حصولها على تمويل كبير هذا العام وبدء عملها بشكل رسمي. جاءت الضجة أولاً من جامعة ستانفورد فقد كنت حاضراً في جلسة لأحد أساتذة الجامعة، وهو جيرمي ونستين، المدرس والباحث في مختبر ستانفورد للتأثير، والذي يدرس تأثير العلوم والتكنولوجيا على البشر، فقد كان غاضباً وساخراً من ظهور مثل هذه الشركة التي اعتبر أنها تسعى لجعل كل الناس يبدون مثل "الأميركي الأبيض"، وأن الحلول التي تقدمها هذه الشركة عبر الذكاء الاصطناعي للتلاعب بالصوت واللهجة، هي بمثابة التغطية على المشكلة بدلاً من مواجهتها وحلها.
النقاش الذي أثاره تأسيس هذه الشركة والخدمة التي تقدمها لم ينته، فقد بدأ الخبراء والمحللون المختصون في أخلاقيات الأعمال والتكنولوجيا يتساءلون عن الحل الذي تقدمه هذه الشركة الناشئة، وفيما إذا كان حلاً للمشكلة أم تكريساً لها. فالمشكلة التي تحاول هذه الشركة حلها، هي أن معظم الشركات الكبرى في أميركا والعالم بدأت تعتمد ما يسمى "Outsourcing"، أي الاعتماد على مصادر خارجية في التوظيف، وهذا الأمر أتاحته التكنولوجيا التي مكنت الشركات من توظيف فرق كبرى للمبيعات وخدمة الزبائن مقيمة في الهند أو الفلبين أو دول أخرى ذات تكاليف أقل بالنسبة للشركات. لكن المشكلة التي كانت تواجهها على الدوام هي لهجة موظفي مراكز الاتصال، والتي كانت تكشف أنهم ليسوا أميركيين أو لا يعيشون في أميركا، إضافة إلى أن الشركات الكبرى في أميركا وأوروبا باتت توظف ضمن فريقها أعداداً متزايدة من المهاجرين، وهذا ما يخلق تمييزاً عنصرياً ضدهم من قبل الزبائن المتصلين الذين يشعرون بأنهم يسرقون وظائفهم.
ويدافع مؤسسو الشركة عن التقنية التي يستخدمونها والتي أثبتت عبر تطبيقها لدى الزبائن، بأنها زادت "التفاهم" بين المتصلين الأميركيين وموظفي خدمة الزبائن غير الأميركيين بنسبة 31%، كما زادت رضا الزبائن بنسبة 21%. ويؤكد مؤسسو الشركة بأن خيار تفعيل تغيير اللهجة بيد الموظف، فإذا كان يشعر بالتمييز بإمكانه الضغط على الزر ليحسّن التفاهم بينه وبين الزبائن المتصلين.
هل تشعرون أننا في المنطقة العربية نعاني من تمييز باللهجات؟ هل تذكرون أن شركات البيع عبر الاتصالات أو مراكز خدمة الزبائن توظف جنسيات معينة في بعض الوظائف بناء على لهجتها مثل اللبنانية والمصرية والخليجية؟ الجواب، كما تعلمون، نعم. هل بدأت شركات كبرى عربية توظف فريق عملها الذي يدير التواصل لخدمة العملاء من بلدان عربية معينة غير موجودة في الدول التي تعمل فيها الشركات؟ الجواب نعم. هل هناك صعوبة في التفاهم مع بعض اللهجات التي تعمل في شركات خدمة الزبائن في دول الخليج تحديداً؟ الجواب نعم. لكن السؤال: هل الحل هو باعتماد تطبيق يمسح اللهجات ويجعلها تشبه لهجة محددة؟ أم علينا أن نتعلم كيف نتفاهم ونقبل بعضنا بعضاً؟ بل دعوني أسأل سؤالاً معكوساً، هل تتمنى أحياناً، كزبون أو كمتصل بمركز خدمة حكومي أو خاص، لو كنت تستطيع التحدث بلهجة مختلفة لتحصل على الاهتمام الكافي وتلبية طلبك بطريقة أفضل؟ في الجواب عن مثل هذه الأسئلة الإشكالية يجيب أحد مؤسسي شركة ساناس، حسب صحيفة الغارديان، بأن الأشياء التي لا تناسبنا ولا نتقبلها، فإننا معتادون نحن البشر على تغطيتها لتبدو أجمل، مثل استخدام أدوات التجميل أو (Makeup).
في المقابل، زرت خلال إقامتي في منطقة بالو آلتو مؤسسة خيرية عالمية مشهورة تسمى سكول فاونديشن (Skoll Foundation)، أسسها أول رئيس لشركة إي باي، جيفري سكول، وأحد أهداف هذه المؤسسة هو البحث عن "حلول دائمة" للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها العالم. وقد سألت إحدى القياديات في هذه المؤسسة عن تعليقها على ما تقدمه شركة ساناس، وفيما إذا كان حلاً دائماً أو هروباً من المشكلة، فكان جوابها أن ما تعلمته من خبرتها في حل المشكلات حول العالم، بأنك إذا واجهت مشكلة معينة وأردت حلها، فعليك أن تبدأ بطرح عدة حلول، ثم ستصل في النهاية إلى حل واحد. وقد لا تكون جميع الحلول التي تطرحها في البداية مناسبة، لكنها ستكون البداية لحل المشكلة.