تسببت اضطرابات سلاسل التوريد الناجمة عن جائحة كوفيد-19 في تعرّض الشركات المصنعة في جميع أنحاء العالم لمشكلات كبيرة. ولعلّ أكثر من تأثر بتلك المشكلات هو قطاع السيارات الذي عانى نقصاً حاداً في رقائق أشباه الموصِّلات الإلكترونية والمكونات الأخرى. وهو ما قاد العديد من الناس إلى الافتراض بأن عصر الإنتاج في الوقت المناسب والإنتاج الرشيق قد ولّى وحلّ محله تكديس مخزونات إضافية “لحالات الطوارئ”.

ومع ذلك، حقّقت شركة تويوتا التي ابتكرت المفاهيم الرشيقة أداءً أفضل من معظم منافساتها، وتفوّقت على شركة جنرال موتورز حتى، لتصبح أكبر بائع في أميركا الشمالية عام 2021. وقد لاحظ الناس أن إنتاج الشركة للسيارات لم يتوقف بالفعل وتوصلوا إلى استنتاج مفاده أنها تخلّت عن مبادئ الحد الأدنى من المخزون ونظام الإنتاج المدفوع بالطلب. لكن أداءها في أثناء الجائحة سلّط الضوء على حقيقة أن نظامها الذي يجهل الآخرون تفاصليه عزز قدرتها على التحمّل وعلى التكيّف مع الاضطرابات.

وقد أفاد نائب الرئيس التنفيذي لفرع شركة تويوتا في أميركا الشمالية، كريس نيلسن، “بأن نظام تويوتا للإنتاج هو ما أتاح لها تحقيق أفضل أداء في الواقع”. أشرف نيلسن على إدارتي الجودة والطلب/العرض ونجح في قيادة الشركة في ظل الكثير من الاضطرابات خلال العامين الماضيين. ويتبادل كل من نيلسن، ورئيس مركز دعم نظام تويوتا للإنتاج، جيمي بونيني، في هذه المقالة رؤى ثاقبة حول كيفية تطور نظام تويوتا للإنتاج واستمراره في التكيّف في ظل عالم متغيّر.

الإنتاج الرشيق لا يعني عدم الاحتفاظ بمخزون

تتّخذ شركة تويوتا نهجاً استراتيجياً لتخطيط المخزون، وهو يستند إلى ثلاثة جوانب من الناحية التشغيلية: مخزونات ذات حجم استراتيجي بحسب الموقع بصفتها مخازن مؤقتة لتلبية الطلبات المتغيرة، ومخزون الأمان الذي يُستخدم عند مواجهة خطر زعزعة، ودراسات دقيقة لمهل التسليم. في الواقع، تعلّمت الشركة كثيراً من الدروس بعد زلزال توهوكو وتسونامي عام 2011، ما دفعها إلى تحديد المواد والقطع العرضة للزعزعة وتخزينها. ويكمن سر نجاحها اليوم في مراعاتها مهل التسليم عند تخطيط المخزون.

إن مهلة التسليم هي المدة الزمنية الفاصلة بين طلب قطعة ما وتسلمها. وعموماً، قد تشمل تلك المهلة الوقت اللازم لشراء المواد الخام، وإنتاج القطعة، ومن ثم تسليمها. وركّزت شركة تويوتا اهتمامها بعد الزلزال على استعادة الإنتاج في مصنع تصنيع أشباه الموصِّلات رينيساس (Renesas) في ناكا باليابان بعد توقّفه عن العمل، وهو المورّد المهم لوحدات التحكم الدقيقة للسيارات. وأدركت في أثناء تقديم المساعدة في إعادة بناء المنشأة مدى هشاشة عمليات تصنيع الرقائق الإلكترونية ووجدت أن مواقع الكثير من المنشآت المتخصصة في إنتاجها متركزة في المناطق المعرضة للكوارث الطبيعية حول العالم.

وأوضح نيلسن قائلاً: “أدركنا مع تزايد عدد أشباه الموصِّلات المستخدمة في سياراتنا وهشاشة النظام ضرورة إعادة النظر في مهل التسليم، ولا سيّما تلك المرتبطة بأشباه الموصلات”. وبالتالي، أدركت شركة تويوتا قبل غيرها من شركات صناعة السيارات الأخرى ضرورة شراء مخزون أكبر من رقائق أشباه الموصلات الإلكترونية.

وفي الواقع، ترتبط مهل التسليم وخطط المخزون المناسبة بمعدلات الاستخدام وأنماطه. ويتمثّل أحد أشهر الأمثلة على التصنيع في الوقت المناسب في عملية تركيب المقاعد في منشأة التجميع التابعة للشركة في مدينة جورج تاون بولاية كنتاكي. فعند خروج هياكل السيارات من ورش الطلاء، يُرسَل طلب إلى مورّد المقاعد الذي يبعد مسافة أقل من ساعة عن المنشأة. ثم يُنتِج المورّد اللون والطراز المطلوب للمقاعد ويُرسلها وفق التسلسل الصحيح إلى خط التجميع بعد عدة ساعات. وبما أن تركيب المقاعد يكون في المرحلة الأخيرة من خط التجميع، قد تمتد مهلة التسليم إلى عدة ساعات، ما دفع الشركة إلى الاحتفاظ بمخزون إضافي من المقاعد في خط التجميع يكفي لساعتين من العمل. أما في مصنع سان أنطونيو، فيجري تثبيت المقاعد في مرحلة مبكرة لأن مورّد المقاعد يقع على بعد 10 ياردات من خط التجميع النهائي، وهو ما خفّض مهلة التسليم إلى حوالي 20 دقيقة. وبما أن مهلة التسليم قصيرة، لم تجد الشركة داعياً أو حاجة إلى طلب المقدار نفسه من المخزون الذي تحتفظ به في منشأة كنتاكي. وبالتالي، تتغير متطلبات مهل التسليم مع تطوّر تصميم خط التجميع.

وقد يختلف نطاق المخزون اختلافاً جوهرياً حتى. على سبيل المثال، تحتفظ الشركة بمخزون إضافي يكفي لحوالي 13 أسبوعاً من لفائف الصلب في مدينة جورج تاون لأنها تستخدم سبيكة مخصصة يكون الإنتاج فيها على دفعات. وأضاف نيلسن: “لدى كثير من الناس انطباع خاطئ بأن نظام تويوتا للإنتاج يعارض وجود مخزون”. بل تزيد الشركة من كمية مخزون القطع بمقدار طلبية إضافية كاملة خلال أشهر الشتاء لكيلا يتأثر الإنتاج بالعواصف الجليدية أو الطقس الشتوي الذي سيؤثر على شبكات الخدمات اللوجستية. ثم تعدّل الكميات بمجرد انتهاء فصل الشتاء.

الموردون المتعددون هم مصدر مهم لتعزيز القدرة على التحمّل

يعتبر العديد من الشركات عملية التوريد المزدوج وسيلة لخفض التكاليف من خلال جعل الموردين يتنافسون في تقديم العطاءات. لكن شركة تويوتا تتخذ وجهة نظر مختلفة تماماً؛ فوجود اثنين من الموردين يعني تمتعها بالقدرة على التحمّل.

على سبيل المثال، قد تستورد عجلات قيادة أحد موديلات سيارتها حصرياً من أحد الموردين وعجلات قيادة موديل آخر حصرياً من مورد مختلف. وقد يتنافس المورّدان بعد ذلك على التصميم التالي مع تطوير شركة تويوتا موديلات سيارات جديدة ودخولها مرحلة الإنتاج، بمعنى أنهما يتنافسان على الابتكار والقدرات أكثر من التنافس على السعر. كما يجب أن تكون التكلفة معقولة أيضاً، فشركة تويوتا على دراية بالأسعار والتكاليف.

وأوضح نيلسن قائلاً: “الأمر لا يتعلّق بالتنافس من خلال العطاءات، بل بالتنافس لتحقيق أفضل أداء”. وتسعى الشركة في الواقع إلى زيادة ربحية مورديها لكي يتمكنوا من الاستثمار في التكنولوجيا الجديدة وابتكار تصميمات أفضل؛ فذلك سيعود عليها بالنفع أيضاً.

وقال نيلسن: “يجب أن يضمن الموردون التزام الشركة بالتعامل معهم مستقبلاً لكي يستثمروا في موظفيهم وفي منشآتهم وفي تطوير أدواتهم التكنولوجية. وهو ما يدفعنا إلى تعزيز الاستقرار في قاعدة الإمداد. وتبرز فائدة المنافسة على المدى الطويل، وهي منافسة على استخدام التكنولوجيا وابتكار التصاميم”.

علاقات قائمة على الثقة مع الموردين

تُعتبر الثقة ودعم الموردين مبدأين أساسيين لنظام تويوتا للإنتاج. وذلك يعني ضرورة بناء علاقات قائمة على شراكات طويلة الأجل وليس على المعاملات.

فعندما يواجه أحد الموردين مشكلة ما، تعرض شركة تويوتا تقديم المساعدة له في حلها، ويقبل المورد بدوره المساعدة بصدر رحب. أخبرني رئيس مركز دعم نظام تويوتا للإنتاج: “يلتزم شركاؤنا من الموردين الصراحة معنا ويعترفون بأخطائهم لعلمهم أننا لن نحاسبهم عليها ويطلبون منا المساعدة باعتبارنا جزءاً من الفريق”.

وعندما عمل بونيني في قسم تطوير الموردين، كان واحداً من بين العديد من موظفي تويوتا الذين قدموا المساعدة للموردين الذين واجهوا مشكلات في الإنتاج، لا سيّما في المواقف العالية الخطورة التي تنطوي على إدخال تكنولوجيا جديدة. وكان غالباً ما يمضي أسابيع من العمل في مواقع الموردين لمساعدتهم على حل المشكلات وتعزيز الثقة.

قال بونيني: “عندما تتبنى الشركة نظام الإنتاج في الوقت المناسب، فمن الضروري أن يمتلك موظفوها الخبرة الكافية وأن تبني ثقافة قائمة على الثقة مع الموردين تتيح لموظفيها مساعدتهم عند بروز أي مشكلات. فإذا واجه أحد الموردين مشكلة كبيرة، فلدينا موظفون متأهبون ومسلّحون بالمهارات التقنية لمساعدته على حلها. نحن لا نتدخل في عملهم ونطلب إجراء تدقيق على خطط الخروج من الأزمة؛ بل نشمّر عن سواعدنا ونساعد على حل المشكلات من خلال تبنّي العقلية التعاونية”.

وبالتالي، عندما تهدد مشكلة ما بزعزعة الإنتاج، تولي شركة تويوتا كامل اهتمامها بتلك المشكلة، أي أنها تتعاون مع المورد لحلها بسرعة.

نظام تويوتا للإنتاج هو نظام تعليمي

عادة ما يتجاهل الناس حقيقة أن نظام تويوتا للإنتاج هو نظام تعليمي يتيح التعلم والتحسين المستمر على مستويات متعددة. ففي المتجر، ينصب التركيز على مهارات حل المشكلات في الخطوط الأمامية بدعم من قادة فرق يعلمون وفق نموذج تراتبي ويتمتعون بخبرة كافية وقدرة على التعليم. وعلى الرغم من اعتقاد العديد من الأفراد أن نظام المستويات الإدارية في خط تجميع شركة تويوتا غير فعّال، فالواقع مختلف. إذ يساعد هذا النظام القائم على حل المشكلات بشكل سريع على التحسين ويمكّن أنظمة الإنتاج في الوقت المناسب من العمل بكفاءة. وبالتالي، يؤتي نظام العمل وفق مستويات إدارية ثماره على أكمل وجه.

وتكتسب الشركة خبرات من دعم الموردين أيضاً. فعندما تستثمر جهودها لمساعدة الموردين على حل المشكلات، فهي تتعلم أيضاً عمليات إنتاجهم، وتكون على أهبة الاستعداد لتقديم المساعدة في الأوقات اللاحقة. وبما أنها تعمل مع الموردين مدة سنتين إلى ثلاث سنوات قبل إطلاق المنتجات الجديدة، أصبحت قادرة على المساعدة في حل مشكلات الموردين الناشئين.

وأوضح بونيني: “يمكننا مساعدتهم في التصميم، ويمكننا حثّهم على تعديل التصميم أو تحسينه لجعله قابلاً للتصنيع. وإذا واجهنا أي مشكلة عند طرح المنتجات، أو أي مشكلة تتعلق بالجودة، أو اضطررنا إلى إجراء تغيير هندسي، فنعرف كيفية إصلاحها ونضع كامل ثقتنا في المورد. فالتعاون هو الأساس”.

وهذا النهج في الواقع سيجعل عمليات الموردين أكثر دقة منذ البداية، كما أنه سيعمق فهم شركة تويوتا للمشكلات المستقبلية فور ظهورها، ويساعدها على تطوير حلول وبدائل أسرع عند الاقتضاء.

نظام تويوتا للإنتاج هو ثقافة مؤسسية

إن نظام تويوتا للإنتاج هو ثقافة مؤسسية بقدر ما هو نظام تشغيل؛ فمن الواضح أن مبدأه الأساسي، المتمثّل في تحفيز الأفراد وتطويرهم لكي يتمكنوا من تحديد المشكلات وحلها بسرعة وخلق ثقافة قائمة على التحسين المستمر، يمتد إلى ما وراء حدود الشركة ليشمل مورديها.

ويعترف الموردون بالفعل أن علاقاتهم مع شركة تويوتا تختلف عن علاقاتهم مع الزبائن الآخرين، وتبرز قيمة تلك العلاقة بالفعل عند ظهور المشكلات. وهو ما يفسّر قدرة الشركة على تجاوز اضطرابات سلاسل التوريد في السنوات القليلة الماضية مقارنة بالشركات الأخرى، على الرغم من أنها لا تزال تواصل مرحلتي التعلم والتطور.

إن ثقافة شركة تويوتا متجذرة في قيمها بعمق، كما هو الحال مع أي ثقافة أخرى، وإذا كنت تريد الاستفادة من نظام تشغيل الشركة، فلا يكفي أن تتبنى بعض الأدوات والأنظمة فقط، كالنهج الرشيق والإنتاج في الوقت المناسب، بل عليك أن تبدأ بالقيم والمعتقدات، وهي مهمة صعبة بالطبع، لكن فوائدها بارزة وواضحة للعيان.