غالباً ما يعمل نظام الرعاية الصحية الأميركي، الذي يتسّم بالبراعة التكنولوجية والقائم على بنية تحتية هائلة، بصفته نقطة مرجعية للاقتصاديات سريعة النمو في جميع بلدان العالم أثناء عملها على بناء أنظمتها الطبية الخاصة، ولكن ما هي أبرز أخطاء نظام الرعاية الصحية الأميركية؟
ومع تزايد مطالب الطبقات المتوسطة في الحصول على رعاية أكثر شمولاً، تتعرض حكومات هذه الأسواق الناشئة لضغوط من أجل الاستثمار، مع ارتفاع معدلات الأمراض المزمنة بشكل كبير، خصوصاً تلك الأمراض المتعلقة بأنماط الحياة الغربية، وارتفاع متوسط عدد المسنين.
اقرأ أيضاً: تفويض المهام يخفض التكاليف ضمن قطاع الرعاية الصحية في الولايات المتحدة
لكن تكرار النموذج الأميركي، الذي يتطلب الكثير من المنشآت والأيادي العاملة، والذي يُعد مكلفاً أكثر من نموذج أي دولة أخرى، ويسفر عن نتائج دون المستوى، سوف يجر هذه الاقتصاديات الناشئة إلى دوامة تصاعد التكاليف التي ابتُليت بها الولايات المتحدة. ورغم أن العديد من الدول في الشرق الأوسط وآسيا لا تزال في المراحل الأولى من تطبيق برامج تحديث نظام الرعاية الصحية، إلا أنها تعاني بالفعل من زيادات سنوية تتجاوز 10% في نفقات الرعاية الصحية، وهو معدّل أعلى بكثير من معدل التوسع في إجمالي ناتجها المحلي. ويكمن الحل الرئيس في أن تُقدّم هذه البلدان نموذجاً يتفوق على النموذج الأميركي بدلاً من تقليده، وذلك بالتركيز على رعاية صحة سكانها، وربط أجور مقدمي الرعاية الصحية بالنتائج بدلاً من حجم الخدمات المقدمة، واستخدام تقنيات مثل الطبابة عن بعد، والمراقبة المنزلية، والتصوير عن بعد، للحد من الحاجة إلى دخول المستشفيات.
ويتمثّل أحد الأسباب الرئيسة للتضخم السريع في تكلفة الرعاية الصحية في ازدهار بناء المستشفيات، فمع محاولة مزيد من الدول تقديم الرعاية الصحية وفق النموذج الأميركي، بدأ عدد أسرّة المستشفيات في التنامي بسرعة كبيرة في جميع أنحاء العالم. ووضعت الصين وحدها هدفاً يتمثّل في تخصيص ستة أسرّة مستشفيات لكل 1,000 شخص بحلول عام 2020، أي أكثر من ضعف النسبة الموجودة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
اقرأ أيضاً: إنفاق الأطباء الأميركيين المرتفع من أموال الرعاية الصحية لا يحسن نتائج المرضى
كما أن تزايد استخدام الأجهزة والأدوية والخبرات الفنية من الشركات الأميركية المصنّعة وشركات المستشفيات استجابة لاحتياجات عدد متزايد من المستشفيات، تدفع العديد من الأنظمة الأخرى إلى تطبيق النموذج الأميركي. وقد نمت بالفعل صادرات الرعاية الصحية الأميركية إلى الاقتصاديات الناشئة بشكل كبير على مدى السنوات الخمس الماضية. على سبيل المثال، ارتفعت شحنات الأجهزة الطبية والعلمية ومعدات المستشفيات إلى الصين بنسبة 69% منذ عام 2011، كما تضاعفت صادرات الأدوية خلال الفترة نفسها. وعند مقارنة السنوات الخمس، بين عامي 2012 و2016 بالفترة الممتدة من عام 2007 حتى عام 2011، نلاحظ زيادة صادرات الولايات المتحدة إلى المملكة العربية السعودية من معدات المستشفيات وحدها بنسبة 54%. ويوجد نمط مماثل في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية والعديد من دول آسيا.
ثلاثة أخطاء بارزة في نظام الرعاية الصحية الأميركية
ويتطلب التخطيط إلى مسار مستدام اعتراف الاقتصاديات الناشئة بالممارسات الأميركية التي أسفرت عن ترسيخ التكاليف المرتفعة في المقام الأول، وتجنبها. ونورد فيما يلي العناصر الثلاثة التي نعتقد أنها أحدثت الضرر الأكبر في الولايات المتحدة بناءً على بياناتنا وخبراتنا:
التركيز على علاج المرضى بشكل أساسي
لا يزال هذا النهج المتّبع منذ قرون في مجال الصحة يُهيمن على أنظمة الرعاية في جميع أنحاء العالم، إذ ينصبّ تركيز الأنظمة الطبية من سنغافورة وحتى المملكة العربية السعودية على تقديم الرعاية الطبية للمرضى بدلاً من الحفاظ على صحتهم. إلا أن تكاليف هذا النهج ستزداد في نهاية المطاف، ذلك لأن الإنفاق على جعل المرضى أفضل أكثر تكلفة من إبقائهم أصحاء في المقام الأول. وفي النهاية، قد يؤثر هذا النهج سلباً على معايير الصحة الموحدة، مثل متوسط العمر المتوقع، ووفيات الرضع، ومعدلات الإصابة بالأمراض، ذلك لأن الخيارات المتعلقة بأنماط الحياة تُعرّض السكان لأمراض مزمنة بشكل متزايد، مثل مرض السكري وأمراض القلب.
على سبيل المثال، يتخصص أقل من 10% من الأطباء في دولة قطر في تقديم الرعاية الأولية، مقارنة مع ما يقرب من الثلث في الولايات المتحدة، وحوالي الثلثين في فرنسا التي تمتاز بتقديم رعاية صحية أرخص ونتائج أفضل من الولايات المتحدة. وتنتهي الغالبية العظمى من زيارات الأطباء في قطر بتكاليف كبيرة، لأن المرضى يتعاملون مع أطباء أخصائيين، وغالباً ما يشمل العلاج المقترح الإقامة في المستشفى وإجراء العمليات الجراحية. وغالباً ما يكون هدف هذه الزيارات هو مداواة العلل.
اقرأ أيضاً: لماذا تُعتبر إجراءات الرعاية الصحية الأميركية أكبر مشكلة لهذا القطاع؟
وحتى لو نجح شخص ما في رؤية طبيب متخصص في تقديم رعاية أولية، فمن غير المؤكد وجود وقت لإجراء مناقشة حقيقية حول نمط الحياة أو العافية أو الوقاية من الأمراض، إذ تستغرق زيارة طبيب الرعاية الأولية في قطر أقل من سبع دقائق. وفي حال رغبتْ الدول في التحكم في تكاليف الرعاية الصحية على المدى الطويل، يجب على المهنيين الذين يركزون على الوقاية الصحية، مثل أخصائيي التغذية، ومقدمي الرعاية قبل الولادة، وخبراء الإقلاع عن التدخين، أن يؤدوا أدواراً مماثلة لأدوار الأطباء التقليديين، وينبغي أن ينسق أطباء الرعاية الأولية تقديم الرعاية.
اعتماد نظام دفع الرسوم لقاء الخدمات
يُهيمن حالياً نظام دفع الرسوم لقاء الخدمات على قطاع الرعاية الصحية في بلدان متنوعة، مثل الصين وجنوب إفريقيا وفيتنام. إلا أن اتباع هذا النهج يُسفر عن استخدام الرعاية الصحية بشكل مفرط، وبنسبة تصل إلى 50% بحسب تقديراتنا. والسبب في ذلك بسيط: فزيادة الإيرادات تتطلّب من مقدمي الرعاية الصحية إجراء مزيد من العمليات الجراحية أو رؤية مزيد من المرضى، وهو ما يُسفر بدوره عن رفع تكاليف الرعاية الطبية، وقد يقع مقدمو الرعاية الطبية ذوي النوايا الحسنة أيضاً في فخ طلب الكثير من الفحوصات أو منح توصيات بإجراء عمليات جراحية بدلاً من تقديم علاج أقل خطورة وأقل تكلفة.
لماذا إذاً تُصر الأسواق الناشئة على تبني هذه الممارسة؟ أولاً، يُعتبر هذا النهج طريقة سهلة لقياس الإنتاجية، لأن قياس الجودة والنتائج الصحية أمر معقد، حتى في أنظمة الرعاية الصحية الأكثر تطوراً. ثانياً، نظراً لأن غالبية الاقتصاديات الناشئة تعتمد على أموال خارجية لمساعدتها في بناء بنية تحتية للرعاية الصحية، فإن إظهار إمكانات النمو وتحقيق الأرباح باستخدام نماذج أعمال مألوفة يميل إلى جذب الاستثمار الخاص إلى القطاع واستقطاب الأفراد إلى هذه المهنة.
اقرأ أيضاً: إصلاح نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة يتطلب من السياسيين تغيير مواقفهم
على سبيل المثال، تُعتبر نسبة 28% من مرافق الرعاية الصحية في تايلاند مملوكة للقطاع الخاص، ويوجد ما لا يقل عن ثماني شركات مستشفيات مطروحة للتداول العام تمارس أعمالها في البلد، وتشجع الحكومة التايلندية مثل هذا الاستثمار بهدف توفير احتياجات الرعاية الصحية لمواطنيها، والحفاظ على موقع تايلاند كوجهة للسياحة الطبية.
وتُعتبر السياحة الطبية مشروعاً تجارياً يركز حصرياً على رعاية المرضى على أساس إجراء العمليات الجراحية أو الجراحات الاختيارية التي تُجرى بناءً على طلب المريض، وهي سياحة شائعة في العديد من الدول النامية. كما أنها تساعد في تنشيط أعمال القطاع الطبي المحلي، من خلال تقديم عمليات جراحية أقل تكلفة للأميركيين وغيرهم ممن يعيشون في بلدان تقدم رعاية صحية عالية التكلفة.
وبالتالي، يجب على نظام الرعاية الصحية تعريف الإنتاجية بشكل مختلف، وأن يدفع أجور الأطباء لقاء النتائج الصحية بدلاً من عدد العمليات الجراحية أو عدد زيارات المرضى، وأن يُحفز أساليب الوقاية والرعاية الأولية بشكل منهجي، وأن يحول المستشفيات إلى مراكز تكلفة بدلاً من اعتبارها مصادر توليد الإيرادات. وتتطلب هذه الأساليب كلها فهماً أفضل لكيفية عمل المعاملات الصحية ومقدار تكلفتها. وتُعتبر الشفافية في البيانات السريرية والتدفقات المالية أمراً حاسماً لإنشاء نظام حوافز هادف.
إعطاء الأولوية للبنية التحتية المادية
تنطوي عدة التزامات مالية على كل سرير في المستشفى، من جانب شغله بالمرضى والمحافظة عليه، ويتطلب تجهيز هذه المستشفيات الحديثة، والحفاظ على قدرتها التنافسية، شراء الاقتصاديات الناشئة لسلع باهظة الثمن، مثل أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي، وأجهزة التصوير المقطعي المحوسب التي تكلف في بعض الأحيان ما يقرب من تكلفة المبنى نفسه. وتتمثّل النفقات الأكثر تكلفة على المدى الطويل في تزويد المستشفيات بالأطباء والممرضين والمساعدين الطبيين والصيادلة وفنيي المختبرات. ويرتبط تطوير هذا النظام الصحي بالضغط الذي يمارسه أفراد المجتمع، فيرغب المرضى الذين يرون مستشفى كبير في مدينة كبيرة في الحصول على مستشفى مماثل في مجتمعهم، لكن جذب أفضل الأطباء واستبقائهم يتطلب بناء مستشفيات غالية الثمن ومجهزة تجهيزاً جيداً.
وعندما تضع البلدان النامية أولويات للاستثمار في الرعاية الصحية، ينبغي عليها أن تتعلم من نجاحها في بناء بنية تحتية قائمة على الهواتف المحمولة بدلاً من نظام أرضي أغلى ثمناً للتواصل. ونظراً إلى بناء العديد من البلدان في إفريقيا لأبراج خلوية رغم عدم امتلاكها بنية تحتية أرضية، يمتلك حوالي 80% من البالغين إمكانية الوصول إلى خدمة الهاتف الخلوي، أي أكثر بكثير من عدد الأفراد الذين كانوا سيحصلون على خدمة الخطوط الأرضية.
وتتمتع أنظمة الرعاية الصحية المتنامية بفرصة مماثلة لتجاوز النهج القديم من خلال إنشاء نظام رقمي، فيمكن لتقنيات مثل الطبابة عن بُعد، والمراقبة المنزلية، والتصوير عن بُعد، أن تلقى رواجاً وأن تُحدث فارقاً كبيراً في الجودة والراحة وتكلفة الرعاية، خصوصاً إذا كانت تُمثل خدمات أساسية وليست مجرد إضافات كمالية. ويمكن لسلطات الصحة العامة أيضاً أن تستفيد من تغطية الهواتف المحمولة لنشر المعلومات حول القضايا الصحية واللقاحات والتغذية ومراقبة صحة السكان عن بُعد.
على سبيل المثال، أعلنت هيئة الصحة في دبي مؤخراً أنها ستنشر روبوتات طبية في جميع مرافقها في العمل إلى جانب الممرضات، وهو ما يتيح الوصول الفوري إلى الأطباء على مدار الساعة بغض النظر عن الموقع. ونتوقع أن تخفض نماذج الرعاية الجديدة هذه تكاليف الرعاية الصحية في الاقتصاديات سريعة النمو بنسبة تصل من 15% وحتى 20%.
اقرأ أيضاً: 4 مبادئ لتحسين مستوى الرعاية الصحية حول العالم
وفي حين تحاول الولايات المتحدة إعادة ابتكار نظامها الفاسد، تمتلك الدول في جميع أنحاء العالم فرصة التعلم من الأخطاء الأميركية، وإنشاء أنظمة صحية رقمية تستند إلى القيمة وتركز على الوقاية من الأمراض بدلاً من معالجتها. ويكمن الحل في تحديد الأولويات وتصميم أنظمة صحية تستند إلى هذه الأولويات، بدلاً من ترك نظام متعطش للتوسع والنمو يحدد نوع الرعاية الصحية من أجل تلافي تلك الأخطاء الثلاثة في نظام الرعاية الصحية الأميركية.