كيف تصبح مفاوضاً بارعاً؟ نصائح علمية عملية

7 دقيقة
عملية التفاوض
دياغريز/غيتي إميدجيز

التفاوض هو مقايضة أو اختيار بين تحقيق المكاسب أو الحفاظ على العلاقات، ولكن من خلال تحليل نحو 1,000 عملية تفاوض حقيقية في 50 دولة، اكتشفنا أن أفضل المفاوضين، المعروفين باسم "المفاوضون المتكاملون أصحاب الإنجازات"، يتقنون الأمرين معاً، فهم يحققون نتائج ملموسة وقوية، وفي ال…

يمثل التفاوض إحدى أهم مهارات القيادة، وعلى الرغم من ذلك، يسيء الكثير من الأشخاص فهمه. تحدد عملية التفاوض مسار الاتفاقيات والشراكات والمسارات المهنية، ولكن الخبراء ما زالوا مختلفين حول المعايير التي تحدد المفاوض الناجح.

يشير الفكر السائد منذ عقود من الزمن إلى مقايضة مألوفة؛ إذ يجب عليك الاختيار بين تحقيق القيمة وبناء العلاقات، دون إمكانية الجمع بينهما. قد يؤدي الضغط المفرط إلى إضعاف الثقة، وقد يؤدي التركيز على تحقيق التوافق إلى فقدان المكاسب الجوهرية. وقد عززت الأطر التقليدية، مثل كتاب "الوصول إلى نعم" (Getting to Yes)، هذا التوتر من خلال المقارنة بين التفاوض الصارم القائم على التمسك بالمواقف والأساليب المرنة التي تهدف إلى الحفاظ على حسن النوايا واستمرار العلاقة الإيجابية.

تظهر أبحاثنا أن هذه المقايضة خاطئة.

البيانات التي تشكك في فكرة المقايضة

لفهم العوامل الحقيقية التي تؤثر في أداء المفاوض، عملنا على تحليل آلاف المفاوضات التي أجراها المشاركون في مسابقة تحدي التفاوض، وهي مسابقة عالمية اختبرت القادة والطلاب من أكثر من 50 دولة منذ عام 2007.

وقد وفرت مجموعة البيانات الفريدة التي حصلنا عليها، والتي تشمل نحو 1,000 عملية تفاوض موثقة، فرصة نادرة لفهم كيفية تفاعل الأهداف والاستراتيجية والنتائج الموضوعية وجودة العلاقات.

تشكك هذه النتائج في وجهة النظر التقليدية التي تشير إلى أنه لا يمكن تصنيف المفاوضين على مقياس واحد يحدد مدى صرامتهم وحزمهم أو مرونتهم، بل يجب النظر إليهم من خلال بعدين أساسيين: وهما الأداء الموضوعي (أي قدرتهم على تحقيق النتائج وكسب القيمة) والأداء في العلاقات (أي قدرتهم على بناء الثقة والحفاظ على العلاقات). وتظهر 4 أنماط متميزة باستمرار.

1. المفاوض المتكامل صاحب الإنجازات، فعالية وجدارة بالثقة

يضمن هذا المفاوض تحقيق نتائج قوية مع الالتزام بتعزيز العلاقات في الوقت ذاته. وتتيح له قدرته على الموازنة بين الحزم والتعاطف الدفاع عن مصالحه وأهدافه بقوة دون إضعاف الثقة. وقد جسد نيلسون مانديلا نموذجاً عن هذا التوازن، فقد تفاوض على انتقال جنوب إفريقيا من الفصل العنصري إلى الديمقراطية عبر التعاطف والانضباط والوضوح الأخلاقي، محولاً الخصوم السابقين إلى شركاء.

2. المفاوض ذو النزعة التنافسية الذي يسعى إلى تعظيم المكاسب، فعالية على حساب العلاقات

يحقق هذا المفاوض نتائج قوية، ولكنها تكون غالباً على حساب العلاقات، فتركيزه على تحقيق المكاسب يلحق الضرر بالشراكات الطويلة الأمد ويؤثر سلباً في العمل التعاوني المستقبلي. تقدم تجربة مارغريت تاتشر مثالاً واضحاً على ذلك؛ فقد أدى إصرارها المستمر وطريقتها الحازمة إلى تحقيق إصلاحات اقتصادية وإنجازات سياسية كبيرة، ولكن أسلوبها القائم على المواجهة أدى غالباً إلى نفور الحلفاء واستيائهم وتقييد العمل التعاوني على المدى الطويل.

3. المفاوض المتعاون الذي يسعى للحفاظ على الانسجام، يحظى بإعجاب الآخرين لكن أداءه ضعيف

ينجح هذا المفاوض في إنشاء العلاقات بسهولة، لكنه يقدم الكثير من التنازلات. تؤدي رغبته في تحقيق الانسجام إلى تواضع النتائج الاقتصادية وانحراف العمل عن المسار الاستراتيجي. يمثل رئيس الوزراء البريطاني السابق، نيفيل تشامبرلين، هذا النمط، فقد أدى سعيه النبيل لتحقيق التوافق خلال مفاوضات ما قبل الحرب مع هتلر إلى كسب قبول أو حسن نية مؤقت، لكنه ضحى بالمزايا الاستراتيجية وأضعف الأمن على المدى الطويل.

4. المفاوض المدمر، لا فعالية ولا جدارة بالثقة

تؤدي سلوكياته إلى إضعاف القيمة وتدمير العلاقات. فهو بسبب ضعف استعداده وافتقاره إلى القدرة على التحكم يحول التعاون المحتمل إلى صراع، ما يلحق الضرر بطرفي عملية التفاوض. يمثل أدولف هتلر هذا النمط؛ إذ أدت رغبته في فرض الهيمنة المطلقة باستمرار إلى إضعاف الثقة وتدمير التحالفات وتحويل التعاون المحتمل إلى صراع كارثي.

من المثير للاهتمام أن هذه الفئات تظهر بنسب متساوية تقريباً. لا يتجه المفاوض تلقائياً نحو النمط المثالي، ولا يعني تحقيق القيمة بالضرورة التضحية بالثقة. لا يكمن الاختلاف في الشخصية، بل في الكفاءة.

أهمية الطرف المقابل في عملية التفاوض ودوره

بطبيعة الحال، لا تعتمد نتائج المفاوضات على سلوك المفاوض فحسب، بل على مهارات الطرف الآخر أيضاً. ماذا لو كان الطرف الآخر يتبع أسلوباً صارماً ومتشدداً في مطالبه، أو يتعامل مع المفاوضات على أنها عملية يخرج منها إما رابحاً وإما خاسراً؟

تشمل بياناتنا العديد من هذه الحالات، ويظل هذا النمط قائماً؛ إذ يتضح أن المفاوضين الذين يلتزمون في الحفاظ على توازنهم، أي قدرتهم على إظهار الحزم دون اتخاذ موقف عدائي، يحققون أداء أفضل حتى عند التعامل مع خصوم يتسمون بالتنافسية الشديدة.

يحقق نحو 5% من المشاركين في تحدي التفاوض نتائج قوية وملموسة على مستوى القيمة والعلاقات مع الشركاء كافة وفي الظروف المختلفة؛ ليس بالضرورة أن يصلوا إلى الصفقة المثالية في كل مرة، لكنهم يحققون أداء أعلى من المتوسط في كل جانب من جوانب قياس الأداء.

تشير الدلائل إلى أهمية دور الطرف المقابل في عملية التفاوض، لكن إتقان مهارة التفاوض أهم. يتسم أفضل المفاوضين بقدرته على التكيف مع أسلوب الطرف المقابل دون تقليده.

النجاح يعتمد على المهارة، وليس على الأسلوب

يتجاهل النقاش المستمر حول أنماط التفاوض الصارمة واللينة جوهر المسألة. فالفرق الحقيقي يكمن في الكفاءة، أي في قدرة المفاوض على الموازنة بين الحزم والتعاطف.

يحقق المفاوض المتميز نتائج ملموسة وفعالة مع الحفاظ على علاقات ذات جودة عالية، فجودة علاقة التفاوض تحددها طريقة تقديم المطالب لا حجمها؛ إذ لا يتسبب التحلي بالإنصاف والشفافية والاحترام في إضعاف موقف الشخص المفاوض، بل يعززه.

قلما تنجم النتائج السيئة عن المبالغة في الود والتعامل اللطيف، بل تنجم عن ضعف التحضير أو استخدام أساليب صارمة ومتشددة أو ضعف القدرة على خلق القيمة والمطالبة بها. يجمع المفاوض صاحب الأداء المتميز بين الانضباط والتعاطف، ويعرف الوقت المثالي للتعاون أو التنافس ويدرك كيفية الموازنة بينهما دون فقدان الثقة.

يترتب على ذلك أثر بالغ؛ إذ يتجاهل النقاش المستمر حول أنماط التفاوض الصارمة واللينة جوهر المسألة. فالفرق الحقيقي يكمن بين المفاوضين الذين يمتلكون المهارة وأولئك الذين يفتقرون إليها، أي بين من يستطيعون الموازنة بين الحزم والتعاطف ومن يفشلون في ذلك.

أصبح الاعتقاد بضرورة التضحية بالعلاقات لتحقيق النتائج قديماً ويؤدي إلى نتائج عكسية، فهو لا يشجع المفاوضين على تطوير مجموعة كاملة من المهارات التي تجعل تحقيق كلا الأمرين ممكناً، أي القدرة على خلق قيمة مشتركة بطريقة تعاونية والمطالبة بها بحزم، وبناء ثقة دائمة في الوقت نفسه.

ويحدد بحثنا المستمر المهارات التي تسمح للمفاوضين المتكاملين وأصحاب الإنجازات بتحقيق النجاح في كلا الجانبين، وهي تندرج ضمن 4 مهارات رئيسية وشاملة تميز المفاوضين المتميزين في كل مكان.

4 مهارات رئيسية وشاملة تميز المفاوض المتميز

إذا كان من الممكن ملاحظة الأداء في المفاوضات وتعليمه للآخرين وتحسينه، فما هي المهارات التي يجب أن نتدرب عليها؟

تكشف بياناتنا عن 4 مهارات رئيسية شاملة تشكل معاً مخطط عمل للتميز في عملية التفاوض. ويمثل كل منها بعداً متميزاً ومكملاً للجوانب الأخرى في قياس الأداء.

1. اللغة والعاطفة، الجانب المرئي من الأداء

يشكل الأسلوب اللغوي الذي يستخدمه المفاوض وحضوره العاطفي الانطباعات الأولى والدائمة لدى الطرف المقابل. وتتضمن هذه المهارة وضوح التعبير والإصغاء وطرح الأسئلة بطريقة فعالة والقدرة على التحكم في المشاعر.

ينقل المفاوض المتميز أفكاره بوضوح ودقة وبطريقة منطقية، ويقدم مطالبه بطريقة بناءة وإيجابية، ويستمع بغرض الفهم وليس استعداداً للرد والجدال. كما يتحكم في مشاعره ومشاعر الطرف الآخر ويحول التوتر إلى طاقة إيجابية مثمرة. تشير الأبحاث إلى أن تنظيم العواطف بطريقة جيدة والتواصل القائم على التعاطف يسهمان في تحقيق مكاسب مشتركة أكبر وفي تقوية العلاقات.

2. الذكاء التفاوضي، المحرك المعرفي

الذكاء التفاوضي هو القدرة على إدراك هيكلية التفاوض وتطبيق الأساليب الصحيحة في الوقت المناسب. يجمع الذكاء التفاوضي بين أدوات متعددة: الاستعداد من خلال فهم المصالح وأفضل البدائل للاتفاق في المفاوضات وتحديد الأهداف وجدول الأعمال وتقديم العروض الأولى والدفاع عنها وإدارة التنازلات وخلق القيمة والمطالبة بها من خلال المقايضات والحلول الإبداعية واستخدام المعايير الموضوعية.

يتمتع المفاوض المتميز بقدرة على التكيف الاستراتيجي، أي القدرة على الانتقال بين الأسلوب التعاوني والأسلوب التنافسي وفقاً لتغير الظروف. وفي الصفقات المعقدة التي تشمل أطرافاً متعددة، يتفوق أيضاً في الأداء الجماعي وتنسيق الأدوار والحفاظ على استراتيجية موحدة في ظل الضغوط.

3. بناء العلاقات، الجدارة بالثقة هي أصل استراتيجي

لا تمثل الجدارة بالثقة والقدرة على بناء العلاقات مجرد مهارتين شخصيتين، بل هما مؤشران قابلان للقياس للتنبؤ بالنجاح. يستثمر المفاوض الفعال في بناء العلاقات بطريقة مدروسة، ويحرص على إدارة النقاشات بشفافية، ويلتزم بتنفيذ تعهداته.

فهو يتسم بوعي ثقافي يمكنه من فهم الأعراف المختلفة واحترامها، وتكييف سلوكه بما يتناسب معها. تشجع هذه العادات الانفتاح، وتسهل تبادل المعلومات، وتعزز القدرة على تحقيق قيمة أكبر للطرفين. تتحول الثقة بمجرد ترسيخها إلى مصدر متجدد يعزز القوة التفاوضية.

4. الحكمة الأخلاقية، الدليل الخفي

تمثل الحكمة الأخلاقية جوهر التفاوض، وهي التوجه الأخلاقي والتعاطفي الذي يوجه عملية صناعة القرار. تحدد الحكمة الأخلاقية طريقة تبادل المعلومات والالتزام بالوعود وتحقيق التوازن بين الإنصاف والحزم.

لا تقتصر أهمية الشفافية الأخلاقية والتعاطف الحقيقي على تعزيز النوايا الحسنة وبناء علاقات جيدة، بل إنهما يؤثران في النتائج على المدى الطويل. يجمع المفاوض البارع بين الحزم والتعاطف، ما يثبت أن الفعالية والنزاهة غير متناقضتين، بل هما فضيلتان تعزز إحداهما الأخرى.

أوجه الاختلاف في ممارسات المفاوض المتميز

يمثل التميز في عملية التفاوض منهجية وممارسة قيادية، يمكن قياسه وتعليمه وتطبيقه على نطاق واسع بين الفرق. ثمة رسالة واضحة للقادة ومؤسساتهم، وهي أن التميز في التفاوض ليس مسألة سمات شخصية، بل مهارات تطور بطريقة مدروسة ويقاس أثرها باستمرار.

تطوير مهارات التفاوض على المستويين الشخصي والمؤسسي:

ما زالت مؤسسات كثيرة تقلل أهمية التفاوض ودوره في تحسين أدائها؛ إذ تعتمد الصفقات والشراكات وتحقيق التوافق الداخلي على فعالية مهارات التفاوض لدى الأفراد. لا يمكن الاعتماد على الخبرة فقط؛ إذ يتطلب إتقان فن التفاوض تدريباً منظماً ومدروساً.

لا يقتصر النهج الأكثر فعالية على التعلم الفردي، بل يجب عليك التخطيط بطريقة منظمة لتحديد مهارات التفاوض المطلوبة في مؤسستك وضمان تزويد الفرق في الأقسام والوظائف المختلفة بالمهارات والقدرات اللازمة لتحقيق النتائج المرجوة. تؤسس الشركات الرائدة، مثل دويتشه بنك وسيمنز، مراكز متخصصة لتطوير مهارات التفاوض وتحسين جودة النتائج على مستوى المؤسسة.

احرص على قياس الأمور الجوهرية:

يبدأ التحسين بالقياس. يساعد تقييم مهارات التفاوض بانتظام على تحديد نقاط القوة وسد الثغرات وتتبع التقدم المحرز. تساعد مسابقات التفاوض المنظمة على إبراز القدرات والمهارات وتسهم في إنشاء لغة مشتركة تعزز عملية التعلم. (طور سمولينسكي الذي شارك في إعداد هذا المقال أداة تسمى "نموذج كفاءة التفاوض" تحدد مجموعة من مهارات التفاوض وطرق قياسها عند تقييم صانعي الصفقات).

أعد صياغة مفهوم القوة.

لا يزال العديد من المفاوضين يخلطون بين الصرامة والعدوانية، لكن البيانات المستخلصة من مسابقاتنا تظهر العكس تماماً؛ إذ يتسم المفاوض الناجح، بغض النظر عن بلده أو القطاع الذي يعمل فيه أو أسلوبه في التفاوض، بالود والاحترام والتواصل الفعال والقدرة على بناء العلاقات مع الآخرين، ويظهر الثقة من خلال ممارسة الإنصاف والتعاطف، وليس من خلال الترهيب، فالصرامة أو التعامل الفظ لا يعززان الاحترام، بل يضعفانه.

لا يمكن تحديد المفاوض المتميز وفقاً لأسلوبه في التفاوض، بل وفقاً لمهارته، أي قدرته على تحقيق نتائج ملموسة واستثنائية مع الحفاظ على علاقات ذات جودة عالية؛ فهو يتسم بالتفكير المنظم والقدرة على التواصل الفعال والثقة والمصداقية والالتزام بالمبادئ والقدرة على خلق القيمة دون التضحية بالقيم. وهذا بالضبط ما يميز المفاوض الناجح في نهاية المطاف.

 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي