شهِد العالم تحوّل ملايين من الموظفين فجأة إلى العمل عن بُعد في ظلّ انتشار جائحة "كوفيد -19". وليس من المستغرب أن هذا التحوّل جعل بعض أصحاب العمل يشعرون بالقلق بشأن الحفاظ على إنتاجية الموظفين. لكن الأمر المثير للقلق حقاً في ظل هذا الوضع غير المسبوق هو الخطر طويل الأمد المتمثّل في شعور الموظفين بالاحتراق الوظيفي. فكيف يمكن تجنب الاحتراق الوظيفي خلال العمل من المنزل؟
إن الخطر المحدق بهذا الشعور الذي ينتاب الموظفين يمثل خطراً كبيراً، فقد برزت طرق جديدة وغير عادية جعلت الخطوط الفاصلة بين أوقات العمل وأوقات انتهاء العمل غير واضحة، ومن المرجح أن يواجه الموظفون الذين يعملون عن بُعد للمرة الأولى عدة مشكلات في الحفاظ على حدود صحية بين حياتهم المهنية وحياتهم الشخصية. وقد يشعرون أنهم مضطرون للعمل طوال الوقت للإشارة إلى ولائهم وتفانيهم وإنتاجيتهم، فأصبحت فترة بعد الظهر متصلة مع وقت المساء، وأصبحت أيام الأسبوع متصلة مع عطلات نهاية الأسبوع، وهو ما جعل الموظفين يظنون أنهم لا يمتلكون أي وقت للراحة. ومن المحتمل أن يُطلب من بعض الموظفين مواصلة العمل عن بُعد عدة أشهر.
تقترح عدة بحوث أن وضع حدود تفصل بين حياتنا المهنية وحياتنا الشخصية هو أمر بالغ الأهمية، خاصة بالنسبة لصحتنا العقلية. إلا أن وضع هذه الحدود هو مهمة صعبة، حتى في أفضل الظروف، ويعود سبب ذلك إلى أن اقتصاد المعرفة قد غيّر معنى أن تكون "عاملاً مثالياً" بشكل جذري.
وقد أظهر بحثنا أن العمال غالباً ما يتّبعون طرقاً غير متعمدة تجعل من الصعب على المشرفين والزملاء والموظفين الحفاظ على الحدود. وتتمثّل إحدى هذه الطرق التي يتبعونها في إرسال رسائل البريد الإلكتروني خارج ساعات العمل. وفي خمس دراسات تضم أكثر من 2,000 مشارك من الموظفين، وجدنا أن مرسلي رسائل البريد الإلكتروني بعد ساعات العمل يستهينون بشعور مستلمي هذه الرسائل عندما ينتظرون منهم رداً فورياً، حتى عندما تكون هذه الرسائل غير عاجلة.
اقرأ أيضاً: كيف تفصل بين وقت العمل والوقت الشخصي في المنزل؟
وقد تضخم جائحة "كوفيد -19" هذه الضغوط، خاصة بالنسبة للموظفين الذين لديهم ميل طبيعي للفصل بين عملهم وحياتهم الشخصية، ذلك أن الظروف الحالية لن تسمح لهم بإجراء هذا الفصل بعد الآن، فالعديد من المدارس مغلق، وقد لا تكون دور الرعاية النهارية خياراً جيداً، وهو ما يضع أعباء عمل إضافية على الأزواج العاملين أو العمال ذوي الدخل المنخفض. ومن المرجح حتى أن تواجه الشركات التي تشجع موظفيها بالفعل على العمل من المنزل بعض المشكلات في دعم الموظفين الذين يواجهون العديد من تحديات العمل في المنزل بحضور أسرهم.
إذن، كيف يمكن للموظفين الفصل بين حياتهم المهنية وحياتهم الشخصية بالنظر إلى الوضع الاستثنائي الذي نعيشه اليوم؟ كيف يمكننا ترك الحديث عن العمل قبل دخول المنزل في وقت أصبحنا فيه أسيري العمل من المنزل؟ ما الذي يمكن لأصحاب العمل والمدراء وزملاء العمل فعله لمساعدة بعضهم البعض على التكيّف؟
كيفية تجنب الاحتراق الوظيفي خلال العمل من المنزل
نقدم إليكم بعض التوصيات استناداً إلى بحوثنا والأدبيات الأكاديمية الأوسع:
الحفاظ على الحدود المادية والاجتماعية
ذكر بليك أشفورث من جامعة ولاية أريزونا في ورقة بحثية الطرق التي يتّبعها الأفراد للانتقال من وضع العمل إلى وضع الحياة الشخصية عبر "أنشطة عبور الحدود"، فارتداء ملابس العمل، والتوجه من المنزل إلى العمل هي مؤشرات جسدية واجتماعية تدلّ على التغيّر. كذلك الانتقال من "وضع المنزل" إلى "وضع العمل".
حاول الحفاظ على هذه الحدود عند العمل عن بعد. قد تحظى فكرة عدم ركوب القطار للعمل باكراً أو أن تكون قادراً على قضاء اليوم بأكمله مرتدياً ملابس النوم ترحيباً كبيراً من قبلك على المدى القصير، إلا أن نشاطي عبور الحدود هذين قد يعودا عليك بالنفع، لذلك حاول ألا تتخلى عنهما تماماً. ارتدِ ملابس العمل الخاصة بك كل صباح، ويمكنك ارتداء ملابس عادية يوم الجمعة، لكن من المهم أن تُبدي استعدادك للعمل مع ذلك. حاول استبدال رحلتك الصباحية بالقطار بالتوجه إلى متنزه قريب، أو حتى المشي حول البناء الذي تقطن فيه قبل بدء العمل. وقد توصّل بعض العمال بالفعل إلى طرق مبتكرة وبسيطة للحفاظ على روتين عملهم المعتاد.
الحفاظ على حدود زمنية قدر الإمكان
إن الحفاظ على الحدود الزمنية هو أمر بالغ الأهمية للرفاهة والتواصل في العمل. وينطبق هذا بشكل خاص على العديد من الموظفين أو زملائهم الذين يواجهون اليوم تحدي دمج مسؤوليات رعاية الأطفال أو رعاية المسنين مع ساعات العمل العادية. والأمر صعب حتى بالنسبة للموظفين الذين ليس لديهم أطفال أو مسؤوليات عائلية أخرى، وذلك بفضل الأجهزة المحمولة التي تجعلنا مرتبطين بعملنا طوال الوقت.
اقرأ أيضاً: 5 نصائح لتقليل الوقت الذي تقضيه أمام شاشة الكمبيوتر أثناء فترة العمل من المنزل
وقد يكون الالتزام بجدول عمل من الساعة 9 صباحاً وحتى 5 مساءً غير واقعي، بل يحتاج الموظفون إلى اتباع جداول زمنية للعمل تكون مناسبة لهم. ومن الضروري أن يكونوا أكثر احتراماً ووعياً أن الآخرين قد يعملون في أوقات مختلفة عن أوقات عملهم، فقد يعمل بعض الموظفين عندما يحين موعد قيلولة أطفالهم، في حين قد يعمل البعض الآخر منهم عندما يقوم شركاؤهم بطهي العشاء. ويمكن للموظفين الذين لديهم أطفال والموظفين الذين ليس لديهم أطفال على حد سواء وضع جداول زمنية لوقت العمل عن طريق إضافة رد فوري على الرسائل يبيّن أنهم "خارج المكتب" خلال ساعات معينة من اليوم بهدف التركيز على العمل. وقد ينطوي الردّ الأقل حدة على جعل الآخرين يدركون أنك أكثر بطئاً من المعتاد في الرد على الرسائل، وهو ما يقلّل من توقعات الآخرين للحصول على رد فوري منك.
غالباً ما يعتمد إنشاء حدود زمنية واضحة على القدرة على تنسيق وقت المرء مع وقت الآخرين، وهو ما يدفع القادة إلى مساعدة الموظفين في تنظيم وتيرة العمل وتنسيقها وإدارتها. وقد يعني هذا عقد اجتماعات افتراضية بشكل منتظم مع الموظفين، أو تزويدهم بأدوات تحضير قهوة أو تخصيص مساحات عمل افتراضية، فالحفاظ على الشعور بالحياة الطبيعية في ظل هذه الزعزعة هو الحل الرئيس.
ركّز على أهم أعمالك
إن هذا الوقت غير مناسب للانشغال في العمل، بل يجب على العمال تكريس طاقاتهم للقضايا ذات الأولوية القصوى.
غالباً ما يشعر الموظفون أنهم مجبرون على إظهار مدى إنتاجيتهم في أثناء العمل من المنزل، إلا أن ذلك قد يقودهم إلى العمل على مهام أكثر إلحاحاً بدلاً من المهام الأكثر أهمية، وهو توجّه تشير البحوث إلى أنه قد يُفضي إلى نتائج عكسية على المدى الطويل، حتى لو كان ذلك مفيداً للإنتاجية على المدى القصير. لذلك، يجب على الموظفين إعطاء الأولوية للعمل المهم، ولاسيما أولئك الذين يواجهون أعباء عمل متزايدة في أثناء التوفيق بين المهام العائلية ومهام العمل.
إن العمل طوال الوقت ليس حلاً، حتى وإن كان الموظف يعمل على أهم المهام. ووفقاً لبعض التقديرات، لن يكون موظف المعرفة مُنتجاً إلا مدة ثلاث ساعات كل يوم في المتوسط، ويجب أن تكون هذه الساعات متواصلة دون انقطاع وألا تنطوي على العمل على مهام متعددة. لكن غالباً ما يواجه الموظفون صعوبة في تخصيص ثلاث ساعات متواصلة للتركيز على مهام عملهم الأساسية، حتى قبل أزمة "كوفيد -19". كما أصبح وقت الموظفين أكثر تجزئة من أي وقت مضى، حتى مع إزالة الحدود بين العمل والأسرة.
يتعرض الموظفون الذين يشعرون أنهم يعملون طوال الوقت لخطر الاحتراق الوظيفي عند العمل من المنزل أكثر مما لو أنهم كانوا يذهبون إلى المكتب كالمعتاد. فمحاولة الرد على رسائل البريد الإلكتروني والعمل بضع دقائق وقت القيلولة أو في عطلة نهاية الأسبوع، أو عبر إيقاف الفيلم مؤقتاً في المساء قد يُفضي إلى نتائج عكسية ويؤثر على شعورنا بالرفاهة على المدى الطويل. لذلك نحتاج جميعنا إلى إيجاد طرق جديدة لخلق مساحة عقلية نبتعد فيها عن ضغط العمل وأن نساعد الآخرين في اتباع النهج ذاته.
وهذه ليست سوى بضع توصيات قد تساعد الموظفين في تجنب الاحتراق الوظيفي خلال العمل من المنزل والحفاظ على الحدود بين عملهم وحياتهم الشخصية لتجنب الإنهاك على المدى الطويل. وقد يحتاج الموظفون إلى المرونة لاختبار كيفية جعل ظروفهم مناسبة لهم في ظل هذه الأوقات غير المتوقعة.
اقرأ أيضاً: