أصبحت أرباح متاجر البيع بالتجزئة آخذة في الانخفاض، وباتت المتاجر تغلق أبوابها والمولات تفرغ من بضائعها. ولا تنفك القصص المحبطة تتردد في الأصداء حول عدم القدرة على نجاح شركات البيع بالتجزئة. وقراءة إعلانات الإيرادات الخاصة بشركة "مايسيز" (Macy’s)، و"نوردستروم" (Nordstrom)، و"تارغت" (Target)، تثبط المعنويات وتنشر سحابة من الكآبة، يبدو أن شبكة الإنترنت تطيح بقطاع آخر. والمتاجر التقليدية تواجه مصير أدلة الهاتف الثابت وسيتم الاستغناء عنها. ولا شك في ذلك، فقد نشر "المكتب الإحصائي" بيانات تشير إلى أن حجم مبيعات متاجر التجزئة عبر الإنترنت قد ارتفع بمقدار 15.2% بين الربع الأول من 2015 والربع المماثل له من عام 2016.
أبرز الحقائق حول تجارة التجزئة
قبل أن تهرع إلى بيع جميع أسهم متاجر التجزئة التي لديك، يوجد المزيد من الحقائق الواجب عليك مراعاتها. فالأخذ فقط بـ "زيادة" قدرها 15.2% قد يكون دليلاً مضللاً. فهي زيادة قائمة على قاعدة صغيرة تبلغ 6.9%. فحتى عندما يكبر رقم صغير بنسبة مئوية كبيرة، فهو ما يزال رقماً صغيراً.
بعد أكثر من 20 عاماً منذ انخراط الإنترنت في مجال التجارة، تخبرنا بيانات "المكتب الإحصائي" أن عمليات البيع التقليدية مثلت 92.3% من مبيعات متاجر البيع بالتجزئة في الربع الأول من عام 2016. إذ تظهر بيانات المكتب أن نسبة قدرها 0.8% فقط من المبيعات قد تحولت من تقليدية إلى مبيعات عبر الإنترنت، وذلك بين مطلع 2015 وأوائل عام 2016.
ومع الحديث الشائع عن الطائرات من دون طيار المتخصصة بتوصيل الطلبات إلى عتبة منزلك، أعرب جميع الرؤساء التنفيذيين لمتاجر البيع بالتجزئة عن قلقهم من لجوء المستهلكين إلى الإنترنت، حتى إن مرشحاً رئاسياً ذكر أن شركة "أمازون" تواجه "مشكلة كبيرة في مكافحة الاحتكار"، لكن بيانات "المكتب الإحصائي" تشير إلى ازدهار متاجر التجزئة التقليدية. وبالطبع، تشير المتاجر المغلقة، والرؤساء التنفيذيون الذين نال منهم الإحباط، وأسهم البورصة المتداعية إلى عكس ذلك. حسناً، فماذا يجري حقاً؟
العديد من الشركات التي تُشغل متاجر تقليدية واقعة في مأزق. فقطاع البيع بالتجزئة يمر بمرحلة "إعادة ابتكار"، كما وصفنا في كتابنا الجديد "وسطاء العلاقات" (Matchmakers). فهذا القطاع يقبع في المسار الذي يصفه جوزيف شومبيتر بعاصفة من الدمار الإبداعي. ولقد لاحت هذه العاصفة في الأفق لبعض الوقت، وبينما وصلت إلى ذروتها، بدأ معظم متاجر التجزئة الكبيرة بالبحث عن استجابة مناسبة. وكما قال الرئيس التنفيذي للشؤون المالية لشركة "مايسيز" من قبل: "بكل صراحة تنتابنا الحيرة، ولا نعرف ما الاستجابة المناسبة".
لكن الأمر لا يسر وفق تنبؤات النقاد والخبراء. ففي ذروة فقاعة شركات "الدوت كوم" أو فقاعة "الإنترنت"، كانت متاجر البيع بالتجزئة التقليدية تعد أحد القطاعات التي سيطيح بها الإنترنت، وبسرعة. إذ أفقد الكساد الذي صاحب تلك الفقاعة معظم التنبؤات التي من ذلك النوع مصداقيتها. وفي السنوات التالية لذلك، ازدادت ثقة متاجر البيع بالتجزئة التقليدية مع استمرار "المكتب الإحصائي" في إصدار تقارير تشير إلى مبيعات ضئيلة عبر الإنترنت. ثم هبت العاصفة!
إعادة ابتكار قطاع البيع بالتجزئة
ومن الواضح على نحو متزايد أن إعادة ابتكار قطاع البيع بالتجزئة ليست فكرة بسيطة كمعركة قائمة بين المتاجر التقليدية والإنترنت مع فائز واحد في النهاية. بل تتمحور بالأحرى حول تصميم نماذج البيع بالتجزئة التي تتوافق مع المشترين الذين يستخدمون وبشكل متزايد مجموعة لا تنفك تنمو من الأدوات المتصلة بالإنترنت، بغرض تغيير آلية بحثهم، وتسوقهم، وشرائهم للمنتجات. إذ تستخدم الشركات المُبدعة في قطاع التجارة بالتجزئة التقنيات الجديدة للخروج بابتكارات في جميع الخدمات التي تقدمها المتاجر بداية من إدارة الجرد، ومروراً بالتسويق، ووصولاً إلى الدفع.
فضلاً عن الطائرات من دون طيار التي تتولى مهمة توصيل مجموعة جديدة من الملابس الداخلية إلى عتبة منزلك، واستراتيجية شركة "آبل" المتمثلة في متاجر بيع بالتجزئة تقليدية وذات وجهات زجاجية لعرض المنتجات التي حققت نجاحاً باهراً، والخطوات الصغيرة التي تخطوها شركة "أمازون" في المسار نفسه، فهذا كله هو ما قد يمكن هذه المتاجر الكلاسيكية من الصمود في وجه التطورات. فضلاً عن ذكر المجموعة العريضة من متاجر البيع بالتجزئة المبتكرة الجديدة؛ مثل متاجر "بونوبوس" (Bonobos)، التي تمزج بين خبرات البيع عبر الإنترنت والمبيعات التقليدية بطرق إبداعية.
لا تعد عملية إعادة ابتكار قطاع البيع بالتجزئة بسيطة، وهي لا تحدث على المقياس الذي دُعيّ سابقاً "وقت الإنترنت". فبلا شك أسهم الإنترنت في إحداث بعض التغييرات بسرعة. فسرعان ما أطاح موقع "كريغزليست" (Craigslist) بالإعلانات المبوبة للصحف، وقلب اقتصاد صحف الأخبار رأساً على عقب. لكن العديد من التغييرات المرتقبة لم تحلّ سريعاً، وبعضها لم يبدأ من الأساس. يبدو أن الإنترنت، متسلحاً بميزة الإدراك المتأخر لتأثيره، سيحول الاقتصاد بوتيرة سريعة تضاهي وتيرة غيره من الابتكارات العظيمة كالكهرباء، فالتحول سيستغرق عقوداً، مع تذبذبات بين الفينة والأخرى، تماماً مثل احتضار متاجر تأجير أفلام الفيديو. فمثلاً، لم يتحول قطاع التعامل التجاري بين الشركات بشكل رئيسي إلى الإنترنت بحلول عام 2005 كما تنبأ العديد في عام 2000، ولم يحدث ذلك أيضاً بحلول 2016، لكن هذا لا ينفي حدوثه على مدار العقود القليلة القادمة.
لكن عاصفة التحول ما زالت تهب. يعد التراجع الكبير في معدل تردد المشاة على المتاجر في السنوات الأخيرة، على الرغم من عدم تزامنه مع تراجع كبير في المبيعات التقليدية، بمثابة جرس إنذار مبكر على خطر وشيك. فالمشترون يستطيعون التسوق بكفاءة أكبر عبر الإنترنت، دون تكبّد عناء البحث من متجر إلى آخر ليعثروا على مبتغاهم. إذ يوجد الكثير من مباني المتاجر الحقيقية التي يمكن للجماهير قصدها، وذلك يعد أحد الأسباب وراء انخفاض حجم هذه المتاجر وإغلاقها.
وقد أضافت نشأة الهواتف المحمولة مستوى جديداً من التعقيد لعملية إعادة ابتكار قطاع التجارة بالتجزئة. وحتى قبل 5 أعوام، واجه معظم الناس خياراً عسيراً. إما الجلوس أمام الكمبيوتر، في المنزل أو المكتب على الأرجح، وتصفح الإنترنت بحثاً عن المنتجات ثم الشراء. أو التوجه إلى المول، أو شارع التسوق الرئيسي بالمدينة، والتسوق والبحث عن المنتجات ثم الشراء. أما في زمننا الحالي، فالجميع تقريباً يمتلكون هواتف ذكية متصلة بالإنترنت معظم الوقت وفي كل مكان تقريباً. فحتى إذا قصدت زبونة متجراً، فيمكنها بسهولة البحث عما إذا كانت هناك عروض أفضل عبر الإنترنت، أو في متجر آخر مجاور أم لا.
وإلى الآن، جُل ما قام به العديد من متاجر البيع بالتجزئة الكبيرة، استجابة لهذه التغييرات، تمثل في افتتاح متاجر عبر الإنترنت بحيث يتسنى للجمهور الشراء منها مباشرة، بدلاً من الشراء عبر "أمازون، أو منافسيها الأصغر على شبكة الإنترنت. فالعديد من هذه المتاجر يواجه المشكلة نفسها التي واجهتها الصحف سابقاً. فحتى عندما تحصل هذه المتاجر على زيارات لموقعها، فهي تعاني لجني ما يكفي من الأرباح عبر الإنترنت لتعويض ما تخسره من أرباح في المتاجر التقليدية الواقعية.
يبدو أن بضعة متاجر تنجح في ذلك. فمن بين متاجر التجزئة الكبيرة التقليدية، أعربت شركة "وول مارت" (Walmart) عن تحقيقها أفضل نتائج، مؤدية إلى ارتفاع هائل في أسعار أسهمها، في حين انخفضت أسعار أسهم "مايسيز"، و"تارغت"، و"نورد ستورم" انخفاضاً هائلاً. لكن عاماً بعد عام ازدادت مبيعات "وول مارت" بنسبة 7% فقط، وهو ما دفع الرئيس التنفيذي للشركة إلى القول نادماً: "النمو في هذا المجال بطيء للغاية". يتمثل جزء من المشكلة في أنه بعد عقدين تقريباً من تسجيل "أمازون" براءة اختراع "الشراء بنقرة واحدة" (one click)، أصبحت تجربة الشراء والتسوق من متاجر التجزئة عبر الإنترنت محفوفة بالصراعات. عمدت دراسة حديثة إلى تصنيف ما يربو عن 600 من متاجر البيع بالتجزئة عبر الإنترنت، من حيث سهولة هذه المتاجر على المستخدم في التسوق والشراء والدفع. والجدير بالذكر، أن نصف المواقع تقريباً لم تحصل على تصنيف ناجح، و18% فقط منها حصلت على تصنيف "أ"، أو "ب".
ومن الصعب أن تتوافق علامات الاضطراب الحادث على أرض الواقع الذي يصيب المتاجر التقليدية مع بيانات "المكتب الإحصائي". وللأسف، أحد أسباب ذلك هو أن بيانات "المكتب الإحصائي" بخصوص متاجر البيع بالتجزئة غير جديرة بالثقة. كشف بحثنا المضني حول هذه البيانات، وطريقة إعدادها عن مشكلات خطيرة. إذ يبدو أن "المكتب الإحصائي" يخطئ في تصنيف قطاع كبير من المبيعات التي تتم عبر الإنترنت. ومن المؤكد أن إجراءات معالجة البيانات في "المكتب الإحصائي"، التي تجمع مبيعات الإنترنت للمتاجر الكبيرة التقليدية؛ مثل "وول مارت" مع "منافذ بيع التجزئة غير القائمة على متاجر؛ مثل عربات الطعام، من شأنها أن تُخفي التغييرات الكبيرة التي تطرأ على كل فئة من فئات متاجر البيع بالتجزئة. يمكن أن يعرض "المكتب الإحصائي" - بسهولة - بياناته بطريقة أخرى أكثر إفادة، لكنهم قرروا ألا يفعلوا ذلك.
وبالرغم من الاضطراب الذي يزعزع المتاجر التقليدية، فإنها لن تختفي في وقت قريب. الأسئلة المهمة حول نجاح شركات البيع بالتجزئة هي: أي من هذه المتاجر التقليدية الكبيرة - إن وجدت - ستظل صامدة في السوق خلال عقد أو عقدين إذا نجحت في عملية إعادة ابتكار نفسها، وما الشركات الجديدة الصاعدة التي ستشغّل المتاجر المزدحمة في الشارع التجاري الرئيسي بالمدينة، وحتى وحتى في مولات التسوق، وما التغييرات التي ستطرأ على عملية التسوق والشراء في كل فئة من فئات متاجر البيع بالتجزئة. يجب على المستثمرين ألا يتخلوا عن نموذج المتاجر التقليدية، وألا يخرجوها من الخدمة. أما بخصوص ما إذا كان يجب عليهم الرهان على نجاح شركات البيع بالتجزئة التقليدية التي تُدير المتاجر الآن أم لا، فهذه مسألة أخرى.