يُعتبر مصطلح العمل "خارج منطقة الراحة" تعبيراً لطيفاً؛ لكنه في الواقع المؤسسي يعني "مواصلة العمل رغم التحديات"، فرحلة الابتكار شاقة.
وفي الواقع، وجدتُ أن كل مؤسسة تهتم بالابتكار مليئة بالأشخاص الذين يعانون معاناة حقيقية، ولا تنطوي معاناتهم على الشعور بالتوتر أو القلق أو ضغط المواعيد النهائية أو الانزعاج فقط، بل على الألم أيضاً، أي الإجهاد الجسدي الناجم عن السهر المتواصل لاختبار إعدادات موقع الويب قبل إطلاقه مثلاً، أو الألم العاطفي الناجم عن تحجيم رؤيتك للابتكار لصالح تفضيلات العملاء. ومن المحبّذ في الواقع أن يتحمّل المبتكرون هذا الألم لكيلا يضطر عملاؤهم وزبائنهم إلى مواجهته.
أطلقت الرابطة الدولية لدراسة الألم (International Association for the Study of Pain Management ) تعريفاً للألم بأنه "تجربة حسية وعاطفية غير مريحة"، وهو يتناسب مع الإحساس السائد لدى المبتكرين على مستوى العالم. وتوضح ثقافات الابتكار في شركات مثل جوجل وسامسونج، وآبل بقيادة ستيف جوبز، وإنتل بقيادة أندي غروف، أن المبتكرين الناجحين يمتلكون عتبات عالية لتحمّل الألم. وتكثر الأمثلة بالفعل عن تجارب قادة تلك الشركات الحسية والعاطفية غير المريحة، على الرغم من وجود العديد من اللحظات المليئة بالمرح والحماس بالفعل. في الواقع، لا تقتصر قيادة الابتكار على استخدام العبارات المبتذلة التي تحتفي بالقدرة على الإبداع، أو الوصول إلى رؤى مقنعة، أو استغلال القدرات الكامنة للأفراد، بل تتعلق بمساعدة المبتكرين على التغلب على التحديات بنجاح؛ ولا يعني ذلك بالضرورة تحمّل الألم.
ويجب ألا يكون هذا مفاجئاً، فمواجهة الألم جزء لا يتجزأ من معظم المساعي البارزة الأخرى. على سبيل المثال، يخضع الرياضيون والراقصون العالميون لتدريبات مكثفة للتحمّل حتى بعد تعرضهم للإصابة. ويُتوقع من العاملين في القوات الخاصة، مثل قوات البحرية الأميركية، التعايش مع الظروف الصعبة والتحديات. ويمكن القول إن إحدى نقاط الضعف الرئيسية للتعليم الرسمي في مجال الأعمال والتقنية هي عدم تضمين مهارات الوعي الذاتي المنضبط حول كيفية إدارة الألم في الثقافة أو المنهاج الدراسي. لكن يُدرك المبتكرون البارزون حقيقة أنهم من المحتمل أن يؤذوا أنفسهم و(أو) زملاءهم في أثناء سعيهم نحو التميز في مجال الابتكار ويتقبّلون تلك الحقيقة بالفعل، على غرار نظرائهم الرياضيين. لاحظ جوزيف شومبيتر، المعروف بفكرة "التدمير الإبداعي"، "أن الابتكار الناجح يتطلب إرادة قوية، وليس ذكاءً عقلياً فقط".
والفكرة في الواقع تتجاوز العبارات المبتذلة التي تشجع على تحمّل الصعوبات من أجل تحقيق النجاح، "لا مكسب دون ألم"؛ إذ لا يستلزم التطوير المهني بطبيعته مواجهة الألم، لكن وجوده لا يعني بالضرورة أن الشخص يحقق تقدماً شخصياً. وينطوي أحد الدروس المثيرة للاهتمام على حقيقة أن المبتكرين أصبحوا قادرين على التمييز بين "الألم الجيد" و"الألم السيئ"، وليس على كيفية الاستفادة من الألم أو تجاهله أو التخفيف من حدته. "الألم الجيد" هو الشعور بالألم والقلق المرتبطين باختبار منهجية جديدة أو تعلم تقنية جديدة؛ وهو يؤدي إلى تطوير القدرات وتعزيزها. أما "الألم السيئ" هو الشعور المزعج والمؤلم بوجود خطأ ما، وأن مواصلة السير في الاتجاه نفسه سيزيد الأمور سوءاً. الألم الجيد يشبه العدّاء الذي يكافح لتحسين أدائه بعد ركضه 10 كيلومترات في أثناء التمرين؛ في حين أن الألم السيئ هو ألم حاد يشير إلى إصابة خطيرة، مثل شد في الوتر. ويدّل أحد الألمين على أن التحسينات الجديدة تجري على قدم وساق؛ في حين يدلّ الآخر على ضرورة أن يراقب الشخص خطواته بعناية.
الألم ليس مجرد شعور بالتوتر أو عدم الراحة أو القلق، بل هو رد فعل. ويفهم المبتكرون الناجحون بالفعل الأنماط التي تتكرر في تجاربهم الشخصية المؤلمة ومدى قدرتهم على تحمّلها، تماماً مثل الرياضيين الناجحين. وتُعد القدرة على التمييز إن كان الشعور بالألم الخفيف بداية مشكلة ما أم إشارة إيجابية على تشكيل ذاكرة عضلية جديدة العامل الذي يفصل بين الأداء المتميز والعادي. في الواقع، يمكن للمبتكرين المتطورين تحديد إن كان الألم الذي يشعرون به سيؤدي إلى نتائج إيجابية أم لا لأنهم اعتادوا على تجاوز حدود كفاءاتهم وقدراتهم، تماماً مثلما تعلّم الرياضيون المتميزون كيفية التمييز بين "الألم الجيد" و"الألم السيئ" وضبط أدائهم وفقاً لذلك.
ويُعد الإدراك عاملاً أساسياً. على سبيل المثال، كان المصممون المتخصصون في مجال التصميم الصناعي في إحدى شركات الإلكترونيات الاستهلاكية العملاقة يعانون بسبب مطلب من إدارة التسويق الجديدة، حيث طُلب منهم قضاء وقت أطول في الاستماع إلى العملاء ومراقبة احتياجاتهم. استند نهج فريق التصميم البارز على التقاليد الإيطالية للتصميم التي تركز على تلبية احتياجات العملاء دون إشراكهم في العملية؛ وكان التصميم التشاركي مرفوضاً بالنسبة إليهم؛ وفشلوا في أداء المهمة. كانت معناتهم حقيقية بالفعل، لكن من الناحية الاستراتيجية والثقافية، كان يجب على الشركة إجراء تغيير شامل على نهجها في التصميم. فوظّف الرئيس التنفيذي موجهين ميسّرين لإدارة ورش عمل التصميم التشاركي مع العملاء، بدلاً من تهديد قادة فريق التصميم أو استبدالهم. وبالفعل، أُعيد تدريب هؤلاء المصممين المتطورين وتوجيههم للتركيز على التعاون المباشر مع العملاء. واجهت عملية التحوّل مقاومة من بعض الأشخاص بالطبع، لكن عندما أدركت الإدارة أن تلك المقاومة ناجمة عن المعاناة بدلاً من الرفض المطلق، منحها ذلك الإدراك حافزاً للاستثمار في تطوير موظفيها. وأتاح تدخل الموجهين فرصة اختبار الألم الجيد، وهي خطوة أثبتت نجاحها بالفعل.
باختصار، إذا لم تناقش مؤسستك التحديات التي تواجه الموظفين في عملية الابتكار في أثناء سعيهم لخلق قيمة جديدة بطرق جديدة، فقد يؤدي ذلك إلى تشخيص خاطئ للمشكلات وعدم فهم العوامل الحاسمة في ثقافة الابتكار. ما رأيك في الطبيب الذي يناقش كل شيء عن المرض وعلاجه باستثناء الألم الذي يسببه؟ (لم يكن تدريب الأطباء على إدارة الألم جزءاً أساسياً من مجال التدريب الطبي والعلاجي قبل 20 سنة تقريباً، إلا أنه أصبح جزءاً لا يتجزأ من خطط العلاج اليوم). هل يمكنك التمييز بين "الألم الجيد" و"الألم السيئ" في مجال الابتكار في مؤسستك؟ هل تتجاهل مؤسستك آلام الابتكار التي ينبغي لها التعامل معها بجدية؟